المُقدمة

4.7K 76 51
                                    

المُقدمة
"استوصوا بالحبيب غزلًا"

"انتظري يا آنسة، إلى أين أنتِ ذاهبة؟!"
انتفضت الفتاةُ عندما قطع ذاك الغريبُ صوت الهدوء حولها فصاحت به قائلةً بشراسةٍ هي جزء من شخصيتها النارية: "تبًا لك، أفزعتني يا هذا"
صُدِمَ الشاب من ردِّ فعلها فكرر كلماتها المُهاجِمةَ مَذْهُولاً: "تبًا لي!
أهذا ثغرٌ أم مدفعٌ للأحجار الثقيلة" قال جُملة بهمسٍ مستنكر لم تسمعه جيدًا فهدرت بعنفٍ قائلة: "أتقول شيئًا يا هذا؟!" هز رأسه نافيًا وهو يرُّد قائلاً بابتسامةٍ صفراء: "سلامتُكِ" بعدها تناول نفسًا عميقًا ثم زفره بخفوتٍ تلا ذلك تحدّثه بنبرةٍ مهذبة مُناقضة لابتسامته الصفراء السابقة: "أردتُّ سؤالكِ عن سبب تواجُدكِ هنا آنستي فالمكانُ غير آمن أبدًا ومن الخطر اقترابك من البحر هكذا خاصةً وهو ثائرٌ بشدة كاليوم، من فضلكِ اتركِ مسافةً آمنة بينكما والأفضل أن تعودي للمنزل قبل أن يسوء الطقس أكثر" نظرة الفتاة حولها وكأنها تبحث عن شيء ما ثم هتفت بسخرية: "ما هذا! أتصدِّقُ أنِّي لستُ في منزلكم؟!" تجعدت ملامح أدهم قليلًا ثم أجاب دون فهمٍ وهو يستشعرُ أن هناك إهانة في الطريق إليه: "منزلُنا؟!"
اغمضت الفتاةُ عيناها بقوة وهي تطلبُ الصبر من الله ثم جزت على اسنانها وصاحت في وجهه بحدَّةِ وانفعالٍ: "وبما أنّي لستُ في منزلكم ما دخلُكَ؟
لماذا تحشرُ أنفك الشبيه بأنف الناقة هذا في ما أفعل!" فغر الشاب ثغره مصدومًا من انفعالها وشراستها في تسديد الضربات الجارحة لكرامته فتدارك ذهوله وتصاعد غضبه مُقررًا ترديد لكمةٍ لها تقصفُ جبهتها فقال بسخريةٍ مُتهكمة: "أنا مَن أخطأتُ حين وقفتُ وحادثتُكِ لكن اعذريني فهذه أول مرة لي أتحدثُ فيها مع بقرةٍ تنطحُ بكلماتها، سلام"
تركها الشاب وغادر مُبتعدًا فزفرت بضيقٍ ثم التفّت تنظرُ للجهةِ الأخرى تُتابع ما كانت تفعل، تنظُر للبحر بعشق خالص، تحبه.. بل تذوب فيه عشقًا، لانت ملامحُها وابتسمت ابتسامة طفولية لا تظهرُ إلّا في لحظاتِها الخاصة التي تنفرد بها لنفسها، أخذت نفسًا عميقًا من هواء البحر العليل ثم خلعت حذائها بحماسٍ واقتربت بهدوءٍ من تلك الموجات الصغيرة الناعمة، داعبت الموجاتُ قدميها كأنها تُرحِّبُ بها فتعمقت أكثر مُقتربة من ذاك الموج السريعُ الثائر كما وصفه ذاك الغريبُ منذُ لحظات، غمست جسدها في الماء أكثر حتى أصبح الموج يدفعها بشراسة وكأنه يُطالبها بالرحيل ومغادرةِ أمواجه أو ربما بالخروج منه قبل أن تضيع بين تلاطم جباله، أما هي فكانت كلما ضربتها موجة ودفعتها بقوة سرت قُشعريرة لذيذة في سائر جسدها بسبب برودة الطقس الملامس لبشرتها ودفئ المياه المُتدفقة فوق ثنايا جسدها، كانت تُقابل غصبه بمزاجٍ تملأه الفراشات الوردية وصدرٍ رحب يتسع لما بين المشرق والمغرب، فهي تشعرُ معه أنه حبيبها المُشتاق الذي يغمرها بقوة أو يحبها بشدة لكن على طريقته الخاصة.
فجأة تساقطت قطراتُ المطرِ فوقها بغزارة فضحِكت برقةٍ نادرة وهي تدور وتدور أسفل تلك القطراتِ المُنعشة، الشاطِئُ كان خاليًا ومهجورًا لا أحد يسيرُ عليه أو يقترب منه في ظل تلك الأيام الشتوية الباردة، وهذا أمرٌ طبيعي فمَن العاقل الذي قد يزور البحر ويُفكِّرُ في الغوص بين أمواجه في ظل هذا الطقس المتجمد خاصةً مع نوباته المُتقلبة، ورِمالُ الشاطِئ كانت شاسعة تُحيطُها من كل حدبٍ وصوب، إذا أرادت الخروج منه ستستغرقُ وقتًا طويلًا لتصل لنهايته التي لا شكّ أنها ستكون أيضًا غير مأهولة بالبشر أو وسائل المواصلات نظرًا لهذا الجو العاصف، الوضع مُخيفٌ جدًا، أنها حقًا معزولةٌ عن العالمِ بأسره، لا يسمعُها إلا البحر ورماله!
وإن أصابها مكروه؟
فيستحيلُ أن تأتيها النجدة أو أن يسمعَ أحدهم صراخها واستغاثها.
وصديقتنا الصغيرة تعشق زيارة البحر وحدها، لأنه يُشعرُها أنه مثلها، وحيدٌ وبداخله صراعاتٌ كثيرة وعواصف لا تهدأ أبدًا، وهذا المزاجُ لا تجده إلا في الشتاء القارس أما في الصيف يصبِحُ مُملًا رتيبًا والأسوأ من هذا كونه مكتظًا بالبشر البارعين في تلويث مياهه الرائقة وتعكير صفوه.
ورغم الخطورة التي تواجهها في هذا الفصل إلّا أنها لا تهتم، وإن حاربها العالمُ أجمع لن تكترث، يكفيها الاستمتاع بتلك اللحظاتِ الخاصة، حتى منع أهلها المتكرر لها لن يمنعها من زيارة البحر، ستظل تتسلل دون علمهم وتذهب للقاء البحر يوميًا بعد صلاة العصر ثم تُجالسه حتى المغيب وبعدها تعود قبل حلول الظلام.
تجازف بحياتها وتخطُّ بيديها حروف نهايتِها عندما تذهب وحدها لشاطئ يعُد مهجورًا في هذا الوقت، إن خُطفت أو قُتلت لن يكون لها أثر، وتُجازف مرة أخرى عندما تثق في غدر البحر وتسبح فيه وحدها دون مرافق.
الأمر خطير فهو أشبه بشخصٍ يتحدى الموت!
وعلى سبيل الغدر فالبحر أظنه أجاب النداء عندما اشتدَّ المطر وضربَ الرعد الآذان كما شقَّ البرق السماء، كلُّ هذا كان مُصاحبًا لهيجان البحر الذي بدأ في صُنع موجاتٍ عملاقة إحداهم طالت صديقتنا غدرًا والتهمتها بالكامل، موجة فوق أخرى قفزت خلفهم وكأنها تُؤكِّدُ على دفن الفتاة بداخلِها وقد نجحت...

استوصوا بالحبيب غزلًا "للكاتبة منى علاء شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن