”عندما تخترق آخر حدود التعقل تشعر بأن التعقل يتمدد ليضم لنفسه حدوداً أُخرى يسيطر عليها الاعتياد والملل والرتابة“
*من يوتوبيا، لـ أحمد خالد توفيق
مضت حتى الآن أربع أسابيع منذ اكتشاف أول إصابة بفايروس كورونا في البلاد، ومع مرور الوقت وتزايد الحالات يومياً أصبحت الإجراءات الاحترازية تزداد صرامةً يوماً بعد يوم، بدءًا من إغلاق المدارس والجامعات وإعتماد العمل عن بعد في أغلب القطاعات، مروراً بإلغاء كل الأنشطة والفعاليات وإغلاق المجمعات التجارية، ووصولاً إلى حظر التجول الجزئي ومنع التنقل بين المناطق، وحظر الدخول والخروج من بعض المدن، كل هذا يبدو لي ضرباً من الخيال العلمي، شيئاً لم نعتد عليه قبلاً نحن الأجيال التي قرأت عن الطواعين في كتب السير والتراجم، وسمعت عن زمن الجوع من المؤرخين والأجداد، يبدوا لنا الحال الآن ضبابياً يشوبه السواد أغلب الأوقات.
عن نفسي سئمت مطالعة آخر مستجدات الفايروس، وكون العزلة ليست بالأمر الجديد عليّ فإني طورت نمطاً جديداً منها، بت أعزل نفسي في أضيق نطاق ممكن داخل غرفتي وحدي أتوحد مع هاتفي المحمول وقارئ الكتب الخاص بي، منكفئة حول نفسي ومكتفية بذاتي وبثرثراتي الذاتية، أكتب حيناً وأكتئب حيناً وأقرأ أحياناً، وأعود في نفس الاتجاه.
وبمناسبة الحديث عن الثرثرات فإني لا زلت أمارس عملي كاخصائية اجتماعية في المستشفى، إذ وبالرغم من تقليص الطاقة التشغيلية للموظفين إلى النصف إلا أننا لازلنا نمارس أعمالنا ونؤدي مهامنا والتي انحصرت حالياً في أضيق نطاق لتقتصر على الجانب التوعوي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي غالباً، المضحك أن أخر منشور توعوي قمت بإعداده مع إحدى الزميلات كان عن دور الأخصائي الاجتماعي في التعامل مع الأزمات في حين أننا أول من تأزم وضاقت به الأرض بعدما تفشى الفايروس، إننا بتنا قلقون من التواصل مع الكادر الطبي خوفاً من انتقال العدوى لنا منهم.. فكيف لنا الزعم بتقديم الدعم النفسي الذي يحتاجونه!؟ وكوننا رأينا في التوقف عن المرور اليومي الإجراء الأمثل.. فإني لم أعد أرى أي فائدة من تواجدنا داخل المستشفى بالنسبة للمرضى.. وحيث أن إدارة المستشفى لم توافق على أي من الاتفاقيات والمقترحات التي قدمها قسمنا سابقاً، والتي كانت تضمن في مجملها المسؤولية الاجتماعية وتحقيق خدمة المرضى من خلال إيصالهم بمؤسسات المجتمع المدني، فإننا الآن وحرفياً بلا قيمة فعلية على أرض الواقع، لا من ناحية تقديم الدعم المعنوي سواء للكادر الطبي أو المرضى، ولا من ناحية تقديم الدعم المادي وإيصال المرضى بموارد المجتمع المتاحة، وليس لدينا ميزانية مخصصة حتى تكفل لنا أن نتصرف من خلالها بجهود ذاتية خلال الوضع الراهن.
إنه لأمر مؤسف أن يكون جل ما نملكه حالياً هو التنظير على المجتمع بأهمية دورنا وتقديم النصائح والإرشادات من خلال قنوات التواصل الاجتماعي فقط، إنه لمؤسف حقاً أن نُثبت على أنفسنا بأننا بارعون فقط في الكلام وصفصفة النظريات والمناهج وابتكار المسميات والطرق التي لا يعول عليها على أرض الواقع، ثم نأتي نندب حظنا على اللاأهمية التي نحظى بها والتهميش وقلة الاكتراث بأدوارنا في المؤسسة، أنا لا أنكر أنه في مثل وضعنا فإن المؤسسة شريكة بتكبيل أيدينا حيث لم تدع لنا مجالاً لنشارك بشكل فعّال أثناء الأزمة، لم تحرص على تدريبنا من الناحية الطبية _تحسباً لأي أمر طارئ_ ولم توافق كما أسلفت على أي مقترح قمنا بتقديمه، والذي كان سيزيح عبئاً كبيراً عن كاهلها من خلال إيصال المرضى مباشرة بالجهات المانحة للخدمات والموارد.
لكن أنا لن أتحدث الآن وأتقمص دور الضحية إذ أثبتت هذه الأزمة لي بأني أجبن من أن أواجه المخاوف فكيف لي أن أقدم الدعم؟! قد يكون الأمر مع الكورونا مختلف كونه فايروس سريع الانتشار ومازالت كل المعلومات التي نملكها عنه عامة بعض الشيء وسبل الوقاية غير مضمونة، ربما هذه الأسباب ذريعة كافية لي ولأمثالي من الجبناء المنكفئين على ذواتهم والمكتفين بتقديم الدعم من خلف شاشات الهواتف فقط كوننا نخاف ما نجهل؛ لكنّ هذه مبررات غُير كافية ولا يعول عليها، لذا فإني ومن خلال الوضع الراهن ومع ثبوت عدم صلاحيتي الفعلية للقيام بأي شيء، أعلن إنسحابي من كل شيء، حتى تنتهي الأزمة وتمضي هذه الأيام أو أمضي..
أقول قولي هذا و استغفر الله العظيم لي ولكم،،،
أنت تقرأ
مذكرات اخصائية اجتماعية
Ficção Geralهنا سرد لليوميات العادية لاخصائية اجتماعية بسيطة، في محاولة لاستعادة التوازن في كل يوم.. ومواجهة كل التحديات بصدر رحب.. هنا أنا: من يواسي نفسه.