الإنسان بطبعة كائن مجبول على الإيمان أياً كائن نوعه، بدءًا من أصغر الأمور إلى أعظم المعتقدات، وبين هذا كله يصادف أن يؤمن البعض بالخزعبلات التي لا قيمة لها كنوع من التغيير، كأن تعتقد مثلاً بأن بعض الألوان جالبة للنحس فتجتنبها، أو أن بعض الشوارع لا ينبغي عليك السير بها حتى لو كان في ذلك اختصاراً للوقت لكنك ترفض سلكها إيماناً منك بأن تلك الشوارع ملعونة، أو كما كان بعضاً منا في طفولته يظن أن ترديد كلمة "جن" مراراً كفيلة بجلبهم إليه، أو أن ظلالنا قد تنسلخ منا على حين غفله وتستحيل إلى غول.على أية حال عليّ الاعتراف صراحةً بأني ورغماً عني قد أكون من أولئك السذج التافهين المؤمنين بالخزعبلات التي لا معنى لها، عميقاً عميقاً في اللاوعي قد أكون أحمل كمية مهولة من الإيمان بالخرافة، ومن تلك الخرافات لعنة كلمة "ملل" التي ما أن تُنطق حتى تجرف عقبها سيلاً من الأعمال التي لا طاقة للمرء بها، ولأني نسيت من فرط _اللاعمل_ المصاحب لأيام العمل في زمن كورونا لعنة هذه الكلمة، فقد تفوهت بها مراراً على مدار الأسبوعين الفارطين، وكما تقول اللعنة فقد جاء السيل، ولأننا في زمن الكورونا فإن ما حصلت عليه جراء اللعنة كان أشبه بعمل _الحانوتي_ لا عمل الأخصائي الاجتماعي، حيث بدأت الاتصالات شبه اليومية تردني وفي أوقات مختلفة بعضها من رئيس التمريض أو أحد طاقم التمريض وبعضها من الأطباء من القسم الذي أغطيه وكلها تحمل ذات الرسالة (حالة وفاة)، على مدار الأسبوع المنصرم لم يكف هاتفي عن استقبال الاتصالات المفزعة حتى في آخر الليل ولذات السبب، تملكني الذعر في المرة الأولى حينما رأيت اسم القسم يضيء شاشة هاتفي حتى دون أن أخمن سبب الاتصال فقط التوقيت كان سبباً كافياً للذعر، والآن وبنهاية الأسبوع الأسود ومع الاتصالات اليومية التي تلقيتها أصبح جُل ما اتمناه هو أن يكون سبب الاتصال لاحقاً على غير ما أظن، كأن يكون السبب مريض مجهول الهوية أو رافض للعلاج أو بلا أقرباء مثلاً، لكن مع الأسف كل الاتصالات كانت تردني بذات السبب المفزع في كل مرة، وفي كل مرة كان لزاماً عليّ أن استعيد رباطة جأشي وأن أحمل تلك الأخبار السيئة على كاهلي وأوصلها لأهل المريض، دون أن أغفل عن التحلي بأخلاق _الحانوتي_ أو بمعنى آخر أن ألقي مشاعري جانباً وأتصرف بمهنية أكثر تحت شعار (تعاطف أقل، مهنية أكثر) ولا أعلم صراحةً كيف أحقق هذه المعادلة، أو كيف أبطل هذه اللعنة التي حلت عليّ بمعنى أصح جراء ثرثرتي الغير مبررة.
الأمر صعب جداً ومعقد، وعلى ما يبدو فإن كل النظريات والمداخل العلاجية وكل الدورات المتعلقة بمهارات إيصال الأخبار السيئة لا قيمة لها في هكذا مواقف، خصوصاً عندما يكون المتوفى مصاب بفايروس كورونا، كيف لك أن تهون من مصاب ذويه وتقنعهم بضرورة الموافقة على إجراءات الدفن الاحترازية في حين أنهم غير مصدقين لكل ما يجري حولهم، وفي حالة من الإنكار من هول الصدمة، ولا لوم عليهم في ذلك بطبيعة الحال، لكن وقع التعامل مع هذه المواقف يبقى ثقيلاً ويحفر عميقاً في الذاكرة كجرحٌ يطول ولا يزول، هكذا مواقف تشعرك بالذنب على الدوام وبأنك لا تمثل سوى تلك الشخصية الشريرة في الأفلام والتي تلقي بظلالها السوداء على المكان وتجلب الخراب دونما أن يرف لها جفن، وكأنك الجوكر في نسخة The Dark Knight 2008، أو فيتو كورليوني في The Godfather 1 على أحسن تقدير، إن نظرات أهل المريض وهم يتابعون ما تحاول أن تشرحه لهم تخترقك كالطلقات وتوجه إليك أصابع الاتهام وكأنك المسؤول الأول عن ما حدث، وقد يتفاقم لديك مع ذلك كله أحساس عظيم بالخزي جراء ما كبت من تعاطف أثناء محاولاتك البائسة في إدعاء المهنية، ولا عزاء لضيقك و اختلال توازنك على أية حال.
وبالعودة للخرافة فإني قررت أن لا أتفوه مستقبلاً بكلمة "ملل" حتى لو كلفني ذلك هدر 8 ساعات من يومي في التحديق بفتحات التهوية المركزية دون أي عمل يذكر، فأي شيء وحتى _اللاعمل_ سيكون أهون عندي من عمل الحانوتي هذا؛ لكن الخوف من استمرار تمثيلي لهذا الدور الشرير حتى مع توقفي عن ترديد الكلمة الملعونة، عندها لا شيء سينقذني مما أنا فيه وسأستحيل إلى كائن آلي مبرمج وإلى الأبد.
”على قلبي مشيتُ،
كأنَّ قلبي..
طريقٌ، أو رصيفٌ، أو هواءُ
فقال القلبُ: أتعبَنِي التماهي
مع الأشياء،
وانكسر الفضاءُ“*محمود درويش
أنت تقرأ
مذكرات اخصائية اجتماعية
Tiểu Thuyết Chungهنا سرد لليوميات العادية لاخصائية اجتماعية بسيطة، في محاولة لاستعادة التوازن في كل يوم.. ومواجهة كل التحديات بصدر رحب.. هنا أنا: من يواسي نفسه.