الفصل السادس عشر

730 28 6
                                    




الفصل السادس عشر




( عاد همام )
أحست نوار بالأرض تهتز تحت قدميها فتركت ركبتيها تنحنيان لتشعر ببرودة الأرض تحتها وهي تستقر فوقه مذهولة ... تطالع رسالة أسرار مرة ... بعد مرة ... بعد مرة ... وهي تتساءل ... هل عاد همام حقا ؟؟؟ هل عاد ؟؟ أم ترى أسرار تعبث بها مستخدمة شوقها الذي لا ينتهي لشقيقها الراحل كفخ يجذبها وقد أبقت نوار هاتفها مغلقا لأيام رافضة سماع ماترغب عائلتها بقوله ؟؟
اليوم .... صدفة هذا المساء ... قررت فتح هاتفها أخيرا .... إلقاء نظرة لا أكثر رغم أن قلبها كان يرتجف خوفا مما قد تجده من رسائل معبرة عن ردة فعل عائلتها
الصدمة كانت أنها لم تجد شيئا على الإطلاق من أي من والديها .... أي رسالة ... أي محاولة اتصال .. وكأنهما قد انتزعاها تماما من تاريخهما وكأنها لم تكن ..
هذا التجاهل الصارخ عنى شيئا واحدا فقط .... أنهما لا يمتلكان النية أبدا في مصالحتها ... أنهما قد أطلقاها لتعيش مصيرها الذي اختارته ... أتراها وفرت عليهما همومها برحيلها من تلقاء نفسها ؟؟؟
أتراهما تنفسا الصعداء لحظة معرفتهما الحقيقة وقد انزاح حملها عن كاهليهما ؟؟
أسرار وحدها التي لم تتوقف عن الاتصال بها أبدا .... رسائلها كانت أكثر من أن تتمكن نوار من قرائتها مرة واحدة ... ففتحت الرسالة الأخيرة لترى مضمونها المختصر
( عاد همام .... اتصلي بي عندما تستطيعين .. أحبك وأشتاق إليك )
عاد همام .... شقيقها الوحيد الذي أحبته كما لم تحب شخصا آخر قط ... لطالما كانت المفضلة لدى شقيقها الأكبر ... كان دائما يدللها ... يدعمها ... يشجعها في لحظات الضعف والتردد التي كانت تصادفها بكثرة ... عندما رحل فجأة ... كان رحيله أشبه بصدمة مزقت جزءا من روحها تماما فلم يشف بعد ذلك قط ...
كانت صدمتها أكبر بكثير من أن تقابل رحيله بالصخب الذي قابلته به هزار ... هي حتى لم تستطع أن تكره ليلى لتسببها في رحيله ... لقد كانت أكثر ذهولا من أن تشعر بأبسط أنواع القهر والألم ... إلا أنها لم تفقد الأمل قط في عودته إلى الوطن من جديد ... إليها هي ... حتى مؤخرا ...عندما لم يكن موجودا في أكثر أوقات حاجتها إليه شدة ... أدركت أخيرا بأنه لن يعود قط ... وقد كانت مخطئة ..
عاد همام ..... عاد .... وها هي منبوذة من العائلة فلا تمتلك الحق حتى بالذهاب إليه ورؤيته ... بتحيته والنظر إلى وجهه المألوف ... أتراه تغير ؟؟؟
لقد عاد .... وهو الآن يكرهها على الأرجح بعد أن أخبروه بالتأكيد بفعلتها ....
لماذا عاد ؟؟؟ لماذا الآن ؟؟؟ بعد فوات الأوان !! ... لماذا لم يعد عندما كانت ضائعة ... خائفة ... وهي ترى نفسها تساق كالذبيحة إلى المسلخ عاجزة عن المقاومة والاعتراض ..
لو أنه كان موجودا لأنصفها .... لوقف إلى جانبها وفهمها ... لرفض أن يزوجها والدها بالسيد راجح الكريه ... لحثها على فعل ما تريده هي .. لا ما يريده لها الآخرون ...
همام كان ليفهمها ... ليقدر مخاوفها ... لو أنه عاد قبل الآن لما وجدت الحاجة لفعل ما فعلته ... للتخلي عن عائلتها ... وحياتها .... وكل شيء هربا من مصير لا تريده
لماذا عاد ؟؟؟ ليته لم يعد .... ليته لم يعد ...
عندما فتح آدم باب الشقة ودخل .. أدرك على الفور حدوث خطب ما ... التقطتها عيناه فورا في قلب ظلام الصالة الذي لم يبدده سوى النور الخافت القادم من المطبخ ...
ترك حقيبته تنزل من يده على الأرض وهو يهتف :- نوار ...
كانت منكمشة على نفسها فوق الأرض ... تضم ساقيها إلى صدرها بذراعيها .... شعرها الكثيف منسدل حول رأسها ليحجب وجهها عن العيان .. دون أن يحجب ارتعاش جسدها القوي والذي بدا وكأنه لن يتوقف ..
استشعر فورا برودة الصالة مقترنة بقميصها الرقيق الذي كانت ترتديه ... فانتزع سترته بدون تفكير وهو يخطو نحوها .. جثى إلى جانبها وهو يضع السترة فوق كتفيها قائلا بقلق :- نوار ... ما الأمر ؟؟ ما الذي حدث ؟؟
لم تقل شيئا .. إلا أن هاتفها انزلق فجأة من ين أصابعها ليسقط على الأرض فعرف وحده ... لقد فتحت هاتفها ... وقرأت رسائل عائلتها ...
لقد كان ينتظر أن تصيبها حالة كهذه فور أن تفعل ... لقد توقع أن تتألم ... أن تبكي .. أن تشعر بالندم لأنها اختارت طريقها معه عوضاعن البقاء .. وكان يعد نفسه تماما لمدها بالقوة اللازمة كي تحتمل نتائج اختيارها ... إلا أنه لم يتوقع انهيارا كهذا .... تمتم برفق :- نوار ... تحدثي إلي ..
تمتمت بصوت خنقته الدموع :- لقد عاد همام .... عاد .... عاد همام ..
انسحبت الدماء من وجهه وهو يستوعب الأمر ... شقيقها الغائب منذ سنوات طويلة قد عاد فجأة ... وما تحسه عروسه الجديدة في هذه اللحظة ... ليس مجرد قهر لعدم وجدودها لحظة عودته ... لعجزها عن الذهاب إليه ورؤيته وقد غادرت منزل عائلتها مغلقة جميع الأبواب أمام عودتها
عروسه تندم على عدم انتظار شقيقها قبل اتخاذها لأي قرار مصيري أحمق ومتهور كالزواج منه هو ..
استغرق لحظات قليلة فقط كي يتمالك خلالها مشاعره ... متمنيا لو انه كان أقل ذكاءً مما هو عليه ... وأكثر بلادة بحيث لا يدرك حقا ما تشعر به نوار .. ثم تمتم :- أنت تعرفين بأن الأوان لم يفت أبدا
رفعت رأسها أخيرا .... وجهها الجميل غارق تماما في الدموع .... يعلو اللون الأحمر أنفها ووجنتيها مما منحها مظهرا طفوليا للغاية ذكرها بها طفلة في الخامسة عشرة تبكي غيظا من مزاح أسرار ..
حدقت فيه من بين شهقاتها المتقطعة .... عيناها المتورمتان تنظران إليه بضياع فقال بهدوء :- عائلتك لن تغلق الباب في وجهك أبدا إن عدت إليهم ... فأنت ستظلين ابنتهم .. و همام سيظل شقيقك ... أما أنا ..
تحاشى النظر إليها وهو يبحث عن طريقة يعبر فيها عما يريد قوله .. فقال بخشونة :- الهدف من هذا الزواج كان تحقيق أحلامك أنت .. لا أنا ... حتى إن كنت متمسكا بك وأنا كذلك .. متمسك بك حتى الرمق الأخير .. إلا أنني لن أتردد في الرحيل متى أحسست نفسي قد بت عبئا عليك ..
أمام نظراتها الذاهلة ... اعتدل واقفا ... وتركها مغادرا الصالة ...
لدقائق طويلة ظلت قابعة مكانها ... تتساءل إن كانت عائلتها تستقبلها إن عادت إليهم الآن ...
الإجابة كانت نعم ..... رغم كل شيء ...حتى لو لم يسامحها أحدهم .... فهم أبدا لن يغلقوا الباب في وجهها
السؤال الثاني والأهم .... هل ترغب حقا في العودة ؟؟
هل ترغب حقا في الرحيل عن هذا المكان وترك آدم ؟؟
آدم الذي اكتشفت بأنه لم يكذب عليها ... بأنه يحتاج إليها بالضبط كما تحتاج هي إليه ...
آدم الذي علمها بطريقته الرقيقة كيف تستخرج أقوى ما فيها ... في سبيل أن تكون نوار التي تريدها ..
هل هي مستعدة للتخلي عن قوتها الجديدة ... للعودة إلى نوار القديمة الهشة والعاجزة عن اتخاذ قرار واحد يخصها ؟؟؟
هل هي مستعدة لترك حياتها الجديدة ... ببساطتها ... وحريتها الخالية من القيود ... بعالمها الذي كانت تكتشف المزيد عنه كل يوم بحماس الأطفال ... لأجل حياة تعرف كل ما فيها ؟؟؟ حياة تعرف بالضبط إلى أين تتجه ؟؟؟
هل هي مستعدة لترك آدم ؟؟؟
تحركت من مكانها ... ووقفت ... ضامة طرفي سترته حولها مدركة فجأة بأنها تشعر بالبرد ... ومدركة بأنها كانت طوال حياتها بردانة ... فلم تعرف الدفء الحقيقي إلا إلى جانب آدم .... بين ذراعي آدم .. سارت بخطوات بطيئة إلى غرفة النوم .... لتجده جالسا فوق السرير ... يسند مرفقيه فوق ركبتيه ... ويمسك رأسه بيديه وكأنه يتألم ..
اقتربت منه فرفع رأسه في اللحظة التي وقفت فيها أمامه ... تبدو كالملاك بقميصها القطني الأبيض .. وشعرها الأسود ينسدل حول كتفيها كشلال لا نهاية له .. بينما تسبغ سترته الجلدية المناقضة تماما لباقي مظهرها البريء هالة امرأة خلقت لتغوي ...
قالت خفوت :- أنا أحتاج إلى عائلتي ..
ابتلع ريقه ... وعيناه الرماديتان تنظران إليها بثبات وهي تكمل :- إلا أنني أحتاج إليك أكثر ..
اقتربت قليلا حتى لامست ساقاها ركبتيه وهي تقول :- أنا أريد عائلتي .... إلا أنني أريدك أكثر ...
لم يستطع منع نفسه من الإمساك بخصرها ... وتقريبها منه حتى توسطت ركبتيه ... ينظر إلى عينيها الخضراوين المظللتين برموشها المبللة بارتباك ... خوف ... عجز ... شوق ... مشاعر جمة تجمعت لتتوسط صدره فتزحمه حتى أحس به يوشك على الانفجار ..
همست :- عائلتي تمدني بالقوة ..... إلا أنك تخلق القوة داخلي خلقا ومن لاشيء ... فقط بمجرد وجودك إلى جانبي ..
ارتجفت أصابعه فوق خصرها الدقيق ... وكأنه يكبح نفسه بصعوبة ... وكأنه يمنع نفسه من جذبها لتسقط فوق أحضانه .. فقد كان يريد أن يسمعها .. كان يريد أن يقضي ما تبقى من حياته يسمعها ..
تمتمت :- أنا أعرف نوار التي تربت في منزل آل شاعر ... تلك التي كبرت .. درست ... تزوجت ثم تطلقت .. أعرفها وأألفها ... أما نوار التي ولدت لحظة تزوجت بك ... فأنا أعشقها ... ولا أريد أن أكون غيرها ..
مدت يديها لتلامس وجهه ... مررت رؤوس أصابعها فوق صفحة وجهه بحركة مغوية جعلته يرتجف .. اقتربت أكثر حتى التصقت به ... تمسك بيديه لترغمه على احتضانها .. تدعوه إليها بنظرات لا تترك مجالا للشك .. همس :- ليس هذا ما أريده منك فقط يا نوار ... أنا أريدك كلك ... وهذا ... هذا الجزء من علاقتنا .. هو نعمة إضافية لا أكثر
همست :- أما أنا فأريده ... أحتاجه .. أحتاج لأن أشعر بنفسي جزءا منك .. كي أستمد منك قوتي فلا أسارع بالعودة إليهم ... لا تسمح لي بأن أضعف يا آدم ... أرجوك
قال بصوت أجش وهو يجذبها إليه مستجيبا لمناجاتها العذبة وتوسلها الناعم :- أبدا ... أبدا لن أسمح لك ..


فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن