2- بئس الخبر وبئس الخطة

970 38 52
                                    

الفصل الثاني
”بئس الخبر وبئس الخطة“

فهتف أدهم مستنكرًا بعصبية وغيرةٍ حارقة: ”ومَن هذا الخيَّالُ الذي سيُحيلُ ليلتها لظلامٍ دامس إن شاء الله“
لتهتف رودين ببراءة: ”خطيبها“
للحظاتٍ جمّدته الصدمة وشُلّت أطرافه، كانت وكأنها سكبت دلوًا من الماء البارد فوق رأسه، تاج مخطوبة!
هل انتهى الأمرُ بهذه البساطة؟!
بعد سنتانِ من الانتظار المُضن والمُراقبة في صمت تضيعُ منه بهذه السهولة..
لكن كيف؟
بل متى حدث هذا لقد تأكد بنفسه أن أناملها خالية مِن أي طوقٍ معدني يَدلُّ أنها موعودةٌ لآخر..
هل خانته عيناه! مُستحيل فهو تأكد بدل المرةِ ألف: ”هذا مُستحيل، أنتِ تهزين!
لقد راقبتُها لعامان كاملان، أنا مُتأكدٌ أنها غير مُرتبطة“ ثم تابع مؤكدًا: ”هي لا ترتدي خاتم خطبة“ بعدها مسح على رأسه بغضبٍ ويهو يشعرُ أن رأسه ستنفجر، عاد بعينيه إليها قائلًا بلهفةٍ وحسرة وألمٍ وترجي وغضبٍ عارم: ”لقد كنتُ أتحسسُ نبضها اليوم ولم أرى أي خاتم في إصبعيّها، ولا تُخبريني أنه كان واسعٌ عليها وسقط منها في الماء“ دار حول نفسه وهو يجذبُ شعره بغيرةٍ وجنونٍ وانفعالٍ وحنقٍ واختناقٍ شديد ثم تابع بلهجةٍ مُتملكة شديدةُ الغيرة: ”اسمعيني حضرتك تاج لي، أنا أحببتُها أولًا، وتعلق قلبي هذا بها ولن يقبل بخسارتها أبدًا، فليقترب منها أي مخلوقٍ ولدته أمه وسيرى منِّي ما لن يسرّه أبدًا“
كانت رودين مُنكمشة للخلف تحتضنُ بطنها المُنتفخة ببعص الريبة بسبب ثورته الهائجة فاغرة الثغر مصدومةٌ بشدة من حديث ذاك الغريب الذي رأته اليوم لأول مرة، لاح منها نظرةٌ لتاج النائمة بشحوبٍ ثم قالت بضيقٍ وهي تعقدُ حاجبيها: ”الحيوانية كانت تخرجُ معك وتكذبُ عليّ قائلةً؛ أنها وحدها دائمًا ولا أصدقاء لها..
وأنا الغبية كنت كالببغاء أحكي لها كل شيءٍ يجول بصدري أو يحدثُ في يومي!“ ثم تهجمت ملامِحُها فجأة لتثور قائلة: ”أتستغفلينني يا تاج!
أقسمُ بالله سأفتِنُ عليكِ هذه المرّة يا خائنة“
بينما شعر أدهم ببرودٍ مُفاجِئ كأنه لم يتوقع ردّها أبدًا، هو يقول شيء وهي تفكرُ وتهتفُ بشيءٍ آخر تمامًا، هل هذا كل ما جذب انتباهها في هذه اللحظة!
هل العائلة بأكملها معتوهة..
حكَّ جبينه بصمتٍ وهو يجزِمُ أن العته وراثيٌ في هذه العائلة.
لكن بعد جملتها الأخيرة اهتزّت حدقتاه وهتف مُوضحًا وهو يبتلعُ ريقه: ”يا مدام رودين قلتُ أنا الذي كنتُ أُراقبُها وهي لم تلتقي بي أبدًا من قبل، اليوم كان لقائنا الكارثي الأول، وكنتُ أُريدُ التقدم لا أكثر“
ضيقت رودين عينيها ثم عقدت حاجبيها قائلةً بتبرم: ”ما الذي تهذي به يا هذا تتقدم لمَن؟“
فقال ببداهة: ”لتاج“
”تاج!“ قالت مُستنكرة فأومأ مؤكدًا لتسأله ببعض الحدّة: ”لماذا؟!“
حكَّ أدهم جبينه مجددًا لكن ببعض الريبة والتوتر قائلًا بنبرةٍ خافتة وحذرة بعض الشيء: ”أنا مُعجبٌ بتاج، لكنّي لم أُصارِحُها أبدًا حتى الآن“
نظرت له بشكٍ وهي تُضيّقُ عينيها قائلةً بوجوم: ”وكيف ألتقيتَ اليوم بها؟“
تنهد وهو يجذبُ أحد الكراسي الموجودة في بداية الغرفة ثم وضعها على مسافةٍ مُناسبة منها وجلس يبتلعُ ريقه ليهمس بخفوتٍ وهو يُجلي صوته: ”كنتُ في زيارة لأحد أصدقائي وقصدتُ المُرور من أمام منزلها علّني ألتقي بها صدفة وقد حدث ورأيتها تخرجُ مِن المنزل فلحقتُ بها، وجدتُها مُتجهة لشاطِئ البحر فتبعتُها لأنّي خفتُ عليها، في العادة كنتُ أكتفي بمراقبتها من على بعدٍ مُناسب لكن اليوم..
اليوم كان البحرُ ثائرًا بشكلٍ مُخيف فحاولتُ مُحادثتها ولكننا تشاجرنا وتركتها لأعود لسيّارتي وعندما رأيتُ قطرات المطر تُبلِّلُ كتفي عدتُ مُسرعًا لأجدها تختفي بين الأمواج، حينها شعرتُ بالجنون وقفزتُ خلفها وأخيرًا الحمد لله أخرجتُها وجِئتُ بها مُسرعًا إلى هنا لأطمَئنّ عليها“
أسبلت رودين جفنيّها وهي تستشعرُ صدقه، قضمت شفتيها السُفلى بتوترٍ وتردد ثم همست بخفوتٍ حزين شارِد: ”تاج ليست مخطوبة بالمعنى الحرفي، أو بمعنى آخر مُكرهة على تلك الخِطبة ولا تُريدُها“ ثم رفعت عيناها إليه في مُحاولةٍ لتقرأ عيناه وتابعت قائلة: ”والدها أجبرها على الزواج مِن شخصٍ بينهما مصالِح مُشتركة ليتخلصَ منها“
لمعت عيناها بالدموع وهي تُعانق بطنها أكثر قائلة باختناقٍ ونبرةٍ مُتألمة: ”نحنُ لدية مُجرد سلعٍ تُباعُ وتُشترى، ونعم هي لا ترتدي خاتم خطبة لأنها لم تخضر تلك الخطبة أبدًا“ ثم تابعت بلهجةٍ ساخرة ونبرةٍ مُتهكمة وهي تنظرُ أرضًا: ”خِطبة بدون عروس هل تُصدق!“
شبحُ ابتسامةِ أمل قفزت لوجهه سُرعان ما أخفاها بجدية وهو يهمسُ بخفوتٍ مُترقب: ”هل هرِبت مِن الخطبة؟!“
فأجابت رودين بسخرية: ”تاج قوية لا تهربُ مِن شيءٍ أبدًا بل تواجهه بكل شجاعة وقوة، يا ليتها خرجت لهم على الأقل كانوا هربوا ولم يبقوا لدقيقةٍ واحدة ولكنّ أباها سامحه الله سجنها في القبو ولم يسمح لنا بإخراجها قبل مُغادرة الضيوف“
عقد أدهم حاجباه بعد فهمٍ قائلًا: ”لماذا؟“
ابتلعت رودين ريقها بتوتر ثم قالت بتلعثم وخجل: ”لأن.. لأنها.. أقصدُ أن لسانها كالمبرد قليلًا.. لا بل في الواقع كثيرًا وكانت ستتسبب في فسخ الخِطبة والصفقةِ أيضًا ويفشل مُخطط والدها“
قهقه أدهم بسخرةٍ قائلًا: ”الآن تُخبرينني بهذا!
لقد جربتُ لسعته وانتهى الأمر“
طالعته رودين بصدمةٍ تحولت سريعًا لإحباطٍ فنظرت لتاج بنظراتِ يأسٍ قائلة: ”بهذه السرعة قذفت حجارتها في وجهك!“
بعدها أعادت نظرها له بحسرةٍ قائلة: ”وأنتَ بالتأكيد تراجعت مشاعرك أليس كذلك!
والله يا بُني معكَ كلُّ الحقِّ وأعذرُك بالطبع فتاج قادرة على جعل قبيلةٍ كاملة تهجُّ مِن موطنها بسبب لسانها السليطُ لكنها واللهِ فتاةٌ طيبة و...“
”لحظة، لحظة ومَن قال أنّي تراجعت؟ أنا ما زلتُ باقيًا عليها ومُصرًّا على الزواج منها، أنا..“ ثم نظر لتاج بحبٍ وأكمل: ”أُحبُّها ومُستعدٌ لدفع عمري بأكمله مهرًا لها“
بعدها عاد بنظره لرودين وتنحنح قائلًا بتملُّك وغيرة ثم خوفٍ وترجي: ”تاج لن تكون لغيري سأموت حينها، أنا لدي فُرصةٌ معها بما أنها مُجبرة أليس كذلك؟!“ قلبه كان ينبضُ ببطءٍ شديد يترقبُ كلماتها بلهفةٍ شديدة وخوفٍ أشد، وكأنها في هذه اللحظاتِ قادرة على قتله أو إحياءه بكلمة، كلمة واحدة أدقُّ من الشعرة هي الفاصلة بين موت روحِه وقلبه أو أنعاشهما وبثّ الحياةِ فيهما.
شردت رودين للحظات تُفكر وهي تُملِّس على بطنها المُستديرة المُنتفخة، هل تثقُ في الحب مُجددًا بعد ما خذلها من قبل؟
هل تثق في هذا الغريب أم أنها مُجازفةٌ خاسرةٌ أخرى!
ترددت كثيرًا وتناوبت الكثيرُ من العلامات المُتباينة على وجهها، بعضها كان مُتشبثًا بأملٍ ضئيل والآخرُ كان مُتألمًا وغيرهما الخوف والحنينُ للحب واللهفةُ لإنقاذ ابنتها تاج وآخرهم كان الثقة لذاك الغريب الذي لا تعلمُ مصدرها وكيف حصلت عليها، لكن لديها يقينٌ عظيم أن الله لن يخذلها أبدًا وسيُعينُها في مُهمتها لإنقاذ تاج من بين براثين والدها الظالِم، طال صمتُها لكنها في النهاية ابتسمت بمكرٍ قائلة وعيناها تلمعُ بإصرارٍ جديد: ”إن كنتَ تحبُّ تاج لهذه الدرجة فدعني أُعطيكَ فُرصة وأُخبِرُكَ بخطةٍ ستضمنُ أن تكون لكَ لكن بشروط...“
ابتسم أدهم وتنفس الصعداء أخيرًا قائلًا بلهفة: ”أقبلُ بأي شيءٍ في سبيل اجتماعي بها“
”تاج ستكون في خطر، لذلك أستقدرُ على حمايتها منهم؟!“
”أفديها بروحي“ قال بهُيامٍ فطالعته باستنكارٍ قائلة ببعض الحدة: ”على ماذا تستعجلُ يا مسكين أنها ستُذيقُكَ الويل“
قهقه أدهم وقال بنبرةٍ جادة وقلبٍ يقفزُ فرحًا: ”ويلُها جنة لقلبي“
ضربت رودين كفًا بكف وهي تهمس بشفقة: ”لا حول ولا قوة إلّا بالله، حالتُكَ تُبكي الكافر أقسِمُ بالله كان الله في عونك يا حزين لقد طار البرجُ الوحيدُ في رأسك، عوض عليه عوض الصابرين يا رب“
قهقه أدهم بخشونة للمرةِ الثالثة بينما خفضت رودين رأسها وهتفت لنفسها بذبولٍ ومرارة: ”كفاكَ أذية يا سراج، كفاك أذية، إلى هنا وكفى، لن أتركك تُحطم تاج كما حطُمتني ولوثتَ براءتي“
عندما انتهى أدهم من قهقهته العالية همس بانتشاءٍ قائلًا: ”إذًا ما الخِطّة ومتى سنبدأ وماذا سنفعل؟“
رفعت وجهها إليه واحتدت عيناها بخبثٍ قائلة: ”اسمعني جيدًا“
❀•❀•❀
”وِضاء، يا وِضاء هل ارتديتَ معطفي البُنّي؟“ سارع وِضاء بالهروب قبل أن يصل إليه ياسيف وهو يتناول تفاحة من فوق المنضدة مُرتديًا المعطف الذي يبحثُ ياسيف عنه قائلًا: ”سأعيده لكَ في المساء فلدي موعدٌ هام وهو يليقُ بعينيّ كثيرًا، إلى اللقاء“ توقف ياسيف قرب الباب وهو يزفرُ بحنقٍ مُتخصرًا يهتفُ بنبرةٍ جادة: ”أنا حقًا صِرتُ أُفكِّرُ في ابتياع قفلٍ لأُغلق به غرفتي كاملة، اللعنة يا رجل لم أرتديه سوى مرةٍ واحدة“ صفق الباب بغضبٍ عارم ثم التفت عائدًا لبهو المنزل فوجد ما عاجله بجلطةٍ فورية..
”وِضــــــــاء أيها الحقيرُ لقد أوسخت المنزل“
ظلَّ ينظرُ بحسرةٍ للأطباق المُلقاةُ بإهمالٍ على الأرض وفوق المجلس العصري الأنيق وفتاتُ الطعام المنتثرة في كل مكان وجوارِبه القذرة المُبعثرة في أرجاء البهو الواسع هذا غير ملابسه التي تُغطّي الأرض وسط الوسائد ومفارش الطاولات وجهاز التحكم بالتِلفاز والمُكيف، لقد كانت الفوضى تعم الأرجاء وهو يبغضُ تلك الفوضى بشدة..
بل أكثر مما تتخيلون بكثير لذلك قضى يوم أمسٍ بأكمله في تنظيف الشقة، وعندما استيقظ بعد بضع ساعاتٍ فقط يجدُ المكان أمامه هذا!
”اللعنة عليك وِضاء“
الآن زاد اصراره على الزواج أكثر ولن يصبر دقيقةً واحدة..
سينزلُ مِصر في أقرب فرصة ولن يعيش يومًا آخر مع ذاك المُهمِل المُبعثر الفوضوي.
❀•❀•❀
استيقظت مفزوعة بعدما رأته في المنام، لقد ظنت أنها انتهت منه للأبد!
يا إلهي أيمكن أن يعود؟؟
ظلّت عفراء تستغفرُ ربها وهي تبصق على كتفها الأيسر وتستعيذُ بالله مِن الشيطان الرجيم، نظرت للساعة فوجدتها تخطّت الواحدة بعد منتصف الليل فاستقامت واقفة واتجهت للحمام لتتوضأ وتُصلي ركعتين لله وأطالت السجود فيهما وهي تدعوا الله أن يحفظها ويُدبر لها أمرها فهي لا تُحسنُ التدبير.
❀•❀•❀
”لقد تأخر الوقتُ كثيرًا يا أدهم؛ ألن تعود للمنزل؟ “
هتف أيهم بعملية فأجاب أدهم بحدّة: ”تُريدُ منّي الذهاب وتركهم وحدهم هنا دون مُرافق! أتراني كيسَ جوافةٍ مثلًا يا أيهم؟! ثم أنا لستُ مُستعدًا لترك فرصة لذاك الخيَّال ليأتي إليهم في غيابي“ وعند هذه الجملة تصاعد غضبه وغيرته فقال بشراسة: ”لا وألفُ لا، لن أتركهن وحدهنّ ليستفرد بهنّ ذاك الحقيرُ أبدًا انسى هذا الأمر تمامًا“
زفر أيهم بخفوت ثم هتف باستسلام: ”حسنًا كما تريد لكن سأطلبُ لكم العشاء لأنكَ لم تتناول لُقيمةً واحدة منذُ الصباح، وفي صباح الغد أيضًا سأرسلُ الفطور لكم جميعًا مع حارس الأمن الخاص بريتاج لأنها لن تخرج غدًا وأنتَ تعلمُ أن أمي لن تقبل بتركك تتناول المأكولات السريعة المضرة في رأيها ليومين مُتتابعين“
ثم نظر أيهم في ساعته وتابع قائلًا برسميةٍ ووقار: ”أظنُّ أن مُهمتي تنتهي هنا لأن ريتاج ستقتُلني لو تأخرتُ دقيقةً إضافية“
هز أدهم رأسه مؤيدًا فهو يحفظُ غضب وغيرة ريتاج جيدًا على أخيه الأكبر، لمعت عيناه بامتنانٍ شديد ثم عانق أخاه بحبٍ كبير هامسًا بنبرةٍ مُتأثرة: ”لا حرمني الله منكَ أوما“
ابتسم أيهم ابتسامةٍ صفراء وهو يرمق أخيه بحنقٍ قائلًا من بين أسنانه: ”أتقي شري يا أدهم ألا يكفيني ريتاج! صبرًا يا رب“
❀•❀•❀
”كُلي أي شيءٍ أرجوكِ حبيبتي؛ لتستعيدي عافيتكِ بسرعة ويمتلأ وجهُكِ الذابل هذا مُجددًا“ تذمرت رودين بحنانٍ طفولي فهمست تاج بوهنٍ وشرود: ”لا أرغب في تناوِل شيء“
وضعت رودين الطبق الذي بين يديها جانبًا على الطاولة البسيطة الموضوعة جوار السرير ثم همست بحنوٍ وقلق: ”ماذا بكِ صغيرتي ماذا أصابكِ؟
أشعرُ أنكِ لستِ على ما يُرام أتشعُرين بتوعك؟ هل أنادي الطبيب؟“
هزّت تاج رأسها نافية فجذبتها رودين برفقٍ نحوها وهي تهتفُ بحزنٍ والدموع تلمعُ في عينيها وتُزيدُ من وهن جسدها: ”ماذا يحدثُ معكِ يا قلب أمك؟“
فجأة احتدت عينا تاج وهبّت مُنتصبة في جلستها وهي تهتفُ بحنق: ”أنه الزيتون صـ...“ ثم اتسعت عينيها وهي توبّخُ نفسها على هتافها المُندفع بكلماتٍ لم تُفكر بها بينما قالت رودين باستنكار: ”لكنكِ لا تُحبّين الزيتون يا تاج!“
توردت وجنتي تاج وهي تُغيرُ الموضوع هاتفة بحنق: ”أطعميني يا رودين سأموتُ جوعًا، من شدّة الجوع سآكلُ أي شيءٍ حتى الزيتون“
فغرت رودين ثغرها بصدمةٍ وهي تهمسُ بذهول: ”هل جننتِ يا تاج أم أصابكِ الحولُ في مشاعرك! ألم أكن أترجاكِ منذُ لحظاتٍ فقط لتأكلي؟؟“
لم تُجب تاج فعقلُها لم يكُن موجودًا ولا يرى سوى تلك الغابات الزيتُونية التي تُصيبُها بالحنق وبرغبةٍ عارمة في لكمهما هكذا دون سبب، يا إلهي هل أصابها حولٌ في مشاعرها حقًا؟!
باللهِ مَن هذا الرجل ومتى ظهر لها، تشعرُ وكأنه مألوف، وكأنها اعتادت رؤية عيناه..
وكأنه..
يا الله هل بدأت في الخرف أم أن هذا تأثيرُ المُضاد الحيويُّ الذي حقنوها به!
أفكارٌ كثيرة تُراودها ولا تملكُ جوابًا لها، انهمكت في التفكير أكثر وأكثر بينما رودين عادت لتحمل الصحن الذي يحتوي على الطعام مرة أُخرى وبدأت في اطعامها كأنها تُطعِمُ طفلًا صغيرًا، لحظاتٍ وطُرِقُ الباب ثلاثًا كما علمنا المُختارُ صلَّ الله عليه وسلم، أذنت رودين للطارِق  ليدلُف أدهم قائلًا بابتسامة وسيمة أظهرت تلألؤ أسنانه البيضاء الناصعة المصفوفة بنظامٍ أبدع الخالقُ في ترتيبهما: ”مرحبًا، كيف حالُكنّ الآن؟ أتحتاجانِ شيئًا!“
رفعت تاج نظرها إليه بشيءٍ من الَّا مبالاة كي لا تُظهِرُ تأثُّرها به أو بصوته المُميز الذي يخترِقُ أسوارها العالية دون استئذان، لن تنسى أنه غازلها، ستُصدِّرُ وجه الخشب له كما تفعل مع الجميع ولن تمهله فرصة اضعافِها أبدًا، نظرت إليه بحدّه فابتسم، يا إلهي ابتسامته تُضعِفُها..
والآن صار يخُصُّها بنظراته، عليها الإشاحةُ بوجهها حالًا فنظراته..
نظراته تُصيبُ قلبها، ما هذا الغباء الساذج هي قوية وهو لا يستطيعُ اصابتها بشيء ستقتُله إن فعل.
”الحمد لله يا أستاذ أشكرُكَ على كل شيء“
قالت رودين بنبرةٍ هادِئة رسمية وهي تحتضنُ بطنها بكفِّ وتحملُ الصحن في كفٍ آخر، فأومأ لها بحنوٍ أُخوي، تلك السيدة الصغيرة تُثيرُ عطفه بشدة خاصةً وهو يكادُ يُجزِمُ أنها لا تنفكُّ عن البُكاء أبدًا، ملامحها شاحبة رغم تورُّم جفنيها وأنفها بالإضافة لاحمرار عينها يؤكدان على ذلك، لم يرى زوجها منذُ جاءت فتساءل عن سبب غيابه لماذا تركها لتأتي وحدها بوضعها، أيكرهُ زوجته أم أن وجودها من عدمه لا يُشكِّلُ فارِقًا معه!
عاد بنظراتِه لتاج يبتسم وهو يستشعرُ نفسه مسؤولًا عنها فأشاحت بنظرها عنه مُسرعة ونظرت للصحن الذي كان بين كفّى رودين وأخذته منها بعصبية بعدها شرّعت في تناول ما كان فيه بسرعةٍ وضيق، فتساءل في نفسه قائلًا وهو ينظرُ إليهما معًا: ”ما علاقة تلك السيدة الصغيرة بتاج، أي صلةِ قرابة تجمعهما لتكون بتلك القوة!“ نفض أفكاره قليلًا ثم ثبّت نظراته على تاج التي تأكلُ بنهمٍ قائلًا بكلماتٍ مُحبّة حانية: ”هل أعجبكِ الطعام؟“
”مُقرِفٌ مثلك“ اندفعت بعصبية فشهقت رودين قائلة: ”تاج.. لا يصِحُّ هذا!“
أما هو فتيبس مكانه للحظاتٍ جامدًا لا يستوعبُ ردّها ولم يتخيّله أبدًا.
❀•❀•❀
طُرِق الباب مرتان ثم دلف أحدَ مُساعِديه الأشدّاءُ يدفعُ بشابٍ غريب لم يره مُسبقًا، وعلى الرغم مِن قوة مُساعِده البدنية كان الشابُ يفوقه طولًا وعرضًا، استرخى سلاف في كرسه وهو يَرمُق صاحِبَ الكتلةِ العضلية بنظرةٍ بغيضة وابتسامةٍ ساخرة شملته كُلِّيًا، هتف مُساعِده قائلًا: ”هذا اللعينُ قبضنا عليه أخيرًا، أنه نفسُ الشخصِ الذي وجدناه يُقاتِل رِجال الريِّس كاظِم الحوني وحده، لقد قتَل مِنهم ثلاثون رجُلًا حينها ثم أخذ البِضاعةَ وفرَّ هارِبًا، بحثنا عنه حتى وجدناه أخيرًا ثم حاولنا التفاوض معه لأخذ البضاعة فطلب ضِعف المبلغ المُقدر للبِضاعة“
”إن لم يُعجبك فلا تشتري، لم تُضرب على يدكَ لتوافِق“ هتف الشابُ ببرودٍ وشراسة وهو يعقِدُ زراعه حول صدره فبَرُزَ صدره العضلي المُشير لقوته البدنية الرائعة فأُعجِبَ سلاف بهيئته الوحشية ونبرته القوية اللامُبالية والجحيمُ الأسود المُتدفق مِن عينه.
”قُلتُ لكَ؛ البِضاعةُ لنا وأنتَ سرقتها قبل أن نصل“ دافع المُساعِدُ بشراسةٍ فابتسم الغريبُ بازدراءٍ وهو يُطالِعه مِن قمّةٍ رأسه حتى أخمصِ قدميه قائلًا باستهزاءٍ بطيء وكأنه يتذوق كلماتِه لأول مرة: ”أذهب وقُل هذا للشرطة فالبقاءُ هنا للأقوى، أو لديَّ حلٌّ آخر؛ واجهني رجلًا لرجل وسأمنحُكَ البِضاعة كاملة دون المساسِ بها أو أخذ فلسٍ واحدٍ عليها“
انتفخت وِجدانُ سلاف وقبل أن يُجيبَ مُساعِده الذي بدا ضئيلًا جدًا أمام ذاك الثور الهائج قال بهدوءٍ ودبلوماسية: ”ولما العنفُ بينما يُمكِنُكَ الانضمامُ لعائلتنا، عائلة سلاف جاويش“
فأجاب الرجلُ بنبرةٍ قاسية مُتهكمة: ”لا أنضمُّ لأحد، جِئتُ لعقد صفقةِ عملٍ لا أكثر“
ارتفع حاجبا سلاف مُتفاجِئًا فمَن ذا الذي يَرفضُ الاقتران باسمه!
أمجنونٌ هو؟
بينما ذاك الجالِسُ أمام مكتب سلاف في الكُرسي المُجاوِر لأحد أطرافِ المكتب البُنِّي الفاخِر ككل قطعة في هذه الغرفة قد تخلّى عن جموده وابتسم بسوادٍ يُحاكِ ذاك الذي استولى على قلبه، رمق ذاك الغريب بنظرةٍ غامضة، شجاعته التي شاركت الطودِ في شموخه قد نالت إعجابه، أما عن سلاف فقد أُعجب بالشابِ أكثر وعزم على التمَسُّكِ به بأسنانِه فمِثلُ هذا الشخص لا يتكرَّرُ مرتين، اتسعت ابتسامته الخبيثة وراح يُغريه ليهتف بعمليةٍ وهو يعقدُ كفاه أمامه على المكتب: ”إذًا لِنعقِد صفقة؛ سآخذُ مِنكَ البِضاعة بضِعف الثمن على أن تعمل لصالِحي، فكِّر بها جيدًا، ستكونَ مِن المُقربين وسأجعلُكَ تعلو فوق الجميع، قُصور سيّارات طائِراتٌ خاصة ومراكب مُجهزة على أعلى مُستوى، كلُّ ذلك سيكون رهن إشارتك وفي المُقابِل؛ ستكونُ أحدَ رِجال سلاف باشا المُخلصين له، وفقط له“
صمتَ الشابُ قليلًا يَدرُس الأمر جيدًا ثم هتف بكبرياءٍ وهو يرفعُ أنفه في السماء: ”أنا لا أكونُ خادِمًا لأحد“
”لن تكون خادمًا ستكون فردًا مِن أسرتي“ أجاب سلاف بسرعةٍ وتحدٍ سافِر، كان حاجباه مُرتفعانِ بثقة يتحديانه أن يَرفُض عرضًا كهذا، لكن الغريب كان له رأيٌ آخر حيثُ نفخ صدره بالهواءِ ثم نفثه قائلًا: ”سأعملُ متى أشاء وكيفما أشاء لن أُجبرَ على شيءٍ لا أُريده“ وكأنه يُريدُ أن يُثبت أن الكلمةَ النهائية له وأنه لن يكون أبدًا طوع زِراعه فهزَّ سلاف رأسه قائلًا دون اكتراث: ”نحنُ لا نجبرُ أحدًا هنا لكن.. مصلحةُ العمل ستكون دائمًا فوق الجميع“
”لا مُشكلة فالعملُ لُعبتي المُسلية“ قالها بثقةٍ لا تُزحزح وابتسامةٍ عابثة فاستقام سلاف ومدَّ يده أمامه ليُصافِحه مُوثِّقًا مُوافقته ومُعاهدته على أن لا يعملَ لِصالِح غيرِه.
لبَّ الرجلُ دعوته واقترب ببطءٍ مقصود ليُصافِح سلاف قائلًا: ”صخر سلامة“
ثم توقف أمام المُراقِب الصامِت بعد أن صافح سلاف بشموخٍ وقوة، طالعه بغموضٍ قائلًا: ”ألن نتعرف؟“ فاستقام الجالِسُ يُناظِره بعينيه البنِّيتين الحادتين ثم ارتفعت أحدى زوايا ثغره في ابتسامةٍ غامضة بعدها ابتعد راحلًا دون أن يُرحِّب به ليتدارك سلاف الوضع مُسرعًا وهو يهتِفُ بفخرٍ شديد: ”أنه ولدي، خيّال جاويش"
أما عن المُساعِد الزِاهِل؛ فكان لا يُصدِّقُ أن مَن جاء به للباشا وعقله يُصوِّرُ له أنه لن يُترَكَ ليُغادِر المكتب حيّا بسبب صلافته وتحديه السافِر، قد فاز بمثل هذه المكانة!
❀•❀•❀
سار ببطيءٍ في الرواق الطويل وهو يشعرُ بحنقٍ شديد وغيظٍ أشد مِن تلك الوقحة ذات اللسان السليط!
على حد معرفته فهي ليست كذلك، لم يتصور أن يكون لسانُها لاذع كالكوبرى، بل بدت له جامدة قليلًا لكنها صادقة طيبة لا تقبلُ الظلمَ أبدًا، لماذا تتصرفُ معه هكذا!
لقد تصاعد غضبه عندما كان معها منذُ قليلٍ في الغرفة وقبل أن يهمَّ بلكمها أو قص لسانها علّها تفقده فلا تتكلم أبدًا قالت رودين بسرعة موجهةً حديثها له: ”أعتقدُ أن الماء أثّر على أسلاك عقلها يا أستاذ أدهم، أرجوكَ نادي الطبيب ليفحصها فالأمرُ بات خطرًا جدًا، تصوّر أنها كانت تشتهي الزيتون منذُ قليل وهي لا تطيقُ طعمه أبدًا لذا أظنُّ أنها تقول الشيء وتقصد عكسه“ ثم نظرت لتاج فرأتها مُحمرة كالبندورة بسبب كلماتها لترمقها رودين بنظراتٍ واعدة قائلة: ”أليس كذلك تاج؟“
زاد احمرارُ وجنتي تاج فرفعت الغطاء عنها قائلة: ”سأذهبُ للمرحاض“
عندما غادرت تاج قالت رودين بنبرةٍ خجلة مُعتذرة عمّا بدر من تاج: ”أعتذرُ لكَ يا أستاذ أدهم هي في العادة تتعامل بحدَّة مع كل الرجال لأن كل مَن حاوطوها لم يكونوا رِجال معها“ أما أدهم فقد جُمِّدت ملامِحه ليومِئ ببرودٍ قائلًا: ”أنا في الخارِج إن احتجتما لشيء“
ذكرياته معها بدأت تمرُّ أمام معينه كسرابٍ شاحِب، يتذكر عندما رآها أول مرة، حينها كانت تتعاركُ مع شخص يحاولُ اضطهاد بائعة الخضار المسكينة وشراء البضاعة منها بثمن بخس لا يُوازي ثمن ما أشترتهم هي به، حينها كان في أحد الأسواق الضخمة ينتظرُ صديقا له لم يره منذُ أيامِ الجامعة.
”عشر عُمُلاتٍ يكفيكِ يا حجّة ما هذا الطمع، أنا أعرفكم جيدًا تُرفعون الثمن لتأخذوا منّا أضعافًا مُضعفة وأنا لن تُطلى عليّ فعلتكم هذه“
كان الرجل يهتف بجلافةٍ وعنجهيةٍ فاقتربت منه تاج بشراسة ثم وقفت بينه وبين البائعة قائلة بحدة ونبرةٍ قوية: ”نعم.. ماذا تُريد؟ أنا المسؤولةٌ هنا!“ شدّدت على حروف كلمتها الأخيرة وهي تعقدُ زراعها أمام صدرها فهتف الرجل مُحاولًا فرض ذكوريته المصطنعة والتي لا تميلُ للرجولةِ بصلة قائلًا: ”أنتِ يا امرأة اصمتي، أُحدِّثُ العجوز فلا تتدخلي كي لا تندمي“ قال وهو يرفعُ يده كأنه سيصفعها فرفعت تاج حاجبها بدهشة وسخرية ثم قالت موجةً كلامها للبائعة البسيطة بنبرةٍ لا تخلو من الحنان والقوة: ”كم تبلُغ تكلفة مُشترياته يا أُمي“
جففت السيدة عبراتها الغالية وهتفت بخجل: ”أخبرته أنّي لن أستطيعَ بيعها بأقلِّ من ثلاثون عملة لكنّه صمَّم أن يأخذهم بعشرةٍ فقط“ ضيّقت تاج عينيها ثم رمقت الأكياس المُعبَّأة بجانبه والتي كانت كثيرة ومليئة بالخضراوات الطازجة ثم عادت بعينيها للذكر المُتوشِّح بهيئةِ رجُلٍ قائلة: ”أخرِج خمسون حالًا وخذ متاعك وتوكل على الله هيّا“
اعترض الشخصُ قائلًا: ”وأنتِ ما دخلُكِ ها!
أنا أُحادِثُ الامرأة ف..“
صفَّقت بقوةٍ أمام وجهه فأرتد للخلف في صدمة وبلع باقي كلماته وقد بدأت تهتزُّ شجاعته الزائفة، أما تاج فراقبت كل ما طرأ عليه ببرودٍ ثم همست بابتسامةٍ صفراء واثقة: ”لا أحبُّ تكرار حديثي مرتين“
زاد حنق الشاب وغضبه فأقترب منها ورفع يده ليصفعها أمام الجميع مُحاوِلًا ردَّ كرامته المهدورة من قِبل فتاةٍ لا تزنُ شيئًا فاعترضت هي كفّه بيدٍ وبالأُخرى عاجلته بصفعةٍ مُدوية اسقطته أرضًا وجعلت كل مَن كانوا حوله يشهُقنَّ بصدمةٍ، بعضهم كان سعيدًا بفعلتها لأنها لقّنت ذاك المُتجبِّر درسًا لن ينساه والآخرُ عاب تربيتها لأنها رفعت يداها على رجُلٍ في الطريق العام ومِن الآداب العامة كان من واجبها أن تتلقى صفعته بصمتٍ وترحل لأنها المُخطِئة المتبجحة وشتان بين الفِئتان.
”أعطني الأموال بالأدب وتوكل على الله فلصبري حدودٌ أظنُّها بدأت تنفذ“
وبالفعل أخرج الشاب النقود وأعطاها لها ثم حمل الحقائب وغادر سريعًا بتعثُر وهو ما زال مذهولًا مصدومًا، وعقله لا يعي سوى الهرب من العيون الشامتة والفتياتِ الساخرة، رحل ويداه تحتضنُ وجهه ونظراتُ الخزي تُلاحِقه من كل مكان.
أما هي فأعطت النقود للسيدة بابتسامةٍ رسمية نوعًا ما ورحلت تُلوِّحُ لها بحنوٍ ومحبة، رحلت بشخصية غير التي واجهت الشخص بها تمامًا، بل كانت حقًا النقيض التام لها.
عاد من ذكراه يضحكُ بخفوت، لا يتذكر المدة التي تجمّد فيها واقفًا بفكٍّ متدلي مذهولًا مما رأى، في لحظة واحدة كانت قد تغيرت لمئة وثمانون درجة، تحولت من قطة بريّة شرسة لأخرى ودودةٌ وبريئة.
جمعت بينهما صدفٌ أُخرى كثيرة جميعُها مُميزة لقلبه لكن هذه..
كانت أكثرهم جنونًا وغرابة.
قابلها في أحد تلك المرات بالنادي وعلِمَ حينها أنها مُلاكِمة وهذا بالطبع فسّر له طبعها الحاد وشراستها، والتقي بها مرةً أخرى في أحد ندوات النادي الليلية فوجدها تتحدثُ بفصاحةٍ وبلاغة وعلِمَ حينها أنها مُدِيرةُ النادي والرّاعي الرسمي له، كانت أنيقة جذّابة واثقة وقوية لا تهابُ شيء بل الجميعُ يهابُها، تقدّم منها وعلى وجهه ابتسامةٌ بلهاء وحاول مُصافحتها بعد انتهاء كلمتها ونزولها عن المنصة فرمقته ببرودٍ وتركته وغادرت لتجلس على كرسي أنيق في الصف الأول كان قد خُصص مُسبقًا لها، بعد لحظاتٍ جاءه الرّدُ من أحد أصدقائه الشباب يُخبره أنها لا تُصافِحُ الرجال وهذا ما أدهشه!
لا في الواقع هناك ما أدهشه أكثر وهو عندما علِمَ أنها لم تُكمِل العشرون عامًا وإدارتها للنادي بدأت حينما كانت في عمر الثامنة عشر، زاد فضوله فاستفسر أكثر وعلِمَ أن النادي لوالدها ووالدها من الرجال المُهمة جدًا في الدولة ويُدلِّلُها كثيرًا لذلك عيّنها بنفسه مُديرةً للنادي وقد اثبتت أنها تستحقُ إدارته بجدارة.
ما علمه عنها لم يكن قد أشبع فضوله عنها بعد فبدأ في مُراقبتها وتعمُّد الذهاب لكل مكانٍ كانت تتواجد به وهذا لم يكن كافيًا فشخصيتها انطوائية بطريقةٍ حانقة جعلت تواجدها نادرًا دائمًا، وهنا لجأ لحلِّه الأخير والذي كان مُراقبتها سرًا في أيام أجازته حتى جاء يومٌ قُلبت فيه موازينُ قلبه ليخرَّ ذاك القلبُ ساقطًا في هواها مأسورًا بحبها.
❀•❀•❀
”أليسَ مُبكرًا جدًا يا أستاذ أوما؟!“
جملةٌ هتفت بها فتاة جميلة ترتدي منامة طفولية جميلة وناعمة تُبرِزُ جمالها ببراءةٍ سالبة للُّب، ابتسم أيهم وهتف بعشق خالص يخُصها وحدها : ”ريتاج حبيبةُ قلبي وروحي اشتقتُ لكِ، أقسِمُ لكِ أدهم هو السبب، كان لديه مشكلة ووجب عليّ الوقوف جِواره“
أومأت بحبٍ فتراقصت خُصلاتها الشقراءُ الناعمة حولَ وجهها لتهمس بدلالٍ قلق: ”وما به هوما هل هو بخير؟“
اقترب أيهم منها ورفعها بين زراعيه لتضع هي رأسها على صدره وتُأرجِح قدميها بسعادةٍ ضاحكة فهمس أيهم بحنقٍ وغيرة: ”أولًا بالله عليكِ ما هذه الاسماء التي تُطلقينها علينا يا فتاة!
ستضيعُ هيبتنا بين الخلق هكذا وسمعتُنا ستكون في الطين.. ثانيًا لا تتدللي في نطق اسم غيري ولا تُلقبينه بأي اسمٍ تحببي لأن هذا الدلع والدلال بأكمله لي، لي وحدي رِيتاج فلا تتمادي وتُثيري غيرتي لأني يا حبيبتي أغـــار“
قهقهت ريتاج ثم همست بدلالٍ وهي تحمرُّ خجلًا: ”أتغارُ عليّ مِن أخاكَ يا أوما“ توقف مكانه ورمقها ببرودٍ فابتلعت ريقها قائلة في مُحاولةٍ لتُغيّر مجرى للحديث: ”اشتقتُ لكَ أوما أنا لم أرك طوال اليوم“
ابتسم أيهم حتى برزت غمّازاته ثم هتف وهو يتجه بها لغرفتها: ”أوما جوعان وسيأكُلُكِ في لقمةً واحدة“ تابع حديثه بادِئًا في دغدغتها فتلوت بين يديه ضاحكة بقوة وهو يُشارِكها الضحك حتى وصل صوته لوالدته الجالسة في غرفتها فوق سريرها فأغلقت مُصحفها ووضعته جانبًا على الطاولة الخشبية المُجاورة لسريرها وهي تدعوا الله عز وجل أن يديم فرحتهم ويُسعد قلوبهم.
❀•❀•❀
خرج مِن الشركة بأكملها يضعُ كفَّيه في جيبا سروالِه القُماشي الأسود ثم صعدَ لِسيّارته الفاخرة المُماثلة لسرواله لونًا وجلس بها خلف المقود مُغلقًا الباب خلفه بجمودٍ وهو يُشعِلُ سيجارته ويلتقطُ منها نفسًا عميقًا مُعتّقًا برائحتها القوية النفّاذة ثم يُلقي برمادِها خارِجًا بيده المُدلاةُ من النافذة كي لا ينزع أناقة سيارته الداخلية المُخمرة بلون النبيذ الأحمر القاني، طلّته الشرسة القاتمة المُعتمة كانت تُناقضُ اللون الأحمر الراقِص مِن حوله، وصل لوجهته والتي لم تكن سوى قصره الشامِخ، حالما رآه حارس الأمن مُقبِلًا بسيّارته حياه بإجلالٍ وهو يفتحُ له البوابةِ الضخمة، دلف خيّال لممشى القصر بسيارته فوقف أمام الباب الخشبي المُذهب بذهبٍ حقيقي ذا عيارٍ ثقيلٍ فاخر، خرج من سيارته وصفق بابها ثم ألقى بسيجارته أرضًا ودهسها بقدمه، بعدها تقدم من الباب ليدفعه ويدلف للبهو العملاق، رغم ضخامة وتفرُّده إلّا أنه كان ضيّقٌ خانِق بذكرياته الأليمة الحارقة، بدأ جولته المُعتادة في المنزل بدءً مِن غرفة أخاه الراحِل والتي يتلمسُ فيها سريره ومكتبه وشهاداته وصوره المُعلقة في كل مكان، اقترب من اللُعبة الخشبية المُصممة على شكل مِطرقة القاضي، كان أخاه الصغير يحلمُ أن يكون قاضيًا فالتحق بكلية القانون لكنه قُتِل يوم حفل تخرُّجه، لم يهنأ بنجاحه وتفوقه الداعي للفخر، فقد تخرّج بتقديرٍ ممتاز مع مرتبة الشرف، فالموت يومها نال منه ومُزِّقت أحشائه أما عينيه ببشاعة نالت من قلبه بجدارة، وفي نفس العام بل بعده ببضع أشهر خسر صغيرتاه في حريقٍ مُفجع اندلعت نيرانه في السيّارة التي كانت تُقلُّهما من المدرسة إلى المنزل والعكسُ أيضًا، حينما سمع بذاك الخبر أسرع إليهما بسيارته وتوقف على مقربةٍ من السيارةِ المُحترقة وفتح باب السيارةِ اليابس بعنفٍ فقد كان هيكليها المعدني قد بدأ في الذوبانِ من شدّةِ الحرارة، وجدهما فحملهما بين يديه جثّتان مُحترقتان بالكامِل، بكي كما لم يفعل أبدًا، بكي وانتهت حياته حينها وانتهى الشغفُ الذي كان يُحرِّكه ليبقى على قيد الحياة، ساعاتٍ ووجد نفسه جالسًا أرضًا أمام القُبور الثلاث بجفونٍ مُنتفخة وعيونٍ حمراء مُلتهبة، نام يحتضن القبور ولم يستيقظ إلّا وقد استيقظت شمسُ اليوم الثاني.
عاد من ذكراه ليجد نفسه قد دلف لغرفةِ الفتاتان واستلقى على أحد اسرّتهما يحتضنُ دميتيّهما في شوقٍ جارِف، لم يكن مِمَّن يُجيدون الحديث أو اظهارِ مشاعِرهم وتعريتها أمام الجميع، لكنه أحبّهما بكل جوارحه، عشقهما وتعلق بهما كما لم يفعل مع أحدٍ أبدًا، زُرِفت مِن الدموع الحارِقة وهو يتذكرُ تشبثهما بقدمه وتقبيلهما لخدِّه وهروبهما كل ليلةٍ لغرفته ليناما على صدره، ضمَّ الدميتان المحشوّتان اللتان كانا يرتدان ملابس الصغيرتان لصدره بقوةٍ أكبر وهو يدفنُ أنفه بينهما ليستنشق رائحتهما الطفولية الناعمة، الدمية الحمراء كانت لجنّة أخته والأخرى الوردية لحور ابنة خالته وأخت جنّة بالرضاع، كلتاهما ربّاهما بنفسه وكبرتا بين يداه.
ثلاثتهم تقاسموا قلبه وثلاثتهم رحلوا آخذين معهم نصيبهم من ذاك القلب، نام ليلته في غرفة الفتاتان يتشممُ رائحتهم ويلتمسُ في ملابسهم وأغطيتهم بعض الدفء الذي يحتضنُ روحه الخاوية المكلومة عليهم.
❀•❀•❀
”هل نامت؟“
أومأت رودين وأجابته بهدوءٍ قائلة: ”نعم نائمة، خرجتُ قليلًا كي لا أوقظها“
”حسنًا“ قالها وجلس على مقعدٍ يكفي لثلاث أشخاص موجودٌ في الجهة المُقابلة لها.
طال الصمتُ بينمها قليلًا حتى قاطعه أدهم مُستفسرًا: ”أردتُ سؤالكِ عن شيءٍ إن لم يكن لديكِ مانِع“
خجلت بفطرتها فهي لم تعتد الحديث مع الرجال الغرباءُ عنها، لكن تداركت نفسها وأومأت قائلة: ”تفضل“
”هل أنتِ أختَ تاج؟“ كان مُتأكدًا أنها ليست أختها فلا شبه يجمعُ بينهما أبدًا لكنه أراد السؤال عن صلة القرابة بينهما بشكلٍ غير مُباشر فأجابته بخجلٍ وخفوت: ”بل أمها“
وهنا كان دوره ليستنكر قائلًا وهو يستقيمُ بصدمة: ”مَن؟ كيف!“
طالعته مُبتسمة وهي تقول بخفوت: ”أنا زوجة والدها، ربَّيتُها منذُ كانت بعمر الرابعةِ عشر“
جلس أدهم مكانه وقد زاد ذهوله أكثر فقال بعد برهة: ”كيف! أقصد ظننتُكِ في الثامنة أو التاسعة عشر وظُلمتِ بزواجٍ مُبكر“
ازداد احمرارُ وجنتيها كعادتها لتقول بخفوتٍ مُبتسمة: ”عمري أربعة وعشرين عامًا وتزوجتُ مبكرًا لأنه كان زواجًا عن حب“
قطب حاجبيه بغير رضا فمَن هذا المُحبُّ الذي قد يتركُ زوجته وابنته وحدهما في يومٍ كهذا!
لكنه أسرّ ما شعر به في نفسه وعاد ليرسم حنقًا مُصطنعًا في نبرةِ صوته قائلًا: ”عمرُكِ أربع وعشرين وناديتني 'عمّو'“
فقالت بخجلٍ وهي تبتلع ريقها مُتوترة: ”ظننتُكَ أكبر عمرًا.. أقصد أن حضرتك طويلُ القامةِ قليلًا فلم أعرف ماذا أقول لك“
ضحك مُؤكدًا: ”لن أنكِرَ أني طويلٌ قليلًا لكن ما يُزيدُ فرق الطول بيننا هو أنّكِ قصيرةٌ جدًا“
زمّت شفتيها بغضبٍ فتنحنح قائلًا: ”لا أقصد شيء الفتياتُ القصيرات هنّ أشدُّ رقةً وجمالًا من الطويلات“ ولاحق جملته المُجاملة قائلًا لنفسه: ”سامحني يا رب فحبيبتي الطويلة تاج فاتنة ولا جمال يعلوا فوق جمالها“ ثم تابع مُغيرًا مجرى الحديث عندما وجد تهجُّمها لا يلين: ”أنا أكبُركِ بثلاث سنواتٍ فقط“
أومأت بخفوتٍ وكُسِرت حدّةُ عينيها قليلًا لتنظر أرضًا شاردة فحزن لأنه أغضبها، لقد قصِد مُمازحتها فقط علّه يكسرُ غمامة الحزن التي تُغلفها لكن يبدو أنه زاد الطين بلّا.
مرّت بضعُ دقائق طويلة الصمتُ فيهنَّ كان سيد الموقف، قطعت هي ذاك الصمت قائلة بتهجم شديد في ملامحها وكأنها تُصارِعُ شيئًا ما: ”صدقتَ عندما قُلت أنهم ظلموني، لكن لا يُهمُّ الكيفية، أنا الآن كلُّ ما يُهمُّني هو تاج، عليها أن تسلم مِن شرِّهم، لن أدعها تسلُك نفس طريق الهلاك الذي سقطتُ أنا به“ ثم رفعت عيناها بصلابةٍ رغم هموم الدنيا التي تكالبت عليها وتركت أثرها أسفل عينيها: ”عدني أمام الله أنّكَ ستُراعي حق الله فيها ولن تتخلى عنها أو تخذلها أبدًا“
”سأُحافظُ عليها كأمانة وهبها لي ربّي أعدُكِ“ والوعدُ منه كان قاطعًا لا يُخلفُ أبدًا.
زادت ملامِحُ أدهم قسوة وغيظٍ فقال بشيءٍ من العصبية وقد نفذ صبره وقرر أن يبوح بالسؤال الذي ألحَّت عليه نفسه كثيرًا لطرحه: ”لا تؤاخذيني لكن أين المعتوه زوجكِ هذا -والِدُ تاج- كيف يترُككِ وتاج في المشفى وحدكما هكذا ولماذا لم يأتي للآن!“
شعرت وكأنه بكلماته طعنها طعناتٍ اخترقت صدرها، نارٌ حارقة تنهشُ قلبها وغصة مريرة تختنقُ بحلقها، لمعت عيناها بدموعٍ حبيسة وزاد ثِقلُ ما تحملُ من همومٍ مُضنة وهي تبتسمُ بذبولٍ قائلة بمرارةٍ واضحة: ”مع زوجته الجديدة في شهر العسل“
❀•❀•❀
”يا طبيب، يا طبيب، أين الطبيب! ساعدونا، أرجوكم أنقذوا أمي أرجـــوكم“
كان يركضُ وهو يهتِفُ بهلعٍ والدموعُ تغرِقُ عينيه، نظرت مُوظفةُ الاستقبال نحوه بعطفٍ وهي تتقدمُ إليه قائلة باهتمامٍ أثناء مُساعدته في مُساندة الامرأة الأربعينية التي كانت تُرافقه ويبدو عليها الأعياءُ الشديد فهتف الشابُ بصوتٍ مهزوزٍ باكي: ”لا أعلم لقد سقطت فجأة و..“ بتر كلماته عندما تقدم الطبيبُ منه قائلًا: ”اطمئن سأفحصُها الآن“ لاحق الطبيبُ كلماته مُناديًا على بعض المُمرضات الّاتي أتين سريعًا ليحملوا والدته فوق السرير النقّال ودفعوها نحو غرفة الفحص، دقائق وخرج الطبيب يهمس بأسى وحُزنٍ شديد: ”آسف صغيري؛ لقد استرد الله أمانته“
❀•❀•❀
استيقظت تاج لتجد رودين جالسة على طرف السرير جوارها تُملِّسُ فوق رأسها بحنوٍ أموي فابتسمت بامتنانٍ شديد وهي تحتضنُ خصرها برفقٍ وحب، نظرت رودين لها بابتسامةٍ شاردة وهي تهمسُ بخفوتٍ رقيق: ”تيتو..“
تلألأت ابتسامةُ تاج عندما نادتها رودين بذاك اللقب التحببي فهمست بلطف: ”أنا بخيرٍ يا رودي لا تقلقي“
ثم نظرت للساعة المُعلقة أمامها على الحائط قائلة: ”ما هذا لقد تأخر الوقتُ كثيرًا! لماذا لم تعودي للمنزل؟!“
لامتها رودين بنظراتِها قائلة: ”أعود للمنزل!“ ثم ضرتها برفقٍ على رأسها قائلة: ”هل جُننتِ، أذهب وأترُككِ وحدكِ مريضة في الفِراش!“ لتُتابِع بعتابٍ خفيف: ”أنا أفعلُ هذا يا تاج؟!“
استقامت تاج جالسة ثم بمرحٍ يُخفي تأثرها وغشاء الدموع اللامِع في عينيها: ”أنا أخافُ عليكِ يا رودين“ ثم ربتت على بطنها المُنتفخ قائلة: ”وعلى النونو أيضًا، عليكِ أن ترتاحي لأجله ولأجل صحتك، لا أودُّ أن أُزيد حِملكِ يكفي تحمُّل ألآم الحملِ وارهاقه“
ابتسمت رودين وهي تُربِّتُ على وجنتيها قائلة: ”أنتِ ابنتي الأولى يا تاج ولستِ حِملًا زائدًا أبدًا بل وجودي جواركِ يُخففُ عنِّي ألآم الوحدة ويُزيدُني فخرًا أني دونًا عن الجميع صرتُ والِدتكِ وصديقتُكِ أنتِ“
لم تستطع تاج كتم دموعها أكثر من ذلك فتكاثفت غمامة الدموع فوق عينيها ثم تناثرت فوق وجنتيها بصمت، هي تشعرُ بألم رودين، وتستوحشُ حالتها، لماذا فعل هذا بها..
لماذا كسرها بعدما أهدته حياتها!
جففت دموعها وهي تشرُدُ في البعيد قائلة: ”لم يهتم أليس كذلك!“ كان إقرارًا بواقعٍ مريرٍ كالعلقم فشعرت رودين بنفس المرارة القابضة لتبتلع غصتها قائلة باختناقٍ وهي تُحاوِل رسم ابتسامةٍ مُزيفة فوق وجنتيها: ”بل إنه يهتم، هو يُحبُّكِ يا تاج لكنه مشغولٌ و..“
قاطعتها تاج وهي تصيحُ بشراسةٍ وغضبٍ عارِم: ”وما زلتِ تُدافعين عنه رودين بعد كل ما فعله بكِ؟!“
خفضت رودين عينيها بحسرةٍ وهي تحتضنُ بطنها بقوةٍ وحسرة أثناء عودة الغصة المريرة لتخنقها وتسدَّ حلقها، بعد مُهلةٍ قصيرة ألتفتت لتاج بقلبٍ مُحطم وروحٍ مُمزقة وعيناها الزرقاءُ تلمعُ بشجن، ماذا تفعل!
هل تزرعُ في ابنته كرهه أم تُجعلُها تُعادي أبيها رغم أنه يستحق..
قابلت تاج نظراتها بعينين حاقدتين وهي تهمسُ بإقرارٍ غير مُبالية لحزنها: ”تحبيه أليس كذلك!
لماذا تحبيه؟
لا يُمكنُكِ أن تُحبِّيه أفيقي يا رودين أفيقي بالله عليكِ فهذا الشخص لا يُحبُّ إلّا نفسه، حتى أنا، أبنته من زوجته الراحلة الذي تغنّى دائمًا بحبه لها باعها، باعني لأني الوحيدة التي كنتُ أتصدى له، لا تصمُتِ يا رودي، لا تدعيه يفخر بانتصاره، أنتِ لم تكوني ضعيفةً أبدًا فلا تتخلي الآن عن قوتك، لقد علمتني القوة والمُرافعة عن الحقِّ حتى يُهزم الباطل شرّ هزيمة وحان الآن لأُذكِركِ برودين القديمة، رودين التي أضعتِها أنتِ مع رجُلٍ وضيعٍ مثله لا يستحقكِ“ بكت رودين فقالت تاج بقسوة وهي تعقدُ زراعيها أمام صدرها: ”إذ لم تُلقنيه درسًا يندمُ عليه أو تتخذي موقفًا صارمًا ضدَّه سيعودُ ليُكررها مرارًا، سيطعنُكِ بأفعاله مرة تلو الأخرى وستعيشين ما تبقى لكِ في ندمٍ قاتل“ صمتت للحظاتٍ ثم قالت بجفونٍ حمراء مُتسعة والعروق تنفرُ من وجهها: ”هو قتل أمي، قتلها ببطءٍ كما يفعلُ معك، قتلها وأستنزف روحها حتى آخر قطرة“
دموعها كانت كالشلّالاتِ على وجنتيها لكنها قاطعت تاج قائلة وهي تمسحُ وجنتيها وتهتفُ بشراسة وقد عاد اللهبُ ليتراقص في عينيها: ”على جُثّتي أن أعود له، قد يكون حبه قد أضعفني قليلًا لكنّي ما زِلتُ رودين ولن أعود له أبدًا، جسدي مُحرمٌ عليه منذُ أن مسَّ غيري ووضعها مكاني، سأعيشُ معه ليتربى أبني تحت ظلِّه لا أكثر ولكنه لن يلمسني أبدًا، وإن رفض الوضع الجديد سأُطالبه بطلاقي لأني زهدتُ فيه وبِتُّ أقرف وأنفرُ منه كالجرب“
لانت عينا تاج وزمت شفتيها بألمٍ لحال تلك المسكينة فمالت عليها واحتضنها بقوةٍ هامسة: ”لن أتخلى عنكِ أبدًا رودين، سأجدُ مخرجًا من تلك الورطة التي سجّني بها أبي مع ذاك الفحلُ خيّال ثم سنجدُ طريقةً لنهرب معًا ونأخذ النونو معنا، أنتِ تعلمين أنه لن يُطلقك لذلك سنرحل للأبد، ونبدأُ من جديد، حياةً جديدة لا وجود فيها لقذارة أولئك الذكور“
ابتعدت رودين عنها برفق ثم ارتفعت زوايا ثغرها في ابتسامةٍ خبيثة وهي تهمسُ بمكرٍ وقد بدأت تُخططُ لذاك الخلاص: ”لدي الحل“
طالعتها تاج بترقب حذر فخططُ رودين غالبًا يكون أثرُها كارِثيٌ ومُدمر: ”وما هو هذا الحل!
خططُكِ الشيطانية هذه تُخيفُني يا رودي أنا لن أنسى ما فعلته آخر مرةٍ أبدًا“
قهقهت رودين وهي تتذكرُ يوم وضعت لزوجها الفُلفل الحار في ملابسه الداخلية وهو ذاهبٌ لعقد قرانه على تلك الحيزبون الحقيرة.
”أنتِ تظلمينني تاج لقد كان مقلبًا بريئًا ليُشفي غليلي قليلًا منهما، ثم يا لكِ من شريرة لا تقبلين بالقصاص، أترضين أن يُحرق دمي وحدي وأتركهما ينعمان في بحور العسل!“
انفجرت تاج في الضحك قائلة: ”بالطبع لا أرتضى لكنكِ في الحقيقة دمَّرتِ الليلة بأكملها للرجل“
شاركت رودين تاج الضحك بقوة فسعدت تاج لأنها أزاحت شيئًا من الحزن المُخيِّم عليهما واستطاعت رسم ابتسامةٍ لطيفة على وجهيهما فقالت بطرافةٍ وهي تُربِّعُ ساقيها وتستند بمرفقها على ركبتيها وبفكِّها على كفيّها قائلة: ”هيا أيها القائدُ المجنون أخبرني بخطتك العظيمة“
توقفت رودين عن الضحك وقالت ببساطة وابتسامةٍ ماكرة: ”سأُزوجُكِ لرجُلٍ حقيقي أثقُ به، رجُلٍ تقدم لكِ وأخبرني عن حبه الصادِق لكِ ورغبته في الزواج بكِ، زوجًا حقيقيًا مُحبًا مُخلصًا لكِ ليس كعريس المصلحة الذي أتى به والِدُكِ، لكن بالطبع بعدما ننتهي مِن ذاك الخيّال بطُرِقي الخاصة“ ولاحقت جُملتها بغمزةٍ ماكرة، لكن حديثُ رودين بالنسبةِ لتاج لم يكن يحملُ أي لونٍ من ألوانِ المرح بل تهجمت ملامحها وزمت شفتيها بحنقٍ قائلة: ”تُخلصيني من رجل لتُقحميني في علاقةٍ مع رجُلٍ آخر! بئس الخبرُ وبئس الخطة رودين“
”أسمعيني تاج، لن نتحرر منه طويلًا إن أردنا الهروب، صدقيني سيجُدنا بسهولة وأنتِ أدرى بهذا!
لذلك علينا وضعه تحت الأمر الواقع، ولا أحد على وجه هذا الكوكب يستطيعُ أن يَجبرَ أي زوجٍ على تطليق زوجته وخاصةً إن كان ذاك الزوج نفوذه تفوق نفوذ والدك، بل أعتقدُ أن سراج سيسعى لاهثًا يطلُبُ ودَّه“ صمتت تاج لبرهةٍ ثم همست بتردد: ”ومَن تعيسُ الحظ هذا الذي أقدم على هذه الفعلة الحمقاء وطلب يدي“
ابتسمت رودين بحماسٍ وقد لمست قبول تاج المبدئي بالفكرة: ”أدهم صاحِبُ العيون الزيتونية
❀•❀•❀

اتمنى تقولولي رأيكم في الفصل مستنياة بفارغ الصبر 😍💛
وتقدروا تنضموا لجيشنا الأزرق على الفيس بوك واللينك في الوصف في صفحتي على الواتباد 🧡🔥

منى علاء شاهين
الجيش الأزرق Blue army 🌍💙

استوصوا بالحبيب غزلًا "للكاتبة منى علاء شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن