الفصل الخامس والثلاثين

763 31 0
                                    



الفصل الخامس والثلاثين




لساعات بكت ... وبكت .. فوق سريرها حتى أعياها البكاء فنامت ... للأسف .. لم تجد في نومها سلاما كما أملت .. إذ حاصرتها صور متلاحقة لكل من والديها .. الحقيقي .. والفعلي .. تقف هي بينهما عاجزة عن الاختيار بينهما وقد خلا وجه كل منهما من الملامح .. ثم تستدل بغريزتها نحو والدها الحقيقي ... محسن .. الذي أحبته طوال حياتها وسيظل والدها الحقيقي إلى الأبد مهما قال لها الآخرون ... اقتربت منه .. وأمسكت بيده .. مدركة بأن ملامحه ستتضح فور أن يثق بنهائية اختيارها .. فور أن تثبت له بأنها لم تخنه .. ولم تسلم ثقتها لغيره .. اختفى كل شيء من حولها فما عاد أيمن الشاعر موجودا في محيطهما ... فقط هو وهي وحدهما والفراغ يحيط بهما .. عندها رفعت عينيها إليه .. لتبدأ ملامحه بالظهور أخيرا .. إلا أنه لم يكن محسن .. لقد كان شخصا آخر .. لقد كان قصي ..
هبت من نومها مستيقظة مرة واحدة وهي تلهث ... منامتها الخضراء ملتصقة بجسدها بسبب العرق .. لوهلة ... لم تعرف أين هي ؟؟ لم تتعرف إلى معالم الغرفة المحيطة بها .. حتى أدارت رأسها وانتفضت وهي ترى ذلك الجسد الذي أخفى الظلام حدوده .. وقد جلس فوق مقعد على بعد مترين من السرير ...
خوفها من أن يكون شبح كابوسها قد قفز منه ووجد طريقه إليها نحو الواقع .. تلاشى مرة واحدة عندما عرفها المنطق إلى رائد .. لقد عاد ... عاد وجاء إليها ... ناسية تماما اتهاماته البشعة التي سبقت رحيله .. مغمورة بالراحة لرؤيته بعد كابوسها ذاك .. همست :- رائد ..
قال بصوت جامد :-آسف إن كان قد أيقظك وجودي ..
مدت يدها لتنير الأباجورة المجاورة للسرير كي يشع ضوئها الأصفر فيبدد ظلام الغرفة ويسمح لها برؤية وجهه أخيرا ... لقد كان مشعث المظهر .. شعره فوضوي وكأنه قد بعثره بأصابعه كثيرا ... وجهه مرهق .. وملابسه مجعدة .. ذقنه نامية .. و .. غاضب !!!
أهو غاضب منها ؟؟ انكمشت وهي تتساءل بألم إن كان يصدق بالفعل ما سبق واتهمها به هذا المساء .. تمتمت وهي تتحاشى النظر إليه :- أنت لم توقظني ...
:- أهو كابوس ما كنت ترينه أثناء نومك ؟؟ ذاك الذي كنت تتقلبين كالمحمومة بسببه ؟؟
أجفلت لسؤاله ... أكان يراقبها نائمة لفترة طويلة ؟؟ وجهه كان قاسيا ... جافا تماما عن المشاعر التي كانت تراها فيه في الآونة الأخيرة .. أتراه سئم منها ؟؟ اتراه اكتشف بأنه ما عاد يريدها ؟؟
سألها متابعا بنبرة مظلمة :- هل كنت أنا بطل كابوسك هذا يا زين ؟؟
ردت بدون تردد مذعورة للفكرة :- لا .. لا .. أبدا ..
رمش بعينيه وكأن نفيها السريع هذا قد صفعه .. ثم ضحك بمرارة قائلا :- أتخافين على مشاعري بعد كل ما قلته لك قبل رحيلي هذا المساء ؟؟ حقا زين .. مم أنت معجونة ؟؟ ما الذي تأملين حقا بالحصول عليه من مداراتي ومداهنتي بهذا الشكل ؟؟ ألا تعرفين أن رجلا مثلي لا يمكن أن تنالي منه سوى الدمار والتعاسة ؟؟
همست :- أنا لا أصدقك ..
قال بصوت مكتوم :- انا جرحتك هذا المساء .. أهنتك .. ووجهت نحوك كلمات لا تغتفر ببشاعتها ..
:- أعرف بأنك لم تعنها ..
الألم الذي رأته يرتسم على وجهه صدمها وهو يقول :- هذه هي المصيبة يا زين ... أنا عنيتها .. أنا عنيت كل كلمة .. أنا لا أثق بك .. ولن أثق بك أبدا .. إنه جزء من طبيعتي .. جزء من جيناتي ... وهو شيء لا يمكن أبدا أن يتغير ..
قالت والدماء تنسحب من وجهها :- ما الذي تريد قوله لي ؟؟
نهض من فوق المقعد وهو يقول بمرارة :- أنا لا أثق في النساء يا زين .. هن دائما في نظري مخلوقات مادية .. شهوانية .. خلقن لملاحقة الملذات الجسدية والدنيوية .. لا تعبأن سوى بأنفسهن ... وأنت لست استثناءً .. ولن تكوني كذلك قط ...
عرف بأنه قد حقق هدفه بكلماته ... بأنه قد صفع روحها فيها عندما نظرت إليه رافعة عينيها الواسعتين نحوه مصدومة .. مجروحة .. ترتجف كورقة في مهب الريح .. همست :- لماذا تزوجتني إذن ؟؟ ما دمت تراني على هذه الصورة البشعة ؟؟
زفر بحرقة .. فكادت أنفاسه العنيفة تصلها لتشعر بحرارتها ومرارتها وهو يقول كمن يقر واقعا :- انا أريدك ... منذ أول مرة وقع فيها عليك بصري .. أريدك .. بكل جوارحي .. بكل نفس يتردد داخل صدري .. أنا أريدك .. أريد كل جزء منك .. جسدك .. روحك .. أريد هذه البراءة في عينيك .. هذه الرقة في رعشة شفتيك .. أريد امتصاص هذه الوعد بالخلاص الذي تمنحينه لي في كل مرة تتغاضين فيها عن تحذيراتي لك .. في كل مرة تمنحينني فيها ثقتك دون أن أستحقها .. أنا كرجل مصاب بمرض عضال لا شفاء له .. عاش طوال حياته يعاني نتائج ذلك المرض يائسا من شفائه منه .. ثم وجد أخيرا دواءً مسكنا ... مسكنا لا أكثر .. شيئا كفيلا بتخفيف حدة الألم .. بتذكيره كيف يمكن لشخص صحيح الروح والجسد أن يشعر للحظة ... للحظة واحدة فقط .. أنت ذلك المسكن ... إلا أنك تظلين مسكنا ... يفقد مفعوله بعد ساعات من تعاطيه .. ومع الوقت .. يفقد حتى تأثيره المسكن ... ليعود الألم من جديد .. فدائي ... لا دواء له ... لا دواء له أبدا ..


فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن