ثمن غربة

23 0 0
                                    

#ثمن_غربة 🌄

سحقتها الأفكار والهواجس التي ما فارقتها يوما، لم تعتقد أن السعادة التي طالما لاحقتها ستظل كشبح تطاردها كلما اقتربت منها إلا واختفت. كلفتها الغربة عن الأهل والوطن فقد للدفء والحنان، لن تنسى ذاك اليوم الذي فيه ودعت أمها وهي تهمس لها في أذنها :
- لا تأخذي معك الماضي في حقيبتك حتى لا تتعبي. الحياة هناك ستفتح لك أبوابها على مصراعيها. اقطفي من بساتينها أجمل الورود بحب ليكون غدك أفضل.
لم تجبها زهرة ردت عليها بابتسامة ممزوجة بدموع، لقد سالت غصبا عنها، لم تستطع أن تحبسها. كيف لاينتابها ذاك الشعور؟ والخوف من المجهول ملأ قلبها. أخيرا عزمت أن تركن الماضي جانبا بكل تفاصيله التي عاشتها وشخوصه الذين تركوا بصمة في ذاكرتها لتودعهم، أدركت أن الحياة لن تمنحها كل شيء، آن الآوان لتتنازل عن بعض منها وتكمل طريقها.
هناك في مكان قصي عن بلدها حيث كل شيء مختلف عن ما تعودته. جو بارد وسماء تحجبها غيوم قلّما ترسل الشمس خيوطها الذهبية لتدفأها، وتذكرها ببلدها ونكهة قهوتها وخبز أمها اللذيذ. قاست كل أشكال الغربة فكانت أما لرفيق دربها وكل شيء كما هو لها أبا وأمنا.
تمر الأيام بل والسنين ليكبر طفليها، رزقت بولد وبنت مشت حياتها كما كانت تأمل، كدّ وجهد وتربية رغم التحديات التي واجهتها واصطدامها بتلك الحياة المختلفة عن تلك التي ارتوت منها حتى أضحت نباتا طيبا.
لم تنسى تلك الليلة التي كانت تنتظر فيها ابنتها على الشرفة واقفة وعيناها على الشارع، لقد تأخرت فلذة كبدها. كم عاتبتها على كثرة الخروج والتأخر، رَدُّ ابنتها لم يكن يروق لها وهي تردد دوما:
- لا أعرف لما تتظرينني كل ليلة متى تتركينني وشأني؟ صديقاتي لا يسألن عليهن آباءهم، نحن في بلد الحرية مختلف عن ذاك الذي ترعرعت فيه.
لكن تلك الليلة اختلفت عن باقي الليالي التي مرت، رأت ابنتها رفقة شخص لقد كان شابا يكبرها ببضع سنوات، معانقا إياها وهي تتمايل بالكاد استطاعت الوصول إلى محل سكناها، قبّلها وغاب عن الانظار، لم تتمالك زهرة أسرعت الى الباب كي تفتحه، لقد أوشكت ابنتها أن تسقط ارضا أخذتها أمها إلى غرفتها، ورائحة الخمر ملأت المكان، لم تصدق الأم ما حدث لابنتها، أُلْجِمَ فمها فلم تنطق ببنت شفة وكأن الكلام ما عاد له نفعا، ما كانت تخافه تجسّد لها الآن أمام عينيها، هو ذاك المجهول حضر ليذيقها الوجع ويسقيها من كأسه المر.
القت بثقلها على الكنبة بعد أن انتابها دوار لتعود بذاكرتها الى الوراء، قارنت نفسها بابنتها ، فوجدت أن حياتها كان يملأها الدفء والحنان ما بخلا عليها أبواها به ، وهي بالمقابل منحتهما كل الحب والطاعة، لم تكن شبيهة بتلك الحياة التي تحياها الآن ابنتها وقد جعلت شعارها الحرية، حتما هذه الأخيرة بريئة منها، كيف لها أن تشوهها وهي لم تعرف أين تضعها وتسير وإياها الى الطريق الصحيح لتمتلأ نورا؟ فتنير كل من حواليها. لقد أخطأت دربها لتظل في مكانها تائهة تبحث عن ذاتها وموطنها الأصلي أنّى يكون ، هل ذاك الذي ما تشربت من مبادئه شيئا ولا علمت من عادته وثقافته إلا قليلا ، أو ذاك الذي فتحت عينيها عليه وسُقِيَتْ من مائه ومشت خطواتها الأولى عليه حتى اكتسبت منه كل ما هو فيه، لن تُلام إذا اصبحت مثل مع من تحيا.
نامت زهرة وهي ممدة على كنبتها، ودمعة على خدها، لقد خدلتها غربتها وقست عليها ، وعدتها أن لا تحمل معها شيئا من ماضيها حتى لا تكون ثقلا عليها، لكنها خانتها وقد خسرت الآن كل شيء حاضرها وحتى غدها ، تُراها هل سيرضى ولديها بزيارة بلدها من حين لآخر هذا ما باتت تخافه ، تخشى أن يُقطع الحبل الذي يربط بينها وبين الموطن الأصلي، فلا يبق منه سوى ذاك الماضي الذي طلبت منها أمها أن لا تحمله، لقد أدركت هو من الآن عليها أن تحتفظ به، فعبق عطر وروده ملازم إياها كيف لا وقد زرعت في أنقى تربة ...

     #سميا_دكالي

خواطر (تابع)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن