الفصل الرابع عشر

749 31 2
                                    




الفصل الرابع عشر

قال جمال بابتسامة مرتبكة :- أهلا رنيم ... لم أتوقع زيارتك في هذا الوقت ..
رنيم كانت موظفة هي الأخرى فما كانت تأتي للزيارة إلا في ساعات راحتها أو بعد انتهاء دوامها ... وقدومها اليوم في هذا الوقت المبكر كان مفاجئة واضحة لجمال مما أثار حفيظة رنيم المتحفزة أصلا وهي تهتف من بين أسنانها وعيناها السوداوان تشتعلان غضبا :- من الواضح أنك لم تكن تتوقع زيارتي .. وإلا لما وجدتك تتغزل بسكرتيرتك .. صحيح ؟؟
أجفل متراجعا عن زين التي انتفضت مصدومة بالاتهام الشنيع .. وقال باستنكار :- رنيم ... راقبي اتهاماتك جيدا قبل أن تنطقي بها ..
هتفت بجنون :- قد أفعل لو لم أرك بأم عيني ... ما الذي يحدث أيضا من وراء ظهري خلال النهار ... ما الذي تقدمه لك سكرتيرتك الفاتنة مقابل راتبها غير القهوة والشاي والخدمات المكتبية ..
هتفت بحزم :- رنيم ..
بينما اشتعل غضب زين وهي تقول بحدة :- ما تتهمينني به غير صحيح يا آنسة رنيم .. وأنا لا أسمح لك بالـ ...... آه ..
أطلقت زين صرخة قوية عندما هوت كف رنيم فوق خدها تصفعها بقوة دفعتها إلى الخلف خطوتين وهي تهتف :- انت اخرسي ..
لم تنتظر زين لتسمع فحوى صراخ الأستاذ جمال وهو يمسك بمعصم رنيم مانعا إياها من التمادي أو صراخ الأخيرة بالمقابل وهي تهاجمه كالمجنونة ... بدون أن تفكر اندفعت إلى مكتبها لتلتقط حقيبة يدها وغادرت المكان بلا أي تردد ... كل ما كانت تريده في تلك اللحظة هو الخروج والابتعاد ... بحيث لم ترى الشخص الذي اعترض طريقها أثناء صعوده الدرج لتصطدم به وتسقط بثقلها فوقه ..
تمتمت معتذرة وهي تبتعد عنه دون أن تراه ليمسك بمعصمها مانعا إياها من الحركة وهو يقول :- ما الأمر ؟؟
رفعت عينيها نحو رائد العمري ... مصدومة برؤيته .. لماذا الآن ؟؟ لماذا وكل خلية في جسدها ترتعش إجفالا مما حدث ؟؟ تمتمت :- لا شيء ... بالإذن ..
لم تدرك بأنه كان قادرا على الإحساس برعشة جسدها العنيفة من حيث يمسك بها ... وعلى رؤية الدموع التي احتشدت في عينيها رافضة السقوط بشجاعة ..منعها من تجاوزه وهو يقول بحزم :- تعالي معي ..
لم تمتلك القوة لمقاومته وهو يجذبها نزولا عبر الدرج نحو باب مكتبه المفتوح ... كانت تلك هي المرة الأولى التي تدخل فيها إلى مقر عمله بدلا من المرور به ككل يوم .. عندما ارتفعت رؤوس الموظفين المنكبين على أعمالهم في الصالة الرئيسية ... ينظرون إليهما بفضول ورائد يسحبها ورائه برفق عبر المكاتب الأنيقة ذات الديكور المدروس .. كانت قادرة رغم تشوش ذهنها على استنتاج نجاح رائد في عمله ... وقد بدا هذا واضحا من اتساع المكان الذي احتل طابقا كاملا من المبنى لا غرفتين صغيرتين كمكتب السيد جمال ... من نوع الأثاث .. والأجهزة الالكترونية التي تراصت فوق المكاتب .. وحتى من هيئة الموظفين .. وملابسهم التي قاربت ملابس رئيسهم أناقة .. عبر بها بابا جانبيا حيث وقفت سكرتيرة حسناء ... مهندمة الثياب .. دهشة لرؤية مديرها الذي غادر لتوه برفقة امرأة .. قال مخاطبا إياها بهدوء :- لا تسمحي لأي أحد بإزعاجنا يا يمنى ..
أكان ذلك عدم الرضا ما رأته في وجه السكرتيرة الحسناء ؟؟؟
أفلت معصمها فور أن أصبحا داخل مكتبه .. وأغلق الباب ورائه بهدوء .. ثم استدار مواجها إياها سائلا :- ما الذي حدث ؟؟
نظرت إليه باضطراب فعرف بأنها واقعة تحت تأثير صدمة من نوع ما .. اقترب لينظر إلى وجهها .. ملاحظا الاحمرار الذي لطخ وجنتها فسألها بصوت مكتوم :- من فعل بك هذا ؟؟
مدت يدها تلقائيا نحو وجنتها التي كان ما تزل تنبض بالألم .. تمتمت بذهن شارد :- إنها رنيم ..
أمسك بذراعيها وقادها نحو مقعد قريب مجلسا إياها عليه ... وسحب مقعدا ليجلس أمامها قائلا بجفاف :- لماذا ؟؟
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تهمس :- لا أعرف .. لقد ظنت ... لقد رأت .. لقد كانت مخطئة ..
قال ببرود :- وهل كانت مخطئة حقا ؟؟
مجرد التفكير بأي علاقة من أي نوع بين زين وصديقه جمال كانت تثير جنونه .. وتجعل الدماء تفور في عروقه .. غيرة عمياء صدمته بشدة وهو يتخيل رجلا آخر يلمس المرأة الجالسة أمامه ... المرأة التي لم تفارق خياله منذ رآها أول مرة .. المرأة التي تبدو تجسيدا للخطيئة بجمال لم تنجح ملابسها المحتشمة في إخفائه .. المرأة التي يتناقض بشكل مثير للحفيظة .. الإغراء الصارخ في شفتيها الممتلئتين .. والبراءة في عينيها الواسعتين .. رمشت بعينيها محدقة فيه عندما طرح سؤاله .. وقد بدا عليها وكأنها لم تفهمه .. مما جعل ثقلا كبيرا ينزاح عن صدره .. لا علاقة تتجاوز حد الزمالة تربط بين زين وجمال .. قال بهدوء :- إنها تغار ... تشعر بأنها مهددة منك .. وهو أمر طبيعي .. أي امرأة طبيعية كانت لتشعر بالمثل حول امرأة بجمالك ..
تمتمت بصوت مختنق :- أنا لم أطلب هذا ... كما أنني لا أستحق معاملة كهذه ..
نهض نحو منضدة جانبية اعتلاها سخان ماء كهربائي ... وبدأ يعمل بيدين فعالتين وهو يقول بهدوء :- لا نطلب أحيانا ما نكون عليه .... يخلقنا الله على حالتنا هذه فلا نملك أن نغيرها ... وكونك أنثى هو أمر ليس بيدك
نظرت إليه باضطراب وهي تستشف اتهاما بين كلماته .. فتمتمت :- إذن ... أنت تحملني مسؤولية ما حدث ..
:- بطريقة ما .... رنيم انفعالية ... وارتيابية ... ولكن حتى هي لن تفتعل مشكلة دون أن ترى لها سببا .. قد تكونين بريئة .. ظاهريا .. إلا أنك على الأرجح قمت بإغراء جمال بطريقة ما مما جعلها ترى شيئا لم يعجبها في تصرفه نحوك ..
هتفت بقهر :- أنا لم أفعل شيئا ..
إلا أنها تذكرت تصرفه معها اليوم ... تذكرت اهتمامه غير المعتاد بها .. أسئلته عن حياتها الشخصية .. ثم عرضه عليها أن يتناولا الطعام معا .. أتراها أخطأت تفسير تصرفاته ... أترى رنيم محقة في إحساسها بالغيرة ؟؟
رفعت عينيها عندما قدم لها قدحا يتصاعد منه البخار فميزت رائحة الشاي في حين حمل هو قدحا من القهوة مما أجفلها ... لقد تذكر أنها لا تحب القهوة ...
في الأيام التي كانت تقف فيها كل صباح في انتظار الأستاذ جمال قبل أن يعطيها نسخة عن مفاتيح المكتب ... كانت ترى رائد كل صباح عند وصوله إلى عمله ... كان غالبا ما يحمل قدح القهوة الورقي والذي كان يبتاعه في طريقه على الأرجح ... ذات مرة فاجأها حاملا قدحين .. قدم لها واحدا وهو يقول ( إن كنت مضطرة للانتظار في هذا الطقس البارد ... فاشربي شيئا ساخنا يدفيء عظامك على الأقل )
يومها ... وجدت لذة كبيرة وهي تخبره بأنها لا تحب القهوة على الإطلاق .. حتى عندما هز كتفيه بدون اهتمام متابعا طريقه إلى داخل المبنى .. لم يتلاشى إحساسها بالانتصار لرفضها بادرته البسيطة ..
تناولت القدح من يده ممتنة لحرارته .. في حين كان هو ينظر إليها دارسا ملامحها ومستنتجا مسار أفكارها فقال :- يبدو أن رنيم لم تكن مخطئة في النهاية ..
احمر وجهها وهي تتساءل إن كان قادرا على قراءة الأفكار .. قالت بصوت مكتوم :- أنا لم أقم بأي شيء خاطيء
هز رأسه قائلا :- أصدقك .... أنت دعوة للخطيئة دون حتى أن تبذلي جهدا كي تكوني كذلك ..
ازداد احمرار وجهها بينما جلس أمامها .. وقالت بحدة :- لماذا تتحدث إلي بهذه الطريقة ... لقد سبق وأخبرتك بأن ما تريده لن يحدث أبدا ...أنا لست من هذا النوع ..
قال كمن يقر واقعا :- وأنا أخبرتك بأنني رجل صبور ... وأنني أجيد الانتظار حتى أنال ما أريد
وضعت قدح الشاي جانبا ونهضت بحركة حادة وهي تقول :- أنا لست مضطرة للاستماع إليك ..
وقف بدوره قاطعا عليها الطريق وهو يقول بدون ابتسام :- أنا بكل بساطة صريح معك ... أنا لست كغيري .. لست كجمال مثلا ... فلا ألف وأدور مغلفا نفسي بالأخلاق والمثل العليا حتى أحصل بالخديعة على ما أريد .. كما أنني لا أفرض نفسي عليك .. أخبرتك بأنني رجل صبور .. كل ما أريده حاليا هو ما تمنحينه لغيري .. ما تمنحينه لجمال مثلا على الأقل .. ألا أرى نظرة الاحتقار البشعة هذه في عينيه .. ألا تعامليني وكأنني مخلوق ضئيل لا يستحق الاحترام لمجرد أنني أحترمك بما يكفي كي أطلب ما أريده منك مباشرة ..
حاولت تجاوزه فصدمها عندما أمسك معصمها موقفا إياها ... ومقربا إياها منه حريصا على ألا تلمسه .. أن تفصل بينهما سنتيمترات قليلة لم تمنعها أبدا من الإحساس بحرارة جسده قريبا منها ... باستنشاق رائحته المميزة والمخدرة .. بالنظر إلى عينيه البندقيتين والعميقتين ورؤية المشاعر العنيفة فيهما وهو يقول :- تظنين نفسك أفضل مني يا زين إلا أنك مخطئة ... أنت مثلي تماما بحيث أستطيع أن أخبرك الآن وبكل وضوح بأنني أعرفك كما لم يعرفك إنسان قط ... بأنني أراك وأرى ما وراء هذه الطبقة الجميلة والشفافة التي تغلفك .. الطبقة الناعمة والمتوحشة في الآن ذاته .. تلك التي توحي بالنفور والرفض كالقطة البرية حين تهس في وجه من يقترب منها إلا أنها تموء راضية فور أن يداعبها أحدهم ..
ارتعدت وهي تجذب يدها تحاول الإفلات من قبضته بدون فائدة والذعر يتصاعد داخلها من تأثير كلماته عليها .. كل مافيه .. بلا استثناء يؤثر بها .. وسامته السمراء الخطرة ... نظرة عينيه الثاقبة .. بنيته القوية .. وصوته ... صوته الخافت العميق الذي كان يتغلغل تحت جلدها فيترك بصمة لا تمحى على روحها ..
قالت بصوت مرتجف :- أنت لا تعرفني ..
:- أنا أعرفك بما يكفي يا زين ... أعرف بأنك روح وحيدة تتوق لمن يشاطرها عالمها الخالي والموحش .. أعرف بأنك تتألمين .. بأن جزءا من كيانك يحترق من ألم الغدر والخيانة بحيث تعجزين حتى عن الثقة بنفسك .. أعرف بأنك تتحرقين شوقا للذوبان في شيء أقوى منك تضيعين فيه فلا يعود للعالم بقسوته وظلمه وجود .. وأنا .. أستطيع منحك هذا الشيء يا زين .. أستطيع منحك ذلك المخدر الكفيل بإبعاد كل ما يرسم هذا الحزن في عينيك الجميلتين ... كل ما يدفع هذا الجسد الدافيء للتشنج رفضا لما تقدمه الحياة ..
وجهه كان قريبا منها .... عيناه اللتان كانتا تنظران إليها من علو كانتا محجوبتين برموشه الكثيفة والداكنة .. أنفاسه الحارة كانت تلفح وجهها لتبث الرعدة في أوصالها .. رعدة أحس بها .. وامتدت لتسري على طول جسده دافعة قلبه للخفقان بعنف وصخب ... رغم حياته الحافلة ... لم يسمح رائد لنفسه قط أن يفقد سيطرته على نفسه كما يكاد يفعل الآن .. هولم يكذب عندما أخبرها بأنه رجل صبور .. إلا أن آخر ما اتسم فيه في تلك اللحظة هو الصبر وهو يكافح كي يمنع نفسه من سحبها إليه مرة واحدة وسحق جسدها الرقيق بقوة جسده .. من إشاعة الفوضى في شعرها المرفوع بتحفظ فوق رأسها لينسدل حرا حول وجهها كما تخيلها عشرات المرات في أحلامه .. من التهام شفتيها الرقيقتين .. حتى يكتشف أخيرا مذاقهما المحرم والذي تاق إليه طويلا ... من نزع نظرة البراءة المستفزة عن عينيها واستبدالها بوله امرأة عاشقة .. امرأة خلقت للحب .. لحبه هو ..
انتفضت مرة واحدة وكأنها تصحو من تنويم مغناطيسي ذهب بإرادتها كلها مع الهواء .. وسحبت يدها من بين أصابعه وهي تهمس بصوت مرتجف :- أنا لا أريد منك شيئا ... أي شيء ..
عندما تجاوزته هذه المرة مغادرة مكتبه ......... لم يحاول منعها ..


فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن