الفصل السابع

1K 50 3
                                    


امام غرفة العمليات تجلس ارضا و مازالت بقايا الدموع على بشرتها تغمض عينيها و كأن الحزن قد قرر ابتلاعها حتى لفظ آخر انفاسها ، شبح الفقد يلوح لها في الافق ينتظر اقتناص احبائها ، لا تقوى على الفقد مرة آخرى ، فتحت عينيها تناجي ربها بصمت و ينبوع دموع قد فاض ، دموع لم تجف رغم مرور السنوات و قد زادها ما يمر به منصور و حياة ، ابنتها التي لم تنجبها ، ابنة قلبها ، احدى عطايا الرحمن لها كي تصمد في حياتها بعد ما فقدت روحها ، و عند تلك الفكرة ، لاح بذاكرتها ذكرى يوم مشئوم ، حادث مازالت تتذكره و كأنه امس ، يوم فقدت فيه روحها ، حادث ترك بقلبها ندبة ،
ندبة مازالت تنزف براكين من نار و كأنها اقسمت ان لا تطيب ابدا ..
Flash back
زينة و شموع و اطفال يمرحون فرحين .. و كعكة عيد ميلاد كبيرة يتوسطها صورة لطفل صغير حولها 5 شمعات
و صغير متذمر ..لا يريد إطفاء الشمع إلا بوجود والده حيث هو على عهد معه ان لا يطفيء الشموع بدونه ، اما هي فترسم الابتسامة مليء شدقيها ترحب بهذا و تمازح تلك ..تتفقد الاطفال الصغار من منهم لم يأخذ حلوى بعد .. نظرت إلى صغيرها لتجده يشوب فرحته بعض الحزن توجهت اليه تدنو على ركبتيها حتي تصل الي مستواه ضمته في عناق امومي و كأنها بتلك الضمة قد امتلكت الدنيا و العالم بين يديها ، قطعة منها .. من روحها ولدها و صغيرها الوحيد الذي اراد الله الا يكون لها ولد غيره "بعد اختبارها لإحدى عمليات استئصال الرحم " و هي راضية كل الرضى بقضاء الله و قدره ، تركت له مساحه التحرك بين يديها ، تلاعب ارنبة انفه بأنفها قائلة
: حبيب قلب ماما زعلان ليه ؟ .. حد يزعل يوم عيد ميلاده كده ؟
رد عليها الصغير بحزن يقلب شفتيه للأسفل
: بابا وعدني انه هيطفي معايا السمع
ليرفع كف يده امام وجهها مردفا
: الخمسه كلهم ..و ما جاس و سكله كده هيتأخل و اصحابي هيزهقو و يمسو
اطلقت والدته ضحكة عاليه تضمه اليها بحنان قائلة
: يا روحي .. مش تزعل خلاص بابي على وصول و انا مش هخلي حد يمشي الا لما بابي يجي..
ثم رفعت كفها امام وجهه قائلة في مرح وهي تغمز له بعينيها تردف
: و كمان يطفي معاك الخمس شمعات
عانقها الصغير و قد ابدلت حزنه الى ابتسامة واسعة ، و هذا كل ما تريده هي في الحياة ، ان ترى فقط ابتسامته ، ان تراه سعيدا دائما ، عانقته بدورها قائلة
: يالا بقي روح لصحابك العب معاهم على بال ما اشوفلك الحلويات اللي بتحبها خلصت و لا لاء
ترك الصغير احضانها و اتجه نحو اصدقائه يلهو معهم ،
و لو تعلم هي انه آخر ما ستناله منه هي تلك الضمة لما تركته ابدا من بين يديها ، و لو احترق العالم بأكمله من حولها ، توجهت هي الى المطبخ تتفقد بعض انواع الحلوى التي اعدتها بنفسها خصيصا لأجله ، دلفت الى الداخل لتسأل الخادمة
: طفيتي على الصواني يا "عليا "
ارتبكت الخادمة و سقط ما بين يديها لتسرع بلهفة تلملمه من على ارض المطبخ ، دنت منها حنان تساعدها قائلة بحنانها المعهود مع الجميع
: خلي بالك ...
تعثرت عليا ، توترت كلص خائف مزعور من ان تكتشف جريمته
لتنظر لها حنان مردفه
: مالك يا عليا في حاجه تعباكي ؟ ..
نهضت بارتباك تنظر لها بصمت و عينيها تلتمع بالدمع لا تقوى على النطق و كأن احدهم اقتلع لسانها عنوة ، اسرعت حنان اليها تربت على كتفها قائلة
: في ايه بس ؟ مالك ؟ .. لو تعبانه روحي و ابقي تعالي بكره بدري ساعديني
لتلتفت لها عليا سريعا قائلة بلهفة
: لا ...
نظرت لها حنان باستغراب فاردفت عليا تمسح دموعها و قد استدركت نفسها
: ااا قصدي لا مش تعبانه انا بس قلقانه شوية على مصطفى
اومأت لها حنان تربت على كتفيها و على وجهها علامات التأثر قائلة
: ما تقلقيش باذن الله ربنا قادر يشفيه ، انا بلغت منصور قبل سفره هو ليه معارف دكاتره كتير ، هيسأل و يطمنك بامر الله
ثم اردفت بابتسامتها الحنون
: باذن الله ربنا يشفيه و تشوفيه عريس اد الدنيا
اومأت لها عليا تشكرها ثم ذهبت الى عملها في شرود ، خرجت حنان تتفقد الصغير ، علت همهمات الكبار و صراخ الصغار زعرا حين قطع التيار الكهربائي لتنادي حنان بأعلى صوتها على صغيرها بقلب ام يرتجف خوفا
: مازن ؟ .. مازن ؟
فهي تعلم انه يخاف الظلام ، يهابه حد الكره ، تمشي بحذر بين الأطفال كى لا يتأذي احدهم ، تطمئنهم تارة و تنادي الصغير تارة
: ما تخافوش يا حبايبي .. مازن .. مازن ؟
ليأتي التيار فجأة و ياليته ظل الظلام و عاشت ما بعد ذلك فاقدة للنور و الحياة ، على صياح الصغاار فرحا ، انقبض قلب حنان و هي تمشط الاطفال بعينيها باحثة عن ولدها بينهم و لا تراه اشتدت خفقات قلبها تزلزل صدرها ، ارتجف جسدها خوفا و قلقا
بحثت عنه فلم تجد له اثر و كأنه قطرة مطر تبخرت مع طلوع شمس حارقة ..شمس غربت عن حياتها منذ ذلك اليوم لكنها تركت حرقتها بقلبها ،ظلت تبحث و تبحث ، حتى استمر  البحث لاكثر من 25 عام و منذ ذلك اليوم و هي فقدت الروح ، حادث اختفاء صغيرها يوم عيد مولده لا يزال يدمي قلبها .. يشطره بين الحينة و الاخرى الى نصفين ..
Back
عادت من ذكرياتها على صوت فتح باب غرفه العمليات و خروج احدى الممرضات مسرعه شبه مهروله لتنهض حنان من الارض تتعلق بسراب امل ، تناديها بلهفة
: لو سمحتي .. الحالة اللي جوه ...
قاطعتها الممرضة قائلة و هي تتخطاها سريعا
: ادعوله يا جماعه ..الحاله محتاجه دم و فصلية دمه مش موجودة في المستشفي ..
صرخت حنان باكية تضع يديها على فمها تكتم صرخات قلبها الملتاع ، ترنحت في عدم اتزان . تشعر و كان احدهم يسحب الهواء من حولها ، يضيق عليها الدائرة فتختنق شيئا فشيئا
نهضت سارة تسندها حتى جلست ، تبكي هي الاخرى بدورها قائلة
: اهدي يا طنط .. ان شاء الله هيبقي كويس ..انا هنزل وراها اشوف عملت ايه
تركتها ترثي رماد قلبها و ذهبت خلف الممرضة ..
___________________________________
وصل قصي بسيارة يوسف امام المشفى ترجل منها نحو باب الاستقبال يسئل موظف الاسقبال باهتمام قائلا
: بعد اذنك .. في واحد جه من شوية في حادثة هنا
نظر الرجل بلا مبالاه روتينيه الى الدفتر الكبير امامه ثم رد قائلا
: ايوه منصور محمد المنياوي
سأله قصي عن مكانه تحديدا فأجابه الموظف
: هو تقريبا في العمليات دلوقت ، الدور التالت الممر اللي على اليمين
شكره قصي يتوجه بخطوات سريعة نحو الدرج صاعدا الى الطابق الثالث يتبعه يوسف ليستوقفه صوت فتاة تزعق باحدهم في غرفة ما ، على بابها يافطة "بنك الدم " قائلة
: يعني ايه فصيلته مش موجودة ؟ ! ده بيموت ..
على ما يبدو ان المريض احد اقربائها
رد عليها الماثل امامها ببرود تام
: يعني فصيلة دمه مش موجودة .. اعملك ايه انا ؟ ،
نظر قصي الى يوسف قائلا و هو يتوجه نحو الجلبة في تلك الغرفة
: تعالى ..
نظر له يوسف باعجاب داخلي فذلك هو صديقه ، لا يتوارى عن مساعدة أحدهم ابدا
دلف قصي يتدخل في تلك المشادة بينهم  قائلا
: انا ممكن اتبرع لو فصيلة دمي مطابقة ليه ..ثم نظر الى يوسف مردفا
: و لو مش مطابقة .. نشوف يوسف
نظر له يوسف بقهر ليومأ له قائلا
: ااا..اه طبعا
لتنظر لهم سارة بامتنان  تشكرهم ببكاء ،
دخل يوسف و قصي لأخذ عينه الدماء و مطابقتها بعينة
المصاب اسرعت الممرضة تعطي العينات للمعمل
لتظهر ان احدي العينتين ملائمة للمريض
ابتسمت سارة من بين دموعها خارجه تصعد الى حنان تخبرها بالبشرى ، وصلت عندها لتسرع قائلة  بلهفة تبعث لها بعض ومضات من الامل
سارة : واحد اتبرع بالدم لانكل يا طنط الحمد لله
لتنتبه لها حنان من بين دموعها و قد انتفض قلبها و كأنه عاد الى الحياة عند ما لاح امامها شبه امل في نجاة منصور
: الحمد لله .. يا ما انت كريم يا رب ..يا ما انت كريم يارب
لتظهر الممرضه بعد دقائق تحمل اكياس الدم مسرعه نحو غرفة العمليات
نظرت حنان الى سارة بعيون دامعه ممتنة بداخلها لذلك المتبرع  قائلة
: هو فين يا سارة ؟ .. عاوزة اشكره
اومأت لها ساره ثم اخذت بيديها الى مكان المتبرع
______
انتهت الممرضة الخاصة بسحب العينه من سحب الكميه الكافيه لتنظر الى قصى بهيام تسبل له عينيها و ما تتراوده افكارها الوردية انها ببستان هي و هو فقط و حولهم ورود و فراشات ترفرف في الانحاء ، ابتسمت تناوله عبوة عصير كرتونيه قائلة بدلال مصتنع
: خد اشرب ده ..بالهنا ...
لينظر لها قصي باستنكار قائلا
: شكرا مش عايز .
لتطلق الممرضة تنهيدة هيام ، بينما يوسف يحاول جاهدا كبت ضحكاته
استقام قصي يعدل اكمام قميصه ، لتبتسم الممرضة ابتسامه بلهاء تنظر بإنبهار الى ذراعيه ، فابتعد قصي خطوة للوراء خارجا من الغرفة تاركا اكمام قميصه غير مهندمة يتبعه يوسف ضاحكا
بينما القت له الممرضة قبلة في الهواء متنهدة بهيام قائلة
: سلام يا قمر .. هو في كده يا اخواتي ..؟
______________________________
صعد قصي الدرج خلفه يوسف متوجهين الى الطابق الثالث حيث غرفة العمليات ليطمئن على الذي من المفترض خال ...انتبه الى انه لم يعرف اسمها حتى تقدم بخطواته يفكر عازما ان اول ما سيعرفة عند لقائها التالي  هو اسمها ، وصل الى غرفة العمليات لم يجد احد ، انتظر قليلا ، فإذا بأحدهم يفتح باب الغرفة ليسأله قصي
: لو سمحت المصاب في الحادثة حالته ايه ؟
رد عليه الآخر قائلا بعملية
: حالته استقرت نوعا ما، ان شاء الله يقوم بالسلامه
اومأ له قصي شاكرا ، نظر اليه يوسف قائلا
: الحمد لله كويس انه ما ماتش ..
اومأ له قصي و بداخله مشاعر عدة مختلفة احداهما ضيق و الاخرى فرح و ثالثة لم يستطيع تميزها او معرفة هويتها ، اشار الى يوسف ليلحقه قائلا
: يالا بينا  ...
و في تلك الاثناء كانت حنان و سارة امام بنك الدم يسألون على المتبرع فأخبرتهم الممرضة بأنه ذهب لتسألها حنان
: طيب ما تعرفيش اسمه ايه ؟
ردت عليها الممرضة
: لا .. لكن ممكن تلاقي دكتور التحاليل اخد اسمه مش عارفة
شكرتها حنان و عادت الى المصعد لتنتظر خروج منصور امام غرفة العمليات ، بينما قصي و يوسف ينزلان الدرج
، بعد وقت لا بأس به خرج منصور ممدد على السرير ذو العجلات ساكن الحركات فاقدا للوعي ، كتفه بزراعه مجبر و موصل به اسلاك عدة ، تألم قلب حنان و كأنها هي الممددة فاقدة للروح انتفضت بلهفة تسأل الطبيب باكية
: ارجوك يادكتور طمني عليه ..
طمئنها الطبيب قائلا
: الحمد لله بصعوبة و بفضل ربنا انقذنا حياته ، لولا لقينا فصيلة دمه في الوقت المناسب .. كان هيبقى في خطورة شديدة على حياته ،
حنان و هي تحمد الله و شلال دموعها لم ينقطع نزوله من عينيها
: الحمد لله يا رب .. الحمد لله
لتسأل سارة الطبيب بلهفة
: هو هيفوق امته يا دكتور ؟
رد الطبيب عليها بروتينيه معتادة
: هيبقى في العنايه المركزة و تحت الملاحظة حوالي 48 ساعة لحد ما نتطئن و باذن الله هيفوق على بكره الصبح
شكرت الطبيب و ذهب ، لتحتضن سارة حنان تحمد الله باكية ، التفت حنان ترفع يديها الى نافذة الممر تدعو للمتبرع دعوات صادقة بقلب صادق
: ربنا ينجيه و يحفظه و يبعد عنه ولاد الحرام
لتقبض على قلبها تبكي ، و قد اختلطت دموع الفرح بدموع الفقد و الحزن ...
__________________________

أحيت قلب الجبل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن