مضى أسبوعان منذ قرار تعليق جميع الأنشطة والفعاليات والأعمال كاإجراءات احترازية للحد من تفشي فايروس كورونا؛ لكننا كاعاملين في المجال الصحي غير معنيين بهذه القرارات بل نحن خط الدفاع الأول أمام الفايروس، الأمر الذي يحتم علينا الوقوف والمواجهة، حتى لو كنا مجرد إداريين أو أخصائيين اجتماعيين في المجال الصحي.
في بداية الأمر وقبل تسجيل حالات إصابة في البلاد كنا نعد المنشورات التوعوية من جهتنا كقسم للخدمة الاجتماعية الطبية، وكنا متحيرين فيما نعد وما نكتب وكانت منشوراتنا محتشمة، وذلك لنقص المعلومات من جهة ولكوننا فعلياً لا نعرف ماهية الخطر المحدق بنا وما الذي سنواجهه من جهة أخرى، ومضت الأيام وظهرت حالات إصابة بالفايروس في البلاد وتزايدت الأرقام مع مرور الأيام، وبدأت الإجراءات الاحترازية تصبح أكثر صرامة، وأفاق الناس من استهتارهم ليدركوا أن الأمر أزمة حقيقية لا تحتمل التهاون من الجميع.
وشيئاً فشيئاً بدأت مدينتي خاوية من سكانها وأصبح نهارها كأنما نهار رمضان وكُل لياليها هي ليالي الآحاد، وكأن شوارعها المزدحمة ليل نهار ذهبت في طي النسيان، أصبحت أقطع الطريق للمستشفى في أقل من 20 دقيقة عقب أن كان يتسغرق مني قرابة الساعة..
وبالحديث عن المستشفى فإن الأمر لا يخلو من الكآبة بأي حال من الأحوال، المكان الذي كان يعج بطلاب الطب وغير ذلك من التخصصات أصبح خاوياً تماماً من أي حركة، وساكن بصورة مخيفة وكأنه مبنى من مباني أفلام الرعب، ولكن الحق يقال فإن العمل قائم فيه على قدم وساق من خلال إعداد كل الإجراءات والتهيئة اللازمة للتعامل مع هذه الأزمة.
وعلى هامش المكان وخارج كل الحسابات الاحترازية من صحية و فنية ولوجستية وفي عالم موازي آخر.. يقبع في آخر النفق وبعيداً عن حساسية الأمور (قسم الخدمة الاجتماعية الطبية) والذي ما إن دقت أزمة فايروس كورونا ناقوس الخطر، حتى تلاشى تماماً من على خارطة الأقسام المؤثرة في المستشفى، ولم يعد له فعلياً أي دور يذكر، لا أحد يدعوا رؤسائنا في الاجتماعات المصيرية، ولا أحد يُعلِمُنا بزمان ومكان الفرضيات التي تقام للتدريب على كيفية التعامل مع المرضى المصابين بالفايروس، ولا أحد يشعر بضرورة تعليمنا على أساسيات المحاكاة السريرية في مثل هذه الأوقات، ولأننا مسلحون بالجهل من الجانب الطبي والفقر من الجانب الأكاديمي من جهة، ومهددون بسلاح الحسد من قبل الموارد البشرية وإصرارهم على ضرورة تواجدنا في المستشفى دون أي أهمية من جهة أخرى، قررنا ضمنياً بيننا كأخصائيين اجتماعيين مقصيين ومنسيين ومعرضين في أي لحظة للخطر.. قررنا أن نحضر للمستشفى وأن نلزم مكاتبنا حتى لا نرتكب أي حماقة تعرضنا وتعرض من حولنا لخطر انتقال العدوى، فمن ناحية نحن نملك عائلاتنا ونخشى أن ننقل لهم العدوى من فرط التهميش والرعونة التي يتم معاملتنا بها داخل المستشفى، ومن جهة أخرى حتى لو فرضنا أننا سنرتدي كل الملابس الوقائية التي تمكننا من السير والتجول والوقوف على حالات المرضى دون أي مخاطر لإحتمالية انتقال العدوى، يبقى السؤال الجوهري أيهما أهم في هذه الحالات الحرجة؟
- تقديم الرعاية الصحية اللازمة لمن ثبتت إصابته أو أشتبه بإصابته بفايروس كورونا...؟
- أم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والمعلومات اللازمة حول المرض للمرضى المنومين والمراجعين والتقليل من حالات الهلع لديهم...؟بالنسبة لي وللكثير من زملائي الأخصائيين على ما أعتقد فإنه لا وجه للمقارنة بين الأمرين، وبالتأكيد فإن الرعاية الصحية هي الأهم، ثم إن تواجدنا في الميدان لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي دون فائدة على الصعيد الطبي سيكلف المستشفى خسائر في المعدات الطبية الوقائية _التي سنهدرها دونما طائل_ والتي لربما في وقت لاحق سيبحثون عنها بماء أعينهم ولا يجدونها، لذا وكما أسلفت قررنا ضمنياً معشر الأخصائيين الاجتماعيين الطبيين أن نمارس الحجر المكتبي، وياله من أمر مضني وخانق على شخص أعتاد العمل الدؤوب على شتى الأصعدة، بتنا وكأننا نأتي من منازلنا يومياً إلى السجن، نعزل أنفسنا عن كل شيء وكأننا مصابون فعلياً.. من فرط حرصنا على سلامتنا وسلامة من حولنا؛ ولأن هذا هو كل ما بحيلتنا في الوقت الراهن، كل ذلك لنرضي غرور قسم الموارد البشرية الذي يرى بأننا ممارسين صحيين ويتوجب أن نتواجد في المستشفى على الدوام، وياله من فخر لو تفشى الفايروس بسبب تواجدنا المهمل على جنبات المستشفى نمارس تقوقعنا المهمل ونوقع حضورنا المهمل بقلم واحد وكأننا أبناء أحياء الصفيح..!
سيصفق لنا العالم ويكرمنا عقب إنتهاء الأزمة لأننا وقعنا في دفتر الحضور ولم نتغيب يوماً واحداً عن العمل، ولا بأس لو نشرنا القليل من العدوى هنا وهناك، نحن حالياً نمثل نموذج الطالب المهزء في أزمنةٍ مضت والذي كان يمارس عليه التعنيف ويطلب منه أن يلتزم بالحضور وأن يشارك ويتفاعل دون أن يصدر منه أي نفس..!
أنا لا أجد أي منطق إطلاقاً في وضعنا هذا، ويكاد قلبي ينفجر من غيضه على البيروقراطية الساذجة والمتفشية حولنا في كل شي.
أتمنى أن تمُر الأزمة بسلام دونما أضرار كارثية، لأنه إن حدث ما لا أرجوه فسيكون حدوثه من فرط الحماقة والبلادة الجماعية.
والله المستعان...أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي ولكم...
أنت تقرأ
مذكرات اخصائية اجتماعية
Ficção Geralهنا سرد لليوميات العادية لاخصائية اجتماعية بسيطة، في محاولة لاستعادة التوازن في كل يوم.. ومواجهة كل التحديات بصدر رحب.. هنا أنا: من يواسي نفسه.