المذكرة رقم (6) : الغضب الساطع

55 5 0
                                    

”كان يومًا من حياتي
ضائعًا ألقيتُهُ دون اضطرابِ
فوق أشلاء شبابي
عند تلِّ الذكرياتِ
فوق آلافٍ من الساعاتِ تاهت في الضَّبابِ
في مَتاهاتِ الليالي الغابراتِ
كان يومًا تافهًا..كان غريبًا..“ *

منذ مباشرتي لعملي هذا ومع كل يوم يمر وأنا أدرك بأن جُل ما أفعله مع تعاقب الأيام هو أني أُخزن الغضب تحت مساماتي، كما يفعل _النملُ الناري_  حين يستنفر كامل طاقته لتجميع الموارد خلال مواسم الصيف الملتهبة، استعداداً لاستهلاكها وقتما يكتسي البياض التلال النائمة.

المربك في الموضوع هو أني لا أملك حساسات لاستشعار ثورة الغضب، لا أعلم متى سأمتلئ عن آخري وأفيض كما البراكين حينما تقذف الحمم، جُل ما أعرفه بأني سأنفجر عند التفاصيل الساذجة التي لا أحد يعبأ بها أو ينتبه لحدوثها.

واليوم كان يوم من أيام المريخ يوم الغضب بلا مبرر ظاهري، وبمئات المبررات المستترة، بدأته بحادث مروري بسيط _بمثابة الافتتاحية_عند بوابة المستشفى وأكملته على مدير القسم ومن معه حينما طلب مني أمراً بسيطاً كنت سأؤديه بكامل الهدوء والسلاسة _في الأحوال العادية_ ولكنّي على غير العادة انتفضت حينما طلب مني ذلك كما الزير سالم، وحملت في يدي نسخ غير محَدْثة كانت ملقاه على مكتبي لأقذفها في وجهه و أُردف: هذا كل ما عندي.. وعدت بعدها والغضب لازال يتملكني كنت أحاول أن أسيطر عليه وكأنني ماتادور في حلبة مصارعة الثيران، خرجت بعد ذلك مسرعة كان لا بد أن أَعُبْ رئتاي بالهواء حتى أغص أو أفيق _أيهما أقرب_ أخذت أمشي ذهاباً وعودة في الممر الخارجي المحاذي للمستشفى أمشي بسرعة جنونية مشياً أقرب للركض وكأنني في منافسة مع هشام الكروج لتحطيم الرقم القياسي في سباق ماراثون 1500م، بدأت بعدها أستعيد سرعتي وتنفسي الطبيعيين وعدت أدراجي وقد هدأ بركاني عن ثورته..

”وكأن شيئاً لم يكن..
وكأن شيئاً لم يكن..
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العبثي..
والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله
يُلقي عليهم نظرةً ويمر..“ *

وبالعودة إلى أول الشريط وبداية الأحداث التي قادتني إلى التصرف بغرابة ساذجة في نهاية المطاف، فإني الملام الأول وبلا شك في كل هذا، حيث أعتدت على الرد بالإيجاب لأي طلب أو أمر يأتي إليّ من أياً كان وبالأخص من رئيس القسم، و خلافاً على أن تنفيذ أوامر المدير المباشر يعتبر أمراً مفروغا منه فإن تنفيذ طلب كائناً من كان يعد من الحماقة المحضة، ولكني في كل مرة كنت لا أرى بأساً في مساعدة الآخرين طالما أن تلك المساعدة لا تكسر فيني ضلعاً ولا تنبت لي قرناً؛ لكني أخطأت في تقديري هذا لجهلي التام بنوعية الكائنات التي اتعامل معها، والتي ما هي إلا كائنات طفيلية نزقة تستغلك لأقصاك ثم ما تلبث أن تتنكر لك، كنت طوال الفترة الماضية لا ألقي بالاً لأي حدث أو تفكير سلبي، أقدم المساعدة في كل مرة بالقدر الذي أستطيعه وأمضي.

حتى جاءت تلك الأحداث المتوالية والتي جعلتني أَعُبْ غضبي الذي أنفجر لاحقاً على حين غرة، كان أول حدث غير مباشر مجرد أحاديث متناقلة فقط  عن كوني وزميلاتي في المكتب مجرد سكرتيرات، لم أهتم بدئاً حتى أتصل مُرَوج الإشاعة في مرة من المرات ليقول: هذا مكتب السكرتارية؟ ومن سوء حظه أو حظي كنت أنا من رد على الاتصال حين قلت باستغراب: لا.. وأغلقت الخط دون أن أعقب..
مرت الأيام توالياً وبعد فترة احتجنا خدمة من أحد الأخصائيين في أمر يمس القسم أجمع وتفاجئنا حينما انفلت علينا كالثور الهائج: لماذا أنا؟ ولما لم تطلبوا ذلك من غيري؟ ومن خولكم وسمح لكم بذلك؟ تورطنا معه حينها مع الأسف دون أي فائدة تذكر، كانت ردة فعله مستفزة وعنيفة ونحن لم نكن نطلب أي أمر لأنفسنا بل لمصلحة القسم وإلا لِما نهين أنفسنا للأشخاص التافهة أمثاله..؟ لكننا على أية حال كنا مضطرين.
مضت الأيام وزادت الضغوطات علينا ممن هم من المفترض أن يكونوا زملاء وزميلات في القسم، منهم من يطلب أن نطبع له النماذج المهنية اللازمة وأن نجهز له قائمة المرضى قبل ذهابه للمرور اليومي وكأننا نعمل مساعدين لحضرته، ومنهم من يستعلم منا عن تقاريره في حال وصلت أو لا وكأننا صندوق البريد!! ومنهم من يطالب بمعرفة السكرتيرة فينا ليوجه لها أوامره دون أن يتعب نفسه بالتردد بيننا، كل ذلك وأكثر ممزوجاً بنظرات الاستعلاء والانتقاص منا وكأننا بدون..!

وفي كل مرة ومع كل موقف كنت أحاول أن أبتلع غضبي وأن أتعامل بدبلوماسية مع الكل، أحاول أن أَرد بالشكل اللائق الذي لا يخرجني عن الذوق العام ولا يعيدني لمرحلة الطيبة الساذجة، ولكن لا حياة لمن تنادي، حتى جاء هذا اليوم ليطلب مني المدير قائمة التقارير الخاصة بالموظفين، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، حينها انفجرت كما لم أفعل من قبل، أنفجرت ولا أحد يفهم لماذا !؟ من سوء حظ المدير أنه جاء ليطلب هكذا طلب في الوقت الذي يعاملنا كل الأخصائيين كا سكرتيرات لا أكثر _ليس تقليلاً من وظيفة السكرتارية_ لكن هذه ليست مهنتنا، أعتقد أن أنفجاري مبرراً نوعاً ما، وإن كان غير مفهوم لأحد لكنه مبرر بالنسبة لي، كون الشخص الذي يطلب منا كل الطلبات الغريبة والخارجة عن نطاق عملنا على الدوام هو المدير، مما جعل الأخصائيين يعتقدون أن هذا هو جوهر عملنا _كا سكرتارية_ وأنه لا عمل آخر لنا وكأننا لسنا مسؤولين مثلهم على أقسام لنغطيها وليست لدينا مهام آخرى نؤديها، ومن حماقتنا مع الأسف لم ندحض هكذا أفكار بل دعّمناها بقبولنا مساعدة أياً كان من باب الذوق والأدب.

لكن الآن وبعد كل هذا الكبت أود أن أقول لأصدقائي الأخصائيين الطفيليين:
” انسوا ما عاملناكم به سابقاً لأنه.. دا كان زمان وجبر.. واستعدوا للوجه الخشب“

وشكراً..

مذكرات اخصائية اجتماعيةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن