الفصل العشرون

834 28 0
                                    



الفصل العشرون


:- آه
تأوه مبعدا وجهه عن مرمى قطعة القطن المبللة بالمحلول المعقم والتي كانت تحاول بواسطتها مسح الجرح الدامي الذي شوه شفته السفلى .. فقالت بتوتر :- توقف عن التصرف كالأطفال ودعني أنظف لك جرحك حتى لا يتلوث
قال بابتسامة متهكمة اتسعت بقدر ما سمح له جرحه بدون أن يتألم :- لا تضخمي الأمر يا نوار ... إنها ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي أضرب فيها .. وقطعا لم تكن المرة الأولى التي أُضرب فيها لأجل إحدى بنات الشاعر .. لقد بدأت اعتاد على الأمر في الواقع ..
جمدت يدها الممسكة بقطعة القطن في الهواء ووجهها الشاحب أصلا يزداد شحوبا وهي تقول :- أنا آسفة لما فعله همام بك ... لم يكن من حقه معاملتك بهذه الطريقة
قال بسخرية وهو يبعد يدها ويقف قائلا :- لم لا .. ألست من اختطف شقيقته ... وأبعدها عن بيتها وعائلتها وعن الوسط الذي اعتادت العيش فيه ؟؟
قالت بحدة :- أنت لم تختطفها ... هي رحلت معك بكامل إرادتها ... فتوقف عما تفعله وهو ما لا أفهمه في الواقع .. إذ أنني لا أعرف إن كنت تلوم نفسك أم تلومني أنا على ما حدث ..
قال بجفاف :- من الأفضل أن أستبدل ملابسي بأخرى نظيفة لا دماء عليها ..
راقبته وهو يختفي في غرفة النوم ... فكبحت دموع القلق التي كادت تتجاوز مقلتيها .. شاعرة بنفسها تضعف مجددا ... تعود إلى نوار الحائرة .. الضائعة .. بعيدا عن هالة قوته حولها .. فنهضت لاحقة به لتجده عاري الصدر أمام الخزانة المفتوحة .. يحدق بمحتوياتها شاردا دون أن يبدو كمن يبحث عما يرتديه .. وقفت وراءه لتلامس عضلات ظهره المصقولة برؤوس أناملها فأحست بجسده يتشنج تحت لمساتها .. همست برقة :- أنا آسفة ..
سمعته يتنهد ... ثم يقول بهدوء :- أنا لست غاضبا منك يا نوار .... أنا غاضب من نفسي
:- لماذا عليك أن تغضب من نفسك ؟؟ أنت لم تخطيء بشيء
عندما صمت دون أن يمنحها الإجابة .. اقتربت أكثر حتى التصقت به .. مسندة خدها إلى ظهره ... ومحيطة خصره بذراعيها وهي تهمس :- لا تتخلى عني يا آدم... أرجوك ... ليس الآن .... لقد وعدت بأن تمنحني القوة لفعل ما أريد .. بأنك لن تتركني أبدا
أحست بالقلق عندما لم يرد عليها ... أحست باليتم ... بالضياع ... وكادت ترفع يديها عنه منسحبة .. فتنطوي على نفسها بعيدة لتلعق مخاوفها وحدها وإذ به يقول بهدوء :- أتعلمين ما منعني من رد تلك الضربة له يا نوار ... من أن أحطم أنفه على تجرؤه على التعالي علي ومد يده علي ؟؟ أنني كنت لأفعل المثل لو أنني مكانه .. لوأن رجلا غريبا حقير الشأن مثلي اختطف شقيقتي الصغرى وأرغمها على الرحيل معه والزواج منه ..
هتفت معترضة :- لا تتحدث عن نفسك بهذه الطريقة ... أنت لست كذلك
استدار مواجها لها وهو يقول :- أنا كذلك في نظرك شقيقك ... في نظر عائلتك .. وفي نظر الناس أيضا .. وربما أصبح كذلك في يوم ما في نظرك انت يا نوار
فتحت فمها لتعترض فوضع أنامله على شفتيها يمنعها من الكلام وهو يقول :- أنا لست غبيا يا نوار ... انا أعرف بأنني الرابح التام من هذه العلاقة .. لقد كسبت زوجة .. وصديقة .. وشريكة حياة .. في حين خسرت أنت كل شيء .. باستثناء ما وعدت بأن أساعدك في تحقيقه ... يوما ما ... ستدركين بأن ما أقدمه لك لم يعد كافيا .. وأنه لم يستحق أبدا ما خسرته لأجله .. يوما ما .. ستتوقفين عن كبح شوقك وألمك لفراق عائلتك ... ستتذمرين مما خسرته من مصادر الرفاهية التي أعجز عن تقديمها لك ... وتحنين إلى حياتك القديمة .. إلا أنك لن تجرؤي على البوح بهذا كله ... لن تمتلكي القوة للرحيل خوفا من إيذائي وقد أدركت إلى أي حد أحتاجك .. وأنا أعدك يا نوار .. الآن .. في هذه اللحظة .. بأنني فور أن أرى الاكتفاء في عينيك .. بأنك ما عدت في حاجة إلي .. فإنني لن أنتظر رحيلك ... أنا من سأرحل مانعا نفسي من أكون عبئا عليك
همست مرتجفة :- لماذا تقول هذا الآن يا آدم ... أنا أبدا لن أفكر بالرحيل ... أنا ..
قاطعها مجددا وهو يمسك بذراعيها برفق وهو يقول :- عندما قدمت لك عرض الزواج هذا يا نوار .. لم أكن أفكر ... لقد خرج العرض من فمي من تلقاء ذاته .. وقد استشعرت ما تحسينه من وحدة ... من عجز .. من ضياع جعلاني أرى فيك شقيقتي ماريا التي عانت وقد كنت أعمى عن رؤية معاناتها .. أصم عن سماع استنجادها الصامت ... فذوت شيئا فشيئا أمام عيني فخسرتها خلال لحظة ... رأيتك تعانين بالمثل .. عندما لم يستمع أحد للألم والمرارة المحتشدين داخل صدرك ... رأيتك بعين الخيال وأنت تذوين شيئا فشيئا في حياة لا تريدينها فلا تجرؤين حتى على الصراخ بحثا عمن ينتشلك من ضياعك .. أردت أن أساعدك .. أن أقف معك حتى تحققي كل رغباتك .. إلا أنني لم أكن نبيلا بحيث تخلو دوافعي من الأنانية ... إذ رأيت في عينيك الدامعتين بالوحدة انعكاسا لوحدتي .. رأيت في حاجتك إلي حاجتي إليك ... إلى شخص في حياتي وقد عشتها وحيدا لسنوات طويلة ... لقد كنت أنانيا عندما دفعتك بوعودي للتخلي عن كل شيء لأجلي ... إلا أنني لن أكون انانيا فأسجنك وأقيدك كما كانت عائلتك لتفعل لو لم نلتق .. لن تهربي من فخ لتسقطي في آخر نصبته لك أنا ... أتفهمينني ؟؟
مدت يداها لتلامس عضلات صدره الصلبة .. وقلبها يخفق تاثرا بكلماته ... وغصة مؤلمة تقف في حلقها حزنا على هذا الشاب الذي ساهمت صعوبة حياته في صنع الرجل الرائع الذي أصبحه .. ألما لألمه ... وغضبا من كلماته .. وافتراضه بأنها سطحية إلى حد أن تفكر يوما بتركه لأجل حياة زائفة كانت سببا فيما مضى في تعاستها ... وشوقا إليه ..
شوقا لا ينتهي إليه ...
كيف تراها تفكر بالرحيل يوما وقد أصبح هذا الرجل جزءا لا يتجزء من كيمياء روحها وجسدها .. كيف تراها تشرح له بأن التفكير بالابتعاد عنه بحد ذاته يحطمها ويجعل كل ذرة حياة في جسدها تذوي ألما ولوعة ..
ربما هي لم تتزوج آدم عن حب ... ربما هي لا تستطيع تعريف مشاعرها نحوه بصدق في هذه المرحلة المبكرة من علاقتهما ... إلا أنها تعرف شيئا واحدا .. هو أنه مع مرور الأيام كان يمتلكها شيئا فشيئا كما كانت هي تحس بخيوط روحه تلتف حول أصابعها ببطء فتصبح ملك يمينها ...
همست له :- دعنا لا نفكر بالقادم ... دعنا نفكر بالآن ... بهذه اللحظة .. بوجودنا معا ... أنا وأنت ..
بجرأة لم تمتكلها قط خلال زواجها بفراس .. اقتربت منه حتى التصقت به لتستشعر قوة جسده .. واستيقاظ رغبته التي لا تنتهي بها .. ورفعت نفسها على رؤوس أصابعها كي تصل إلى شفتيه فتقبله ماحية مخاوفه كلها بقبلتها ...
فلم يخذلها .... لم يمتلك القوة حتى لأن يفعل ... وكأنها كانت تمتص القوة منه لتتركه عاريا .. عاجزا .. وضعيفا أمام سحر أنوثتها .. ما كانت تفعله به كان يخيفه .. ويزرع تلك الفكرة الضبابية داخل عقله وهو يستلم زمام الرقصة التي ابتدأتها فيجرفها معه إلى السرير جاعلا منه مسرحا لعواطفهما المتخبطة ... انه هو وحده .. لا هي .. من وقع في الفخ ...

فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن