الفصل الثامن

781 31 1
                                    




الفصل الثامن

:- صباح الخير ..
دخلت نوار إلى المطبخ باسمة وهي ترى والدتها هناك .. تعد بمساعدة الخادمة صينية الإفطار لوالدها ..
نظرت إليها والدتها وهي تقول بحيرة :- أنت تستيقظين مبكرا في الآونة الأخيرة .. ما حكايتك ؟
قالت نوار وهي تبدأ بإعداد قهوتها السريعة الصباحية :- كل ما في الأمر أنني اكتشفت بأن العمر أقصر بكثير من أن أضيعه في النوم ..
حملت والدتها الصينية في إصرارها المعتاد على أن تكون هي من يحمل الإفطار إلى والدها لا واحدة من الخادمات وهي تقول :- في هذه الحالة .. تعالي وتناولي قهوتك مع والدك ... إنه مصر على الذهاب إلى الشركة اليوم .. أتمنى لوأستطيع منعه إذ لم تمض أسابيع على خروجه من المستشفى ..
عندما أطل القلق على وجه والدتها الجميل .. قالت نوار بتعاطف :- أنت تعرفين بأنه يذوي في بقائه في البيت .. بل أظنه لن يتحسن حقا حتى يعود إلى عمله ..
تنهدت والدتها وهي تقول :- ربما أنت محقة .. سأسبقك إلى غرفة مكتبه إذ أنه ينتظرني هناك ..
أعدت نوار قدح القهوة ولحقت بوالدتها وهي تتساءل عما تستطيع فعله اليوم .. منذ طلاقها وهي تعيش برتابة وروتينية لا تطاق ... إذ أن الاكتئاب الذي أصابها لم يساعدها إطلاقا في إيجاد الحماس اللازم لممارسة أي نوع من الأنشطة .. كانت تنام حتى الظهر .. تلزم البيت نهارا .. تتسوق مساءا أو تخرج مع إحدى شقيقتيها .. أو تبقى في البيت عاجزة حتى عن التواصل مع صديقاتها اللاتي ما كن ليترددن في طرح الأسئلة التي لا تمتلك نوار أجوبة عنها ... أو أنها تمتلك أجوبة هي ليست مستعدة للبوح عنها ..
لحقت بوالدتها إلى مكتب والدها لتجدهما جالسين على الأريكة الجلدية يتهامسان بشيء من الجدية .. همسهما توقف فور دخلت نوار .. وعندما تعلقت أنظارهما بها .. عرفت بأنهما كانا يتهامسان حولها .. ارتعشت ابتسامتها وهي تكافح رغبتها في الهرب .. ودخلت إلى الغرفة وهي تقول بصوت جاهدت كي يخرج طبيعيا فلا يعكس إحساسها الدفين بالاضطهاد :- صباح الخير ..
كانت ابتسامة والدها صادقة على الأقل وهو يرد تحيتها ويتلقى قبلتها على كف يده .. قال بدفء :- كيف حالك يا نور قلبي ؟؟
اغرورقت عيناها بدموع لم تسل وقد هزتها التسمية التي كان والدها يطلقها عليها فيما مضى .. هزتها .. إنما أثارت شكوكها .. التفتت إلى والدتها لتلحظ عينيها الفائضتين بالقلق والتوتر وكأنها تترقب شيئا .. أو تبحث عن طريقة لقول شيء ما .. سألت والدها بهدوء :- كيف حالك اليوم ؟؟ تقول أمي بأنك ستذهب أخيرا إلى الشركة ..
:- بدوام جزئي في البداية .. ليلى تحل محلي بكفاءة عالية .. مما يجعلني غير مضطر لاستعجال الأمور .. لن تسمح لي والدتك بذلك حتى لو حاولت ..
نظرت إليه والدتها بعتاب باسم .. بينما انقبض قلب نوار بغيرة لا إرادية نحو ليلى ... زوجة شقيقها المثالية .. المرأة التي احتلت مكانها وشقيقاتها في قلب والدها بجهدها الشخصي وتفانيها .. غيرة نوار كانت غير نابعة عن كراهية نحو المرأة التي شكلت جزءا من العائلة منذ سنوات ... بل حسدا للطريقة التي كان والدها يدعمها فيها كما لم يدعم إحداهن ... بمساعدته .. تمكنت ليلى خلال السنوات السابقة من أن تستحيل إلى امرأة أعمال ذكية ومستقلة كما لا تحلم نوار يوما أن تكون ... وكيف تكون .. وقد جهزت منذ حداثتها كي تتزوج برجل يلائم مكانة العائلة لا أكثر ...
قاطعت والدتها أفكارها وهي تسألها فور أن جلست نوار على مقعد مقابل :- ما هي خططك لهذا اليوم يا نوار ؟؟
:- لا شيء معين .. كنت أفكر بالاتصال بأسرار والخروج برفقتها إذ أنها لم تأت للزيارة منذ فترة ..
قالت والدتها بهدوء :- لا داعي لهذا ... لقد سبق واتصلت بأسرار هذا الصباح .. وطلبت منها الحضور إلى هنا فور انصرافها من العمل ..
احتست نوار قهوتها بهدوء وهي تقول :- إذن ... سأتصل بصديقتي مرام ... أظنها لن تمانع بموافاتي على الغداء .. أشعر برغبة غير عادية في الخروج اليوم ..
:- أجلي الخروج حتى الغد ... فلدينا ضيوف على العشاء هذا المساء ..
حدسها الذي كان لسنوات طويلة نائما ليستفيق مؤخرا بعد صدمة طلاقها .. أدرك أن أهمية عشاء الليلة تنبع من حضورها هي فيه .. سألت والدتها بهدوء :- هل لي أن أعرف من يكون الضيوف ؟؟؟
:- لا أظنك تعرفينهم .... السيد راجح كان في وقت ما شريكا لوالدك .. قابلت والدته قبل أسابيع في إحدى المناسبات .. وقررنا تجديد التعارف بين العائلتين ...
قالت حائرة :- والدته ؟؟ لابد أنها كبيرة جدا في العمر إن كان والدها شريكا لوالدي ..
تنحنح والدها بشيء من الارتباك بينما قالت والدتها بنفاذ صبر :- السيد راجح ليس كبيرا إلى ذلك الحد .. بل هو ما يزال شابا في أواخر الثلاثينات ... و ربما في الأربعين .. ووالدك يشهد له بالأخلاق الحميدة والذكاء الشديد ..
قالت نوار بتوتر والشك يبدأ باجتياحها :- وما علاقتي أنا في الأمر ؟؟ الرجل يكبرني بكثير .. ووالدته ربما تكون في عمر جدتي الآن .. ما سبب أهمية وجودي في عشاء ممل كهذا ..
لمحت النظرة التي صوبتها والدتها نحو والدها وكأنها تحثه على التدخل .. فتنحنح مجددا وهو يقول :- لقد زارني في مكتبي قبل أيام طالبا يدك مني يا نوار ..
شحب وجه نوار وهي تنقل بصرها بين كل من والديها وكأنها تنتظر أن يضحك أحدهما معلنا عن مزحة ما .. إلا أن أحدهما لم يضحك وهما ينظران إليها في ترقب لردة فعلها .. وعندما لم تقل شيئا أسرعت والدتها توضح بنفاذ صبر :- هو مطلق منذ ثلاث سنوات .. وأنا متأكدة بأنه لم يكن المذنب في طلاقه إذ أن والدته قد أوضحت بأن زوجته كانت صعبة الطباع ومتطلبة للغاية .. لقد أراد التقدم لخطبتك قبل الآن إلا أنه فضل الانتظار حتى تمر فترة مقبولة على طلاقك ... أليست هذه مراعاة منه ؟؟
كان قدح القهوة ثابتا بين يديها بمعجزة إذ كانت ترتعش من رأسها حتى اخمص قدميها وهي تحدق في والدتها ... ثم بوالدها الذي أخفض عينيه متحاشيا ملاقاة نظراتها .. ثم همست أخيرا :- أمي أنا ... أنا لا أفكر في الزواج الآن ..
نهض والدها فجأة وهو يقول :- سأترككما تتحدثان ...
نهضت والدتها لتشد على يده قائلة بحنان :- لا تجهد نفسك في العمل ..
غمغم مؤكدا بأنه لن يفعل ثم غادر دون أن يلقي نحو نوار المصدومة كلمة ... عندما أصبحت وحيدة مع والدتها .. تمكنت من العثور على شجاعتها المفقودة لتقول بصوت أكثر ثباتا هذه المرة :- أمي ... أنا لا ريد أن أتزوج ..
لم يبد على والدتها أنها قد أخذت اعتراضها محمل الجد .. إذ قالت على الفور وهي تلوح بيدها :- بالطبع تريدين أن تتزوجي ... أنت لن تبقي بدون زواج لما تبقى من حياتك .. أتظنين فراس يظل عازبا لفترة طويلة ؟؟ سرعان ما سيتزوج .. رجل مثله سيرغب في وريث في أسرع وقت ممكن ... وأنا أؤكد لك بأن الفتاة التي سيختارها لن تكون أقل منك جمالا ومكانة إن لم تتفوق عليك ..
ومضت على الفور تلك الصورة الضاحكة للفتاة كستنائية الشعر والعينين ... مما جعل الألم ممزوجا بالذعر يغمر قلبها .. إذ مست والدتها دون أن تعرف نقطة في غاية الحساسية لديها .. الغيرة الوحشية نهشت أعماقها بقسوة مما جعل أصابعها تنقبض حول قدح القهوة حتى ابيضت سلامياتها .. أن يتزوج فراس بالمرأة التي يحب ... بالمرأة التي تخلى عنها هي لأجلها ... أن يتابع حياته من حيث توقفت حياتها هي .. أن ينجب أطفالا حرمها هي من إنجابهم .. كل هذا كان قاسيا .. قاسيا للغاية عليها ..
تابعت والدتها دون أن تدرك التخبط في مشاعر نوار :- أما إن تزوجت أنت أولا ... برجل كالسيد راجح .. شخص مرموق وثري بما يكفي .. فإن الجميع سيظن بأن فراس كان السبب في انتهاء الزواج ... بأن العيب فيه هو لا فيك أنت ..
انتفضت نوار وهي تضع القدح أخيرا من يدها فوق المنضدة .. وتقف قائلة بصوت أجش :- ماذا إن أخبرتك بأنه هو السبب فعلا في الطلاق ... بأنني أنا من طلب الانفصال عنه بسبب عيب فيه هو ..
قالت أمها بسرعة حطمت نوار تماما :- لا يهم ما أصدقه أنا يا نوار ... المهم ما يقوله الناس ... وأنا بقدر ما أهتم لما يقولونه إلا أنني أهتم بك أكثر ... أتظنينني لا أرى حالة الضياع التي تعيشين فيها منذ طلاقك ... أنت تأكلين وتشربين وتنامين لا أكثر .. تضحكين في وجوهنا إلا أنك تموتين في الداخل .. أتظنينني لا أحس بك يا نوار ... أنا أمك ..
تحركت نوار بعيدا وهي تحاول مقاومة دموعها التي أحرقت عينيها .. ثم تمتمت :- أتظنين الزواج مجددا هو العلاج لحالتي هذه يا أمي ؟؟
:- عندما يسقط الفارس من فوق الجواد .. عليه أن يعود ليصعد على متنه على الفور كي يكسر رهبة السقوط
هتفت نوار وهي تضم جسدها بذراعيها :- وماذا إن سقطت مجددا أمي .... ماذا إن فشلت للمرة الثانية .. ماذا إن انتهى هذا الزواج هو الآخر بالطلاق .. ألم يخطر ببالك بأنني قد لا أجد بعدها أي جواد يتقبل أن أعتليه ..
أحست نوار بيد أمها تمسك بكتفها وتديرها إليها ... نظرت أمها إلى وجه ابنتها الشبيه بوجهها ... ابنتها الوسطى الرقيقة والهشة ... هي ليست قوية وعنيدة كأسرار ... هي ليست صلبة وعقلانية كهزار ... إلا أنها ابنة الشاعر هي الأخرى ... ونساء آل شاعر يتمتعن بقدر كبير من الكبرياء .. وكبرياؤهن هذا كما في كثير من الأحيان يكون مصدرا لتعاستهن .. إلا أنه أيضا يكون مصدرا كبيرا للقوة .. وكبرياء نوار هو ما جعلها تتماسك حتى الآن بعد ما فعله بها فراس الحولي .. تتظاهر بالرضا ... تعيش حياتها كما تفعل منذ عام حتى الآن بدون أن تشتكي أو حتى تجرؤ على لوم الرجل الذي نبذها .. إلا أنها تتألم .. كم كانت هي .. والدتها .. تتألم لسنوات طويلة بصمت .. تقمعها كرامتها .. وكبرياؤها اللعين ..
هتفت بحزم وهي تنظر إلى عيني ابنتها :- أنت نوار الشاعر ... ابنة أيمن الشاعر .. الرجل الذي سيقترن بك سيكون محظوظا لحصوله على امرأة مثلك .. وفراس الحولي .. هو الخاسر الوحيد من انتهاء زواجكما .. أتسمعينني ؟؟
حدقت نوار في والدتها بعجز ... الكلمات تحتشد داخل عقلها دون أن تجد طريقة تتمكن فيها من الخروج عبر لسانها لتعبر عما يفيض به فؤادها .. سحبتها والدتها لتضمها إليها وهي تتنهد قائلة :- دعينا لا نستعجل الأمور .. لم لا تقابلين السيد راجح أولا هذا المساء .. وتأخذين فكرة عنه قبل ان تتخذي أي قرارات مصيرية ؟
وهل تمتلك نوار أي بديل آخر ؟؟؟


فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن