الفصل الثانى والاربعون

778 31 0
                                    





الفصل الثاني والأربعون

ما الذي جاء بها إلى هنا ؟؟
وقفت هزار في ذلك الحي الشعبي القديم ... فوق الرصيف المتآكل بفعل الزمن ... حيث تراصت على طوله المتاجر المتواضعة والتي أخذ أصحابها يرمقونها بفضول وهم يتساءلون عما جاء بشخص مثلها إلى هذه البقعة من المدينة .. ضجيج السيارات كان عاليا وصاخبا في هذه البقعة المزدحمة والتي لم يساهم ضيق شوارعها في تخفيف حدة صخب الأبواق نافذة الصبر .. كان عاليا بحيث كان يطغى جزئيا على صخب عقلها الذي علم نفسه خلال الأسابيع الأربعة الماضية ألا يفكر إطلاقا ... أن ينقاد لتعليمات الآخرين بإذعان وبدون نقاش .. أن تأكل حين يطلبون منها أن تأكل .. أن تشرب حين يطلبون منها أن تشرب .. أن تتنفس ... فقط لأنه الشيء المتوقع منها أن تفعله .. ما الذي جاء بها إلى هنا إذن ؟؟؟
أهو هرب من الإعدادات التي لم تتوقف منذ أيام لحفل عقد قران أسرار وقائد ... حفل ضيق !! .. هه ..
والدتها لم تخرج بعد من عدتها ... أشهر لم تمر بعد على وفاة أبيها .. وليلى ما تزال في غيبوبتها تلك دون أي إشارة إلى إمكانية استيقاظها .. وهمام لا يفارق سريرها في أمل لا ينتهي بأن تعود إليه .. ومع هذا .. يجد الجميع تلك القدرة على أن يفرحوا ناسيين كل شيء .. وكأنهم جائعين إلى لحظة فرح تغطي على همومهم ..
لماذا لا تستطيع هزار أن تفعل المثل ؟؟
محدقة في الفستان الوردي الذي اشترته لها والدتها ... وأعدته كي ترتديه لأجل المناسبة .. مفرودا فوق سريرها الصغير في انتظار أن تلتقطه من مكانه ... لم تشعر هزار إلا وهي ترتدي سروالا من الجينز .. وكنزة قطنية موصولة بقبعة أخفت بها شعرها ... ثم تتسلل دون أن يراها أحد إلى خارج المنزل .. لتوقف أول سيارة أجرة تراها .. وها هي تقف أمام العنوان الذي لم يسبق لها أن زارته سوى مرات قليلة جدا ..
المبنى المقصود كان مبنى قديما جدا .. بدون باب خارجي يقيه فضول المتطفلين .. الدرج كان مهترئا للغاية .. إلا أنها تمكنت بمعجزة من الوصول إلى الطابق المطلوب دون أن تسقط فتكسر رقبتها ...
الباب كان مصنوعا من الخشب الذي تآكل طلاءه ... ترددت للحظة واحدة فقط .. قبل أن تحسم أمرها وتقرع الجرس ..
انتظرت لنصف دقيقة تقريبا ... قبل أن يفتح الباب أخيرا .. فيطل رجل غريب طويل القامة .. وينظر إليها من علو متفحصا وقد اعتلت وجهه الريبة وهو يقول بفظاظة :- نعم !!
رمشت بعينيها للحظة وهي تحدق به كمن صفع على وجهه .. ثم تدير عينيها نحو الاسم المكتوب إلى جانب زر الجرس .. لا .. هي لم تخطيء العنوان .. إلا أن الشاب الأسمر الذي بدا وكأنه لا يطيق صبرا حتى يغلق الباب في وجهها قال بنفاذ صبر :- من أنت ؟؟
أتى صوت مألوف من الداخل يقول :- عزيز ... من الطارق ؟؟
أزاح الطريق للمرأة الأربعينية بردائها المحتشم الأسود ... التي أحاطت رأسها بوشاح أبيض أخفى شعرها الذي تعرفه هزار أسودا كجناح الغراب .. غجري بالضبط كشعر ....
:- هزار !!!
اغرورقت عينا المرأة السوداوان والشبيهتان بعيني ليان بالدموع .. مما جذب الدموع لعيني هزار هي الأخرى وهي تندفع نحو المرأة التي فتحت ذراعيها كي تتلقى هزار بينهما وتضمها بقوة وهي تبكي بحرقة هاتفة :- يا صغيرتي ... يا صغيرتي المسكينة ... تعالي لأشم رائحة الغالية فيك ... لقد سرقوها مني ... سرقوها مني زهرة يانعة ورموها شيئا باليا بدون روح ..
تشبثت بها هزار بقوة وهي تبكي هي الأخرى ... تشعر براحة كبيرة لعثورها على شخص يشاركها حزنها .. شخص مثلها غير مستعد لنسيان ما حدث .... شخص غير دخول كريم إلى حياته كل القواعد من حوله .. فدمرها كلها ولم يترك مكانها إلا ركاما ..
:- إن كنت لا تحتاجين إلي يا خالتي أم ليان .. فأنا سأعود إلى عملي .. وسأمر بك والفتيات مساء قبل عودتي إلى البيت .. عندما يكون الجو هنا ... أكثر انشراحا
هل كان الرجل يظهر امتعاضا ما نحو وجودها هي ؟؟ تخلت أم ليان عن هزار وهي تنظر إلى الشاب الطويل من بين دموعها دون أن يبدو عليها أنها قد أحست بتلميحه نحو هزار وقالت :- اثابك الله على ما تفعله لأجلنا يا عزيز ... تعال مساء أنت ووالدتك وتناولوا العشاء معنا .. صحبتكما تؤنسنا وتؤنس البنات .. وتنسينا قليلا ... قليلا ..
خنقتها الدموع مجددا وهي تقترب منه مربتة على ذراعه قائلة بحنان :- أنت فرد من العائلة .. وستظل كذلك إلى الأبد يا عزيز .. تأكد من هذا .
أومأ برأسه واجما ... ثم رفعه لتلتقي نظراته بعيني هزار الدفاعيتين ... لا ... هي لم تكن تتوهم .. الرجل لا يخفي أبدا احتقاره لها من خلال نظراته التي رمقت ملابسها البسيطة وشعرها الذي تركته حرا فوق كتفيها على غير العادة ... ولكن لماذا ؟؟ لماذا وهو لا يعرف حتى من تكون ؟؟ أم تراه يعرف ؟؟
رفعت رأسها رافضة أن تسمح له بإخافتها .. فلم يفتها بريق عينيه الذي أظهر بوضوح إدراكه لمشاعرها .. اعتذر من أم ليان بكلمات عابرة قبل يغادر مغلقا الباب وراءه بهدوء ...
سحبتها أم ليان إلى غرفة الجلوس ... غرفة صغيرة ..ككل غرف الشقة الضيقة التي عاشت فيها ليان مع أمها وشقيقتيها طوال حياتهن .. الأثاث كان قديما وعاديا .. مصنوعا من الخشب .. ومنجدا بقماش أبلاه الزمن ... في الزاوية لمحت هزار ماكينة الخياطة التي كانت تعيل هذه الأسرة إلى جانب ما كانت ليان تجنيه من وظيفتها المسائية ...المكان كان فقيرا ومتواضعا .. إلا أنه كان حميميا للغاية كالمرأة التي أجلست هزار فوق الأريكة وجلست إلى جانبها .. السيدة هدية ... المرأة التي ترملت قبل عشر سنوات فتحملت مسؤولية ثلاث بنات صغيرات كانت أصغرهن ما تزال رضيعة بين ذراعيها .. حتى كبرت ليان بما يكفي كي تساعدها في رعاية الطفلتين الأصغر سنا ...
قالت السيدة هدية بصوت أجش :- لقد رحلت ... رحلت يا هزار ... رحلت وتسربت من بين يدي كقطرات زئبق لعوب .. لقد كنت أراها تتغير في الآونة الأخيرة .. في الأشهر الأخيرة .. إلا أنني كنت ألوم مواظبتها على الدراسة والعمل في آن واحد .. لم أتخيل قط أن السم كان يتسلل إلى بيتي ليدمر ابنتي شيئا فشئا .. لماذا ؟؟ لماذا ليان ؟؟ لطالما كانت الابنة المثالية .. لقد كانت قوية .. ذكية .. وصلبة للغاية إلى حد كان يدفعني لشكر الله ليل نهار على تعويضي بها عن الابن الذي حرمت منه .. لقد كنت واثقة أن مكروها لن يصيب أي من ابنتي الأخريتين في وجودها .. إلا أنني لم أتوقع أن تسرق مني هي .. ماذا أفعل الآن من دونها ؟؟ ماذا أفعل ؟؟ أخبريني ..
بدأت تبكي مجددا بقهر في حين عادت دموع هزار تسح بغزارة وهي تجد نفسها عاجزة عن مواجهة المرأة الثكلى .. ماذا تقول لها ؟؟ أنها تشك بأن كريم قد تعمد قتل ليان بمنحها جرعة زائدة من المخدر بسببها هي ؟؟ أن جنونه بها كان ما دفعه لتجاوز كل الخطوط الحمراء .. والسعي لتدمير كل ما كان يمنعه عنها ؟؟
همست هزار :- أين الفتاتين ؟؟ أين إيمان وبيان ؟؟
:- من المفترض أن تعودا في أي لحظة من المدرسة ... ستفرحان للقائك .. إذ كانت الفترة السابقة صعبة جدا عليهما
بيان ابنة السابعة عشرة ... وإيمان ابنة الثالثة عشرة ... تذكرهما هزار وجهين بريئين بذات الجمال الأسمر الوحشي لشقيقتهما الكبرى .. بدون السخرية السوداء والنضوج المبكر الذين كانا يوصمان ليان ..
:- ابقي حتى العشاء ... لو تعلمين كم أنا فرحة بزيارتك .. وكأن ليان قد عادت لتزورني من خلالك .. ابقي معنا هذا المساء يا هزار ... ابقي ..
ترددت هزار والعرض يغريها .... أن تظل في هذا المكان الغارق في حداد كان يضاهي حداد روحها ... عوضا عن حضورها حفل عقد قران أسرار وقائد ... ليتها تستطيع ... لولا إدراكها أنها ستسبب لأمها الفزع بغيابها ... والقهر وهي تراها عاجزة عن النسيان .. كما أنها ما كانت لتبقى وتواجه ذلك الرجل الوقح الذي أكد على حضوره مساء للعشاء .. قبل أن تهمس :- لا أستطيع البقاء كثيرا ... لدي ... لدي التزام عائلي .. إلا أنني سأنتظر الفتيات وأراهن قبل أن أغادر
تشبثت أصابع السيدة هدية الدافئة بيد هزار الباردة وهي تقول :- ستعودين لزيارتي لاحقا .... صحيح ؟؟
أومأت هزار برأسها مؤكدة وهي تهمس :- بالتأكيد
ثم صمتت للحظات قبل أن تسألها :- من يكون ذلك الشاب الذي غادر قبل دقائق ؟؟ أهو قريب لك يا خالتي ؟؟
على الفور .. أشرق وجه السيدة هدية بالحنان والفرح لذكره وهي تقول :- أتقصدين عزيز ؟؟؟ لا .. هو ليس قريبا لي ... كانت عائلته تقيم في الشقة المجاورة لسنوات طويلة قبل أن يتوفي أبوه فيأخذ أمه وشقيقته وينتقل بهما إلى مكان أقرب إلى مقر عمله .. إنهم أصدقاء قدماء جدا للعائلة .. كما أنه ...
عادت سحابة الحزن لتظلل عيني السيدة هدية وهي تقل :- كما أنه ... عزيز ... كان بمثابة خطيب لليان .. لقد أحبا بعضهما منذ الطفولة .. وكان من المفترض بهما أن يتزوجها بعد تخرجها مباشرة .. صدقيني يا ابنتي ... غضب ذلك الشاب .. لا يقل أبدا عن غضبي أنا لخسارة ليان بتلك الطريقة .. أنا أبكي .. وأنوح كل يوم تحسرا على شبابها الضائع .. أما هو .. فالله وحده يعلم على أي شيء يصب غضبه وحقده على خسارته لها ..

فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن