قلبك الأساس الأول، وعليه في اتزانك المُعَوَّل، حاجاته الإيمانية هي الحاجات المقدَّمة، إن يهده الله إليه ويصرِّفه على طاعته ويثبته على دينه؛ فقد أشبع برحمته حاجاته، وإلا فشقاؤه الشقاء المبين.لكنَّ إرجاعك كل ما تكابده في الحياة إلى قلبك (وحده) ظلمٌ بيِّنٌ وقصورٌ شديدٌ؛ فإن لك نفسًا تلحُّ حاجاتها عليك في إشباعها، ولك عقلٌ تلحُّ حاجاته عليك في إشباعها، ولك جسدٌ تلحُّ حاجاته عليك في إشباعها، ولك عاطفةٌ تلحُّ حاجاتها عليك في إشباعها، ولك أسرةٌ تشتبك معها في مساحاتٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ، ولك دوائر علاقاتٍ أخرى تشتبك معها أيضًا، وفي كلٍّ تؤثر هذه الاشتباكات فيك.
أنا لا أريدك أن تُغفل قلبك في بحثك مشكلاتك؛ فإنه الأساس الأول؛ لكن يجب -مع ذلك- أن تعرف ما عندك من مشكلاتٍ أخرى غير مشكلاته الإيمانية، وأن تواجه كل مشكلةٍ بما يليق بها، نظرًا وعملًا، "قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا". كيف إذا علمت أنه لا ينفك جانبٌ فيك عن جانبٍ تأثرًا وتأثيرًا؟
كثيرًا ما يشكو إلي شبابٌ اكتئابهم، لا يعزون ذلك إلى غير قلوبهم، وأنا لا أدفع هذا السبب العظيم عنهم رأسًا؛ لكني أنظر إلى أحوالهم -ولا بد من ذلك بأقصى درجةٍ ممكنةٍ- وإلى واقعهم خاصِّه وعامِّه، فأجد عامة حاجاتهم غير مشبعةٍ، النفسية والعاطفية والحسية والعقلية والاجتماعية، لا أتكلم هنا عن الإشباع التام لهذه الحاجات وأنا أعرف حقيقة الدنيا والواقع؛ بل عن الحد الأدنى من الإشباع الضروري.
بعض ذلك راجعٌ إلى تفريطهم في الأسباب التي يسر الله لهم، وبعضه إلى سوء الأحوال العامة، وبعضه إلى غير ذلك، ولا ينفك هذا كله عن معنى الكَبَد الذي خُلقنا فيه، والابتلاء الذي وُجدنا له.
إن عامة الوعظ الشائع الذي يتلقاه شبابنا -وما أكثر دواهيه وأشدها!- لا يقول لهم سوى ذلك، يغدو الشاب إلى شيخه فيحدثه عن اكتئابه، فيتلو الشيخ عليه قول الله -جلَّ وعلا-: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا"، وقوله -تبارك وتقدس-: "وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ"، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلًا؛ فإن عامة ما يشكوه الناس من الضنك والضيق راجعٌ إلى قلوبهم؛ لكن الحق أن حصرهم أسباب الاكتئاب في ذلك؛ جَوْرٌ على الإسلام وعليهم.
أما جَوْره على الإسلام فإنه ليس فيه حصر أسباب مشكلات الإنسان كلها في قلبه، بل تشهد أدلته الظاهرة المتكاثرة إلى عامة أسبابها الأخرى، وأما جَوْره على هؤلاء فأنهم إذا رجعوا إلى قلوبهم فجدُّوا في إصلاحها مرارًا، ثم وجدوا سائر مشكلاتهم كما هي؛ أساؤوا الظن بأنفسهم في مرحلةٍ، ثم بالشيوخ في مرحلةٍ وسطى، ثم بالإسلام نفسه في المنتهى، وما أمر "الإلحاد النفسي" عن واقعنا ببعيدٍ.
لعل قائلًا يقول: إنهم إذا اعتنوا بإصلاح قلوبهم وبقيت مشكلاتهم كما هي؛ فإن صلاح قلوبهم يفيض عليهم فيها من جُمَل الصبر والتوكل والتفويض والتسليم والرضا؛ ما يواسَون به كثيرًا، وهذا حقٌّ مقطوعٌ بصحته؛ لكن في إدراكهم العقلي النظري لطبيعة مشكلاتهم الأخرى باب مواساةٍ لهم آخر، ثم إننا مكلفون أن نقول صوابًا، وألا نتكلم في داءٍ ودواءٍ بغير علمٍ، وما علينا بعد ذلك من سبيلٍ.
#اضــاءهة
أيها الشباب؛ قلوبَكم قلوبَكم، وانظروا سائر جوانبكم وحاجاتها، وأنزلوا بالله كفايتها، وأبشروا.
