الفصل الثانى عشر

763 31 0
                                    




الفصل الثاني عشر

قبل أيام ...

دفع آدم باب المقهى وهو يتطلع حوله على عجل حتى رآها تجلس في مكانهما نفسه ... تلك المائدة النائية التي كان يختارها بدوره تلقائيا كلما جاء لزيارة صديقه وكأنه يتلمس عبر المقعد .. عبر سطح الطاولة الأملس آثارها .. لقد كان ينتظرها .. في توتر لم يدرك مقداره حتى اتصل به صالح معلما إياه بوجودها .. أخذ نفسا عميقا وهو يتحرك نحوها ببطء لم يلفت انتباهها على الفور مما أتاح له فرصة تأملها جيدا قبل تنصب أسوارها ودفاعاتها في وجهه .. نوار الشاعر ... لم تكن مجرد امرأة جميلة .. لقد كانت روحا صافية .. نقية .. هشة .. شيئا ثمينا لا يصدق أن رجلا كزوجها السابق قد امتلك ما يكفي من الغباء كي يتخلى عنه .. حتى كطفلة كانت مميزة .. ببرائتها الغير عادية في زمن تلاشت فيه حتى براءة الأطفال .. براءة كان قد نسيها تماما حتى رآها مجددا ..
هو حتى ما كان يذكر الطفلة الوسطى لعائلة الشاعر في الأوقات النادرة التي كان يتذكر فيها فترة عمله لديهم .. لقد كان يتذكر همام ... شاب ذكي مشاكس .. إلا أنه لم يعامله قط كمجرد سائق .. يتذكر أسرار التي تسببت بطرده فيضحك .. إذ أنه لم يحمل ضغينة اتجاهها قط رغم كل ما حصل .. يتذكر الطفلة الصغرى ... ماذا كان اسمها ؟؟ شيء شبيه بأسماء شقيقتيها بدون شك .. إلا أنه يذكرها لعبة عابسة كان يحب مشاكستها بين الحين والآخر فقط كي يرى ضحكة تثبت أنها ليست حقا شخصا ناضجا يرتدي حلة طفلة ..
إلا نوار ... الطفلة الهادئة الصامتة .. لم يتذكرها حقا حتى رآها مجددا ... امرأة دفعته باضطرابها وضياعها اللذين كانا واضحين عليها في لقائهما الأخير إلى القيام بآخر شيء فكر يوما بالقيام به .. بعرض الزواج عليها .. هو الذي أدرك وقد أقسم يوما على أن يعيش كل يوم بيومه بدون هموم أو ضغوط بأنه لن يتزوج أبدا .. امرأة لم يدرك بأنه يريدها حقا إلا عندما وجد نفسه يصحو خلال الأيام الأخيرة التي عاشها في ترقب وانتظار لجوابها كل ليلة غارقا في أحلامه بها ..
ما كان يقوم به كان جنونا محضا ... إلا أنه ذلك النوع من الجنون الذي لا رجعة بعد البدء فيه ...
رفعت رأسها إليه .. فارتبكت .. وجهها الجميل يتخضب بحمرة الحرج والتوتر .. فجلس مقابلا لها وهو يقول بدون مقدمات :- ما من حرج في قدومك إلى هنا يا نوار ...
تمتمت :- ربما غيرت رأيك وقررت سحب عرضك ..
:- بل أنا كنت في انتظار اتصال صالح بفارغ الصبر .. أفترض بأن حضورك اليوم معناه أنك موافقة على عرضي لك ..
تململت فوق المقعد وهي تقول بارتباك :- لا .. لا أعرف .. أعني .. أنا .. أنا خائفة ..
:- أفهم ... أفهمك جيدا ..
مد يده عبر الطاولة ليمسك بأصابعها الباردة فيدفئها بأصابعه قائلا وهو ينظر إلى عينيها :- أنا أيضا خائف .. خائف للغاية يا نوار .. أنا عشت وحيدا لسنوات طويلة ... لقد علمت نفسي على أن خير الأمور وأبسطها هي أن أبقى وحيدا .. ليس من السهل علي التورط مع شخص آخر من جديد .. أنا أيضا أخاف من الفشل .. أخاف من الخذلان .. من أن تخذليني يا نوار ..
طأطأت برأسها لينسدل شعرها فاحم السواد حول وجهها مخفيا معالمه .. إلا أنها لم تسحب يدها .. تمتمت :- ما رأي شقيقتك في الموضوع ؟؟ ماريا ... صحيح ؟؟؟
قال بهدوء :- ماريا توفت منذ فترة طويلة ... عندما قلت بأنني وحيد تماما .. فقد عنيت هذا حرفيا ..
رفعت رأسها إليه لتنظر إلى وجهه الهاديء .. إلى السلام في ملامحه الوسيمة وهو يتحدث عن وفاة شقيقته التي أظهر بوضوح أثناء حديثه عنها سابقا مقدار حبه لها .. همست :- أنا آسفة
:- لا تأسفي ... فقد كان في موتها راحة لها .. هذا ما أقنع نفسي به على الأقل كلما تذكرتها كي لا أنتهي مجنونا بفعل الأسف .. لقد عانت ماريا من الاكتئاب الحاد على إثر وفاة والدتي .. كلانا تأثر بشدة لوفاة المرأة التي كانت أكثر من مجرد والدة لنا .. لقد كانت كل شيء .. كل شيء .. الأم .. الأب .. الأخت .. الصديقة .. ظننت بأن الوقت كفيل بشفاء روح ماريا .. في حين أغرقت أنا نفسي بالعمل .. قبل وفاة والدتي كنت أعمل بدوام جزئي بعد الجامعة لمساعدتها في مصاريف البيت .. وبعد وفاتها .. وجدت نفسي مضطرا لتكريس وقتي كله للعمل .. أي عمل .. فقط كي أشغل نفسي عن التفكير بخسارتي .. إلا أنني لم أدرك بأنني كنت أشغل نفسي عن شقيقتي أيضا حتى حصلت المأساة .. ماريا ماتت بسبب توقف قلبها على إثر إصابتها بمرض فقدان الشهية وهو ما لم أعرف به في حينها بسبب ..... بسبب انشغالي .. أنا حتى لم ألاحظ نحولها الذي بدأ يتزايد شيئا فشيئا حتى حملتها بين يدي جثة هامدة لا روح فيها ..
أدارت يدها كي تعانق هي أصابعه هذه المرة وهي تقول :- لا تلم نفسك ... أنت أيضا كنت تتألم ..
قال بخفوت :- أنا كنت الأخ الأكبر .. أنا من كان علي الاعتناء بها إلا أنني لم أفعل ..
صمتت للحظات كما صمت هو ... يغرق هو في ذكرياته وهي في لوعتها لما تعرفه عن المآسي التي عرفها الرجل الجالس أمامها ... ألا تبدو مشاكلها سخيفة وسطحية إلى جانب مشاكله ؟؟
سألته بلطف :- متى توفيت ؟؟
:- بعد طرد والدك لي بأسبوعين .... أظن المصائب تأتي عادة مرة واحدة ..
شدت على يده .. مما دفعه للنظر إليها ... والغرق في اكتشافه الحديث لروعة وجود من يشاركه آلامه .. أحزانه .. ومشاكله ... فجأة ... كل تردده طار مع الهواء وهو يقول :- هل تتزوجينني يا نوار ؟؟
عادت ترتبك .. وأصابعها تنسحب بعيدا مما جعله يشعر باليتم فجأة .. تمتمت :- ربما علينا أن نتحدث عن الموضوع أولا ... أن نضع النقاط على الحروف أو ما شابه ..
هز رأسه وهو يقول بهدوء :- أخبريني ... الآن وحالا ... بما تريدينه يا نوار ... بشروطك .. ومطالبك .. وأنا أعدك بأن أحققها كلها لك ...



فى قلب الشاعر الجزء الخامس من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومى حيث تعيش القصص. اكتشف الآن