الفصل السادس

801 26 1
                                    



الفصل السادس


توقفت نوار عن تمشيط شعرها وأصابعها تضغط على مقبضه حتى أحست برغبة شديدة بتحطيمه .. نظرت إلى صورتها الشاحبة في المرآة وهي تتساءل عما دفعها لإخباره ... حتى الآن .. ومنذ طلاقها .. لم تتحدث عن الأمر لمخلوق واحد .. لقد كان عهدا قطعته لفراس .. عهدا كان الثمن الذي دفعته مقابل طلبها الطلاق .. أغمضت عينيها وهي تستعيد ردة فعل آدم على إخبارها إياه الحقيقة .. في الواقع ... لم يظهر اي تعبير على وجهه خشن الوسامة .. كان ينظر إليها متمعنا وكأنها كانت تتحدث عن الطقس لا أكثر .. ثم سألها ببساطة :- هل كان يخونك ؟؟
أطلقت ضحكة قصيرة مستنكرة أخذه الأمر بهذه البساطة .. للحظة واحدة فقط ... أحست بالندم لبوحها عن الأمر له .. من يكون هو كي تختاره بالذات فتطلعه على ما لم تطلع عنه سواه ؟؟ .. إلا أنها ويا للغرابة .. أحست وهي تخبر آدم عن السبب الحقيقي لطلاقها بلذة المنتقم .. وكأنها تطعن فراس في ظهره فتثأر لكرامتها التي أهدرها رغما عن إرادته ... اللذة كانت أكبر من أن تتمكن من إيقافها ... قالت بجفاف :- إن كنت تعتبر احتفاظه بصورتها في جيبه خيانة ... فنعم ... كان يخونني ... عاطفيا على الأقل .. إذ أنني عندما واجهته بعد عثوري على الصورة في جيبه .. وسألته عن هوية صاحبتها قال وبكل هدوء بأنها المرأة التي يحب ..
قال آدم تلقائيا من بين أنفاسه :- الحقير ..
قالت بحزن :- على الأقل هو لم يكذب علي .... زواجنا كان تقليديا للغاية ... كان قائما على التلاؤم والتناسب والمصالح المشتركة ... أنا الملامة إذ لم أفكر قط بأن رجلا مثله لن يكون له من التجارب الكثير .. لماذا كان علي أن أتخيل بأنه سيحبني في النهاية كنتيجة طبيعية للزواج ؟؟
قال آدم بهدوء :- كان زواجا ملائما بالنسبة إليه هو ....أما أنت ... فقد أحببته ... أو أوهمت نفسك بحبه على الأقل لأنه ما على أي زوجة مطيعة وجيدة أن تفعله ..
نظرت إليه باضطراب وهي تتذكر زواجها بفراس منذ بدايته ... منذ أطلعتها والدتها على تقدمه لخطبتها .. لا .. لم يكن هو من تقدم لخطبتها .. والدته .. الصديقة القديمة لوالدتها .. السيدة نازلي .. أتراها هي من أقنعه بوجوب زواجه وقد بلغ الثلاثين ؟ .. أتراها من أقنعه بهجر حب ضائع والاكتفاء بشيء مناسب ومتوفر مثلها ؟؟
لن تعرف نوار أبدا .. إذ ومنذ قابلته أول مرة أخذ عقلها وقلبها بدون تحفظ .. الرجل الثلاثيني الوسيم والهاديء .. هاديء ظاهريا إذ كانت ترى عواصف لا قرار لها في عينيه الخضراوين .. عواصف لم تر منها شيئا خلال العام الذي قضته زوجة له .. إلا مرة واحدة .. يوم شهرت الصورة في الوجهه ..
كان زوجا مثاليا في الأشهر الأولى ... لم يقصر في أي حق من حقوقها .. وكانت هي سكرة في حقيقة كون رجل مثله ملكا لها .. تتأبط ذراعه في المناسبات العامة .. وتفخر باسمه في الجلسات النسائية الخاصة .. كانت ترى نظرات الحسد والحقد في أعين جميع قريناتها وهن تتمنين عريسا يشبهه .. وكانت هي تضيع أكثر في غرورها هذا لتعمى عن الواقع الذي بدأ يتضح لها شيئا فشيئا بعد مرور الأشهر الأولى ... ابتداءا بطلبه منها تأجيل موضوع الإنجاب لفترة ... ثم تباعده الذي بدأت تلاحظه مع الوقت .. ثم حقيقة جهلها كل شيء عنه عند اكتشافها الحقيقة ... عندما عرفت بأن الرجل الذي تزوجته وقضت إلى جانبه عاما كاملا .. كان رجلا غريبا .. بفقاعة لا مرئية كان يحيط نفسه بها ليبعدها عنها ..
( إنها المرأة التي أحب )
عبارة قصيرة مكونة من أربعة كلمات ... إلا أنها كانت كالخنجر المسموم ينغرز في صدرها .. يدمر كبريائها وآمالها وثقتها بنفسها ..
( إنها المرأة التي أحب .... والتي لن أحب غيرها قط )
التتمة كانت ما احتاجت إليه كي تتناثر بقايا حطامها أرضا عند قدميه ... هي لم تبك على الأقل ... خلال الشهرين الأخيرين كانت قد أخذت فكرة كاملة عن عدم حبه لها .. وعن رفضه الروحي لها مما أعدها دون أن تدري لمعرفة الحقيقة .. كل ما تمكنت من قوله آنذاك هامسةً :- وماذا أكون أنا ؟؟
:- زوجتي ... شريكة حياتي ... المرأة التي أعيش معها وأمنحها تقديري واحترامي ..
هتفت دون تفكير وهي تهز رأسها بيأس :- هذا لا يكفي ... لا يكفي ..
لم يظهر أي تعبير على وجهه أرستقراطي الوسامة وهو يقول :- لا أستطيع وعدك بالمزيد يا نوار .. كما لا تستطيعين مطالبتي بما لا أملكه ... وهي ..
تطلع إلى الصورة التي كان قد سحبها من بين أصابعها فور شهرتها في وجهه .. وقال بصوت هزها حتى الأعماق بالمشاعر الجمة التي نضحت منه :- هي قد سبق وأخذت كل شيء ..
لم يكذب عليها على الأقل .... إلا أنه دمرها ... بذلك الحب الخالص الذي استشفته من كل نظرة وكلمة كان يتحدث فيها عن صاحبة الصورة .. الفتاة الصغيرة البريئة الجمال ... لم تكن تبدو في الصورة أكبر من مراهقة صغيرة .. بشعر كستنائي ناعم وعينين بنيتين ضاحكتين .. لم تكن تزيد عنها جمالا ... بل هي لا تضاهي ربع جمال نوار ... إلا أنها حصلت مسبقا على ما حق لنوار باسم الشرع والقانون ... قلب وروح زوجها ..
قالت بصوت أجش :- أتظنني أتقبل هذا ؟؟ أرضى أن أكون مجرد زوجة بينما تعشق أنت امرأة أخرى ..
قال بهدوء :- لا ... أنا لا أستطيع إرغامك على البقاء ... إن بقيت فأنت زوجتي .. امرأتي وسيدة بيتي .. وانا أعدك بأنني لن أقصر بأي حق من حقوقك .. وإن اخترت الرحيل .. فأنا لن أوقفك .. إلا أنني أطلب منك في المقابل بألا تحمليها هي ذنب ما حدث .. إذ أنني وحدي من أتحمل المسؤولية كاملة ..
وكان ما كان ... واختارت الرحيل مع وعد منها له بألا تذكر حبيبته المجهولة لأحد ... ليتها كانت أقل نبلا من أن تحفظ عهدا كهذا .. لما اضطرت لتحمل تساؤلات الجميع عن فشل زواج العصر بدون سبب مقنع .. الكل بدون استثناء .. لامها هي على الطلاق دون أن يفكر لحظة واحدة بأنه هو قد يكون السبب ..
تمتمت عائدة إلى الواقع :- لقد انتهى الأمر على أي حال ...
:- لا .... لم ينتهي ... فأنت ما زلت تتألمين لفقدانه ..
أحست بجرح في كرامتها لكلماته .. فقالت باستنكار :- أتظنني كنت أرغب في البقاء مع رجل يحب امرأة أخرى ؟؟ أحببته أم لا .. أنا ما كنت أبدا لأقبل بعلاقة غير متكافئة مهما كان الطرف الآخر مثاليا ..
قال ببرود :- أنت تجدينه مثاليا .. أنا أجده عديم الضمير ... إذ أنه ورطك في زواج كهذا دون أن يبسط الحقيقة أمامك مخيرا إياك منذ البدء ... على هذا الأساس أنا أرى الزواج الناجح يقوم .. على الصراحة .. والتفاهم .. والصدق المتبادل ..
قالت ساخرة :- لا على الحب ... كيف تراك تختلف عنه إن كنت تجد الحب عاملا ثانويا في معادلة الزواج ؟
:- أنت أحببت زوجك ... كيف نفعك هذا ؟؟
صراحته كانت مؤلمة ... مثيرة للغيظ ... مستفزة مما جعلها تقول ساخطة :- وهو لم يحببني .. وانظر كيف انتهى بنا الحال ..
مال إلى الأمام قائلا بجدية :- إنها النقطة التي قصدت أن أوصلها إليك ... التفاهم ... إما أن يحب أحدكما الآخر .. وإما لا ... إن لم يكن في علاقتكما هذا النوع من التكافؤ ظلم أحدكما الآخر ..
قالت متهكمة :- تبدو خبيرا في أمور الزواج ... هل سبق لك وتزوجت أنت نفسك ؟؟
ثم حبست أنفاسها وهي تفكر بحقيقة ربما لم تخطر على بالها منذ قابلته :- هل .. هل أنت متزوج ؟؟
ضحك بصوت مرتفع وهو يرجع ظهره إلى الوراء مما لفت اهتمام غيرهما من الرواد .. وأثار غيظها لتفكهه على حسابها .. قال دون أن يتوقف حقا عن الضحك :- متزوج ؟؟ بحق الله ... من تظنينها تقبل برجل مثلي ؟؟
قالت حائرة وهي ترمقه بنظرات متفحصة :- وما الذي يعيبك ؟؟
ابتسم ممتنا من مجاملتها وهو يقول :- لا شيء ... جسديا على الأقل ..
احمر وجهها خجلا من تلميحه المبطن مما جعله يضحك مجددا قبل أن يقول :- وكل شيء ... من النواحي الأخرى .. إذ أنني لا أمتلك ما قد يجذب أي عروس صغيرة لديها تطلعات مسبقة نحو زوج الأحلام .. أنا مجرد مهندس صغير في شركية هندسية متوسطة الحجم ... لا أمتلك ما أستطيع تقديمه لأي عروس من مهر ملائم وشقة مجهزة بشكل كامل ... قد أتزوج ذات يوم ... عندما أجد من تستطيع النظر إلي كشريك ... لا كعائل محتمل ..
قالت بشيء من الشفقة :- قد تنتظر طويلا ..
لم يبد عليه الإحباط وهو يمنحها ابتسامة عريضة قائلا :- لدي كل ما أحتاجه من الوقت .. كوني متأكدة من هذا ..
ابتسمت تلقائيا ولا مبالاته .. وأخذه الحياة ببساطة لا يحتملها عادة شاب عادي مثله ينعشها ... ثم التفتت نحو الباب عندما فتح لتتجاوزه مجموعة من الفتيان وهم يتحدثون بصخب جعلها تعود إلى واقعها .. وتنظر عبر زجاج الواجهة لتدرك بأن المطر قد توقف .. ثم إلى الساعة لتجد بأن الوقت أيضا قد تأخر ..
هبت من مقعدها وهي تهتف كالملسوعة :- رباه ... ستقتلني أمي ...
وضعت نوار المشط من يدها ... ووقفت ... هي مستعدة الآن للنزول إلى الطابق الأرضي ومواجهة والدتها للمرة الثانية بعد شجارهما ليلة الأمس ... ربما ما كانت لتمتلك كل هذه الشجاعة لولا كلمات آدم الأخيرة الي قالها لها وهو يقف إلى جانبها فوق الرصيف في انتظار سيارة أجرة ...
اكتشفت وهي تغادر المقهى برفقته بأن هاتفها كان مقفلا ... وعندما فتحته ... كانت هناك دزينة من الاتصالات الفائتة من كل من والدتها وأسرار مما جعلها تتوتر .. قال لها آدم بهدوء وهي تسكت هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين منذ أعادت تشغيله :- اهدئي يا نوار ... ما من سبب لكل هذا القلق والتوتر
قالت بسخرية مريرة :- عندما تكون امرأة مطلقة مثلي ... فأنت تمتلك كل الأسباب اللازمة للقلق والتوتر .. صدقني ..
أخيرا مرت سيارة أجرة خالية أسرعت تشير لها كي تتوقف .. وقبل أن تخطو نحوها .. أمسك آدم بساعدها مجفلا إياها وهو يقول :- نوار ... استمعي إلي ..
التفتت إليه باضطراب لترى الجدية على ملامحه الرجولية وهو يقول :- لقد كنت شجاعة عندما وقفت في وجه زوجك السابق .. ورفضت أن يقولبك بالشكل الذي يريد مفضلة أن تكوني مطلقة إنما حرة ... كوني شجاعة بالطريقة ذاتها ولا تسمحي للمجتمع بأن ينجح فيما فشل فيه هو .. لا تسمحي للمجتمع بأن يجعل منك ضحية ... إذ أنك لست كذلك .. أنت مقاتلة .. وأكثر من قادرة على أخذ حقك ..
قالت بتوتر :- لا .. أنا لست بمقاتلة ... أنا لا أمتلك أي مقومات تساعدني على القتال ...
قال بحزم لطيف وعيناه تواجهان عينيها بشيء من الصرامة :- أنت تمتلكين سلاحا واحدا إنما فعال للغاية يا نوار .. أقولها بحكم التجربة .. ما من سلاح أقوى من سلاح الغضب ..
رمشت بعينيها وهي تنظر إليه باضطراب .. متذكرة ذلك النهار .. عندما كانت مجرد طفلة في الخامسة عشرة .. طفلة باكية وضعيفة .. لماذا تشعر في تلك اللحظة بأنها قد عادت مجددا تلك الطفلة الخائفة والضعيفة ؟؟
قال آدم بحزم وأصابعه تشد على ساعدها :- كل ما عليك فعله هو أن تغضبي ... اغضبي يا نوار .. وستكونين بخير ...

فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن