المذكرة رقم (2) : ثقافة النسخ

142 9 4
                                    

كان يوم عادي من الأيام العادية لحياة الاخصائية الاجتماعية، استيقظت في ذلك اليوم قبل الفجر بقليل على رسالَتيِ "واتساب" من زميلاتي _في تزامن عجيب_ تخبرني كل واحده منهن بأنها لن تحضر للعمل، همست لنفسي: هذا اليوم سيمضي.. ونهضت من سريري، ذهبت مبكره لعملي كعادتي، استرخيت على الكنبة فور وصولي _كعادتي أيضاً_ ثم شرعت متثاقلةً بكتابة قائمة المهام التي سأوديها في ذلك اليوم.
ومضت الساعات وانتصف النهار لأذهب في جولتي اليومية لتفقد المرضى المنومين في القسم الذي أغطيه وعند عودتي شرعت في إدخال الحالات على النظام كما هو معهود، ثم وفي خضم نقاشي مع زميلة لي قَدِمت لمكتبي بعد منتصف النهار بقليل.. ظهر من العدم فجأة مديري واقفاً أمام المكتب، وضع بين يدي مذكرة لاتفاقية وقال: نريد تفعيل هذه الاتفاقية.. واختفى.. لم أفزع من ظهوره واختفائه المفاجئ كما كنت قبلاً، بعد تقليب فاحص للورقتين التي وضعها بين يدي وعلامات الدهشة باديةً على محياي.. قلت لزميلتي: بربك هل فهمتي شيئاً من شيء!؟. أخذت الأوراق وتفحصتها وحاولت أن تبدي بعض الأفكار لتفعيل الاتفاقية حسب وصف المدير، وكانت حيرتي في أنه كيف بالإمكان أن نضع أنفسنا في مذكرة تعاون ليس لنا مكاناً فيها؟!
ومضى ذلك اليوم العادي ومن حسن الحظ بأنه كان يوافق نهاية الأسبوع، لأستريح من الطلبات والأوامر الغريبة والمهمات التي يلقيها مديرنا أمام مكتبنا ويرحل.. بعد إجازة نهاية الأسبوع ومع أول يوم في الأسبوع الموالي عاود المدير السؤال بإلحاح عن الاتفاقية وماذا أنجزنا فيها، كنت احتاج أن أفهم ماهية هذه الاتفاقية وأين هو محلنا فيها، لذلك دون تردد سألته:
* ما هو موقعنا فيها؟
ليجيبني وكأنني لا أعرف ماهو اسم القسم الذي أنا فيه..
- اكتبي أنه قسم الخدمة الاجتماعية الطبية يرغب بالتعاون...
قاطعته..
* لكن لا يوجد بند أو فقرة في أي بند بإمكاننا استغلالها والاستفادة منها حيث أن الاتفاقية بين طرفين لا يمتّون لقسمنا بصلة ولم يعرجوا على ذكر اسمنا لا من قريب ولا من بعيد..
ليجيب ببلاده..
- شيلي اسم الطرف الأول واكتبي اسم مركز... وشيلي اسم الطرف الثاني واكتبي اسمنا وبس.
استغربت..!! وحاولت أن انتشلني من حيرتي..
* تقصد أننا لن نعمل على هذه الاتفاقية؟!
- لا.. لا.. نحنا بنسوي زيها بس.
كان لديه موظف من القسم وعلى عكس ما يبديه مظهره من عدم اكتراث بأي شيء تدخل وأبدى رأيه بكل حكمه، حيث اقترح أن من قام بإيصال أوراق هذه الاتفاقية بغرض القيام باتفاقية مماثلة هو من يتوجب عليه القدوم لمكتب المدير وشرح فكرته ليتم مناقشة آليه تنفيذها.. لكن المدير قاطعه قائلاً..
- لا لا خلاص نسوي زيها وبس، شوفوا سهله.. نشيل اسم... ونحط اسم مركز... ونشيل اسم... ونحط اسمنا وبس، بعدين فلانه ما تعرف تسوي شيء هيا بس تجيب الاتفاقيات والشغلات هذي وبعدين الآدمية عندها علاقات..
اتسعت حدقة عيناي من وقع السطحية التي تكلم بها، الاتفاقيات ومذكرات التعاون تحتاج إلى اجتماع طاقم من الاستشاريين القانونيين والإداريين والمحاسبين كذلك، لوضع وتفنيد بنودها حتى تؤدى لاحقاً بين الطرفين دون أدنى إخلال أو عدم فهم من كليهما؛ لكنه جعلها وكأنها قطعة قماش تلقي بها لخياط الحي مع قطعة آخرى جاهزة سلفاً لتقول غير آبه بأيٍ من خطوط الموضة.. "شوف صديق سوي سيم سيم".. وكذلك فعل حين ألقى ببساطة الاتفاقية بين يدي وطلب مني تقريباً نسخها _أنا السواق الجديد _ الذي لم يعد يفهم شيء من شيء..!!
كان أهون علي لو قال نريد نسخ هذه الاتفاقية منذ البداية، ثم إن "فلانه" _الموظفة التي جلبت الاتفاقية_ بادئ الأمر، لم تكلف نفسها عناء النسخ والذي كان سيظهرها بمظهر الموظفة الاخصائية الفذه المطلعة على كل ماهو مفيد للقسم وتنميته؛ ولكنها بكل لامبالاة رمت ما سرقته في وجه مديرها الجديد مدّعيه أن قيامنا باتفاقية مماثلة سيعزز من مكانتنا ويعلّي شأننا، قد تكون الاتفاقية في جوهرها جميل خصوصاً وأنها تعزز جانب البحوث والدراسات؛ لكن أن يتم سرقتها من أطراف أخرى ومحاولة نسخها من أجل إضافة طابع أكاديمي مرموق، ولإضافة صور الخبر في الصحف المحلية والتباهي به لاحقاً، دون اكتراث بالقيمة الفعلية، لهو أمر يدعو إلى الاشمئزاز..
خرجت من مكتب المدير بعد أن قلت له في يأس مطلق.. وبنبرة صوت عبلة كامل حين تحبط:
* طيب نشوف كيف..

خرجت وأنا كل ما أفكر فيه هو "فلانه" سراقة الأفكار، حيث أن هذا ليس أول موقف تُظهر فيه انتهازيتها وعدم مبالاتها المفرطتين، حيث قامت بموقف مماثل الأسبوع الذي سبقه حين خرجت بفكرة تنظيم فعالية كبيرة مع جهة آخرى ودعت ممثل الجهة الأخرى للاجتماع مع مدير ق...

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

خرجت وأنا كل ما أفكر فيه هو "فلانه" سراقة الأفكار، حيث أن هذا ليس أول موقف تُظهر فيه انتهازيتها وعدم مبالاتها المفرطتين، حيث قامت بموقف مماثل الأسبوع الذي سبقه حين خرجت بفكرة تنظيم فعالية كبيرة مع جهة آخرى ودعت ممثل الجهة الأخرى للاجتماع مع مدير قسمنا ليحضر، ونفاجئ حين حضوره بأن الجهة التي ينتمي إليها قد أعدت كل شيء سلفاً، وأنه ليس لنا مكان في تنظيم هذه الفعالية، لكنها احضرته على كل حال في محاولة للضغط عليه وإحراجه لكي يضم اسمنا في التنظيم، ولم تكتفي بذلك بل كُلفنا بسبب انتهازيتها بأعمال تنظيم ومتابعة إجراءات اعتماد الفعالية التي بالأصل نحن لا نملكها، وهي مهمة شبه مستحيله.
بدأت أكرها وهي الموظفة القادمة حديثاً للقسم حيث لم يمضي على قدومها أسبوعين، أسبوعين فقط أثبتت خلالها أنها سارقة أفكار وانتهازية.. ماذا ستفعل بعد سنة..!؟
مضى اليوم بخيره وشره.. وفي اليوم الموالي وقبل أن أشفى من إحباطي الذي زاد لفرط ما رأيت من عدم اكتراث وفوضوية في اقتراح وتنفيذ الأفكار _المسروقة_ سلفاً، وقبل أن أنسى الحوار الساذج الذي أجريته مع المدير في اليوم السابق.. فجأة ظهر على باب مكتبنا من العدم مع شخص آخر ضخم لم أميزه في البداية، لكن عرفت لاحقاً أنه مدير قسم آخر وقفا على باب المكتب وسئلا:
- أين الكتاب الذي يشبه هذا؟
كان المدير الآخر ممسكاً برسالتي للماجستير والتي كانت في مكتب مديرنا وأخذ يشير إليها..
- زي كذا.. زي هذه..
نظرنا إليه والدهشة تعلو وجوهنا لم نستطع الرد من هول الصدمة، كان وكأنه ممسكاً بكيس لرقائق البطاطس ويبحث عن ما يشبهه..!!
ثم تأكد إليّ أنه ينظر للدراسة الأكاديمية بهذه النظرة العبثية حين أردف عقب سؤاله عن الكتاب:
- لو ما لقيتوه ليا حقفل لكم هذا الدكان..
دكان..!!! مكتب لاخصائيات جُلهم حاصلات على الماجستير وبدراسات علمية منشورة، تنظر لهم بكل استخفاف الأرض ولجهودهم بهذه الكيفية..!!
ما زاد حنقي بأني أعرف بأنه سوف يستنسخ أكبر عدد من البحوث والدراسات الممكنة _من ضمنهم دراستي_ ليقدمها على هيئة رسالة للماجستير الذي يعده، كمن يعد طبق محشي مع شوربة كوارع..
اعتقد أني لن أتجاوز ذلك الموقف قريباً، محزن جداً أن ترى من هم يعتلون مناصب قيادية وكل همهم هو مظهرهم ومكانتهم الاجتماعية دون أي اعتبارات لأي شيء، مشرعين لأنفسهم كل شيء، في سبيل الوصول لغاياتهم، السرقة معادلة سهلة، والاستلال حلال، والبقية حولهم باعة متجولون لا قيمة لهم يأخذوا منهم ما يريدون ويمضوا..

" أيها المارون بين الكلمات العابرة..
احملوا أسمائكم وانصرفوا..
وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا..
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة
و خذوا ما شئتم من صورٍ..
كي تعرفوا.. أنكم لن تعرفوا" *

مذكرات اخصائية اجتماعيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن