5- وتم التدبيسُ بنجاح

631 29 55
                                    

الفصل الخامس
"وتم التدبيس بنجاحٍ"

هذه ثالِث مقابلةِ عملٍ لها وتتمنى أن توفّق بصدقٍ هذه المرّة، يدها ترتجفان وصدرُها يعلو ويهبط بقوة من شدّة التوتر فهتفت في نفسها بحنق مُتذمرة: "يا لبُؤسِكِ يا عِطر، لم تكد تنتهي من توتر الامتحانات حتى وجدتي نفسَكِ تقعين في نفس التوتر لكن على هيئةِ مُقابلات العمل"
صوت السكرتيرة قاطع سيل أفكارها عندما نادتها بصوتها الناعم المصاب لمرض الدلع 'المايص': "آنسة عِطر أستاذ حامد ينتظرُ حضرتكِ في المكتب"
نظرت لها عِطر بتوتر لتواجه عينان السكرتيرة المتفحصة لها بسخريةٍ وازدراءٍ كأنها دون المستوي فقالت عِطر بابتسامة واثقة لم ترها السكرتيرة بسبب نقابها ولكنها لمستها في نبرة صوتها: "حسنًا"
بعدها استقامت واقفه ثم ذهبت لغرفة المدير مرفوعةَ الرأس ببهاء يليق بها وبطلِتها الآسرة فلها سحرٌ خاص يُسيطرُ على المكان الذي تتواجدُ فيه، هي امرأةٌ مُتعلمة صرفت عليه والِدتها الكثير من الجهد والأموال التي جنتها بصعوبةٍ بسبب عملها الشاق، لقد كانت عِطر مُتفوقةً في دراستها وعليها الإثبات الآن أنها مصدرُ فخرٍ لوالِدتها وأن ما بزلته في دنياها لتوفر لهم تعليمًا جيدًا وحياةً كريمة لم يذهب هباءً على الأرض منثورًا، طرقت الباب فجاءها صوته الرخيم يدعوها للدخول لتدلف وهي تأمل أن تمرَّ هذه المُقابلةُ على خير.
•❀•❀
"

اهدأ يا حبيبي هؤلاء الحثالة يَقصدون نزع شهر العسل خاصتنا، اخبرتُكَ سابقًا أنها سوسةٌ حرباءة تلعبُ بخبثٍ مِن أسفل الطاوِلة، أشكُّ أنها في علاقةٍ غرامية مع آخر وتتخذُ زواجنا حُجّةً لـ.."
صاح فيها سراج مُقاطعًا إياها بغضبٍ أعمى وهو يضربُ عجلة القيادة بشراسةٍ: "كفى يا مديحة لا أُريدُ سماع صوتكِ أصمتي"
زاد من جزّه على أسنانه بجنونٍ وهو ينطلقُ بأقصى سرعةٍ قد تسير بها السيارة، حقًا بدى كصارُوخٍ حي انطُلِقَ من مدفعٍ مدوٍ مُقسمًا أن يَشقَّ طريقه وصولًا لتلك اللعنة التي أبتُلى بها فهي بالتأكيد المُحرِّضة لرودين والمُتسببة في جعلها تقوم بمثل تلك الفِعلة القذرة، لكنه سيعلمُ كيف يجعلهم يندمون ويعودون له خاضعين، توَّعد لهم بغضبٍ فتجعدت ملامح الجالِسة جواره في السيارةِ بسخطٍ وهي تنظر لفكِّه المُتصلب وعروقه الحادة، أكان عليه أن يَهتمَ لخالِعته من الشمطاء لهذا الحد؟
تعلمُ أنه أخبرها مُسبقًا بحبه لتلك المُسمّاةُ رودين لكنها الآن وبعدما لمست اهتمامه السخيفُ بها شعرت أنها تورطت مع شخصٍ ضعيف عاطفي كزوجها الأول، لقد اعتقدت أن سراج شخصٌ عملي مثلها أقوى وأذكى من ذلك الذي ارتبط به يومًا لكن ها هو يُثبت لها أنه كباقي الرِجال ضِعاف الشخصية أمام زوجاتهنَّ، لوت ثغرها بحنقٍ وهي تُديرُ وجهها للجهةِ الأُخرى قائلة بضيقٍ ونبرةٍ مُنخفضة: "اخبرتُكَ ألف مرّة اسمي ماهي، ماهي وليسَ مديحة، مديحة هذا أنا لا أُحبُّه"
قطب جبينه وهو يُطالِعها ببرودٍ ثم عاد بنظره للطريق أمامه قائلًا بسخط: "حسنًا لم أقصد تعلمين أني غاضبٌ وعندما أكون غاضبًا لا أرى أمامي لذلك يُفضَّلُ أن تصمتي"
زال عبوسها فهي ليست أهلًا لتلك العواطف التافهة، أعتقد أنها ستكون زوجته الاجتماعية في جميع المُقابلات والمُؤتمرات وأمام الكاميرات، ستبرُق كالنجمةِ في ليلةٍ قاحلة أمام زوجٍ يليقُ بها ويفخرُ بملابسها المُتحررةَ في تلكَ الليالي الصاخِبة وهذا هو كلُّ ما تُريده، غبية تلك الرودين وتافهة..
ابتسمت أكثر وهي تتذكرُ صدمته قُبيلَ الفجر عندما عَلِمَ أن رودين خلعته، لحظتها ثار وانتفض وأمرها بلَمِّ مُقتنياتِها وجَمَعَ معها ثيابهما ثم توجها للسيارةِ وانطَلقَ بأقصى سرعَةٍ نحو مدينتهما، وهما الآن على الطريق بعد ساعاتٍ طويلة من قيادة السيارة وتبقى القليلُ فقط ليصلوا لوجهتهم، أرادت جعله ينسى رودين قليلًا فمالت عليه برأسها ليُسدَل شعرها البُنِّي الناعِم فوق كتفه وصدره وهي تلعبُ على نقطةِ ضعفه وهي النساء: "حسنًا يا بيبي لا تجعل شيء يُحزِنُك أنا مُتفهمة، المُهمُّ أن تكون بخير" انتشى بكلماتها وانتفخ صدره فحديثها يُشعره بالقوةِ والهيمنة، تلك الحُرمة تستطيعُ بكلماتها أن تُرضي غرورة وبقوة، ربما هي ليست الوحيدة التي تُرضيه ففي كل واحدٍ كانت تُغويه أو تتودد له كان يشعرُ بفخرٍ لا يُضاهي كأنه طاووس مُغترٌ بريشه والجميعُ مِن حولِه يُطالِعه بافتتانٍ وإعجاب، وهذا يُرضيه بشدّة.
نعم يُحب رودين لكنه بطريقةٍ ما أحبَّ ماهي فهي النقيضُ التام لها، تحبُّ الحفلات وتهتمُّ بمظهرها وعلاقاتِها الاجتماعية ولها خبرةٌ جيدة في مجال رِيادةِ الأعمال فهي مصممةُ أزياءٍ مشهورة ولديها مصنعها الخاص، ذات جسدٍ مُتناسق مثالي يُضيفُ للملابِس التي تُعرِضُها لمسةً رائعة لذلك تُحبُّ أن تكون على الصفحةِ الأولى لمجلتها وتُصِرُّ دائمًا على ارتداء الفُستان الرئيسي لمجموعتها لتبرق به وتخطف الأنظار في كل مكان، وكونها سيدةَ أعمالٍ مشهورةً مثله هذا سيُسهِّلُ الأمرَ عليه أكثر ليصل لمُراده، ليست كـرودين الخجولةَ دائمًا والتي لا تُحبُّ العمل وتقضي وقتها في المنزل لا تفعلُ شيئًا ولا تُريدُ سوى الإنجاب وتربية الأطفال، كانت المثال الأمثل حينما كان يبحثُ عن أُنثى مسؤولة لتُديرُ بيته وتُربّي ابنته وتُعوِّضها عن والِدتها لكن الآن..
هي تُريدُ انجاب آخر ولن تكون مُتفرغةً له أيضًا وهو يُريدُ أنثى فتّاكة يَصحبها لوجهاته الاجتماعية ويتمتع بها كاملة متى ما أحبَّ قلبًا وجسدًا مُتفاخرًا بها في كل مكان.
لم يتصور أن تكون رودين حقيرةً ووقحةٍ إلى هذا الحد، بعد كل ما فعله لها تَستكثِرُ عليه السعادة وبكل أنانية وبجاحة تُريدُ تقيده بها وحدها!
هي واهِمة، واهِمة ولن تحصل على ما تحلمُ به هذا أبدًا، هو رجلٌ كامِل أي أنثى تتمناه وهي حشرة لا تزِنُ جناح بعوضةٍ واحدة، سيسحقُها ويُربِّيها حتى تأتيه راكِعة مُستسلمة ترجوه أن يتزوجها مُجددًا: "وقحة وستدفع الثمن وقاحتها غاليًا" سبها في نفسه ثم هتف لنفسه مُتوعدًا: "بعدما أحكمتُ الطوق حول عنُقكِ واثقًا أنكِ لن تستطيعي الفكاك منّي يومًا بكل هذه البساطة تكسريه رودين!
دللتُكِ كثيرًا زوجتي المَصون وحان وقتُ الحِساب" رغم عِلمه التام بأن هذا القرار لم تأخذه وحدها بل ابنته الجدباء حامية حمى المرأة المُستضعفة هي التي دفعتها دفعًا لتعصيه وتخرج عن طوعه فهي شوكةُ حياته وهي العائقُ الذي يقفُ له دائمًا في مبلع اللُقمة كما يقولون؛ لكنه يُدرِكُ أن رودين بكل بساطة لا تُجبَرُ على شيءٍ غيرَ مُقتنعةٍ به، وبما أنها وافقت تاج على التمرُّد إذًا.. كان قرارُها أكثر مِن مُقتنعةٍ به وهذا في حد ذاتِه مُخيف بالقدر الذي يحفظها به، ورغم كل هذا هو لن يخسرَ أمامهما أبدًا، سيخضعان له ويركعان أمامه طالبين السماح منه وهذا وعدٌ لن يتراجع عنه أبدًا..
وأول خطوةٍ هي التخلص من ابنته، عَلقمُ حياته وشوكةُ خِصره، حان وقتُ الخلاصُ مِن تاج للأبد.
وصل بالسيارة لمنزله فيراهم يدلفون لسيارةٍ أخرى مُبتسمين بسعادة وكأنهنَّ لم يرتَكِبا أثمًا جاثمًا للغاية فصاحب بغضبٍ أسود: "تـــــــاج"
وبحركةٍ سريعة وجدها تجذبُ رودين خلفها بحسمٍ وهي تضعها في السيارةِ دون أن تجعلها تنظر له، ثم عادت إليه بنظراتها الشرسة وهي تُتَمتِمُ بشيءٍ ما لتلك المُخبَّأة عن عينيه كالفَأرِ المذعور ثم تُحتَدُّ عينيها لتُماثل نظراتُها لنظراتٍ سوداء قاتِمة، النظراتُ بينهما كانت قاتِلة وهي تتقدم نحوه ليقف كِلاهما ندًا لبعضهما البعض، وجه تاج هو نسخةُ وجهه الأُنثوية باختلاف لون العين فقد كانت عينياها عسلية مَائلة للبُندق قليلًا أما عينيه فهي زيتونية فاقِعة يميلان للاصفرار قليلًا.
"كيف استطعتما!"
هتف بشراسةٍ ثم جذبها من زراعها قائلًا بغضبٍ حارِق وعينيه لا تُفارِقُ عيناها الحاقدة الكارِهة والمُتألِّمة لأن هذا الذي يُزلِّها ويُذيقها المرار ما هو إلّا والِدها والمُفترض أن يكون حامِيها وسندها ومصدر قوتها لا ضعفها..
والمُتبقي من جملته جعلها تقسو عليه أكثر بلا رحمة وتؤكِّد لنفسها أنها أصابت هدفها هذه المرّة وبقوة:
"سأحتضنكما بجحيمي أنا أقسم وأنتِ خاصةً يا عديمةَ التربية ستندمين ندمًا ساحقًا فالحسابُ بيننا ثَقُلَ للغاية يا ابنةَ الشوارِع"
ابتسمت بسوادٍ وهي تتحداه قائلة: "لا تتهور يا أبي كي لا تكون أصابتُكَ حقًا مُؤلمة، الآن هاتفي المَحمول يُسجِّلُ لكَ كل كلمةٍ تقولها في بثٍ مُباشر وحصري للشرطة وأي تهورٍ منكَ سيُلقي بكَ خلف جدران السجن علَّكَ تتعلّم أن الله حق ومحورُ الكونِ لا يَدور حولَك"
ثم رمقت الشقراء الجالِسة بغرورٍ في سيّارته قائلةً بنبرةٍ مُتهكمة ساخِرة وأسفٍ مُصطنع: "أنتَ ما زلتَ عريسًا جديدًا وأنا لا أرتضي لكَ الأذى لذلك أذهب لزوجكَ المصون وأنسانا للأبد لأَّنكَ خسرتنا"
قالت كلماتها بمرارةٍ شديدة ثم قست ملامحها لتُسيطر على انفعالها وتقول بجمودٍ أثناء رفعها لعينيها وهي تعود للنظر إليه: "لم نخرج إلّا بحقيبةِ ملابسنا والنادي أظنُّه حقّي مِن ورث أمي والباقي تنازلتُ لكَ به كاملًا، لا نُريدَ منكَ قرشًا وحدًا لا تقلق ثروتكَ في الحفظ والصون لذلك أتركنا نرحل بهدوءٍ ولا داعي للفضائح"
وبعدها لم تنتظر إجابته بل ذهبت للسيارة التي تركت رودين بها أمّا هو فتهجم وجهه أكثر وكاد يقتربُ منها ليُلقنها درسًا قاسيًا على حديثها الذي فاق حدود الوقاحةِ معه لكن فجأة اعترض طريقه مجموعة من الضبَّاطِ المسلحين والمُجهّزين للفتك به في أي لحظة..
ضبّاطٌ خرجوا له من حيثُ لا يدري ليقفوا جميعًا أمامه كحائط سدٍ يحول بينهما، رمقته تاج بنظرةٍ ساخِرة وهي تقول بشماته أثناء صعودها للسيارة: "حذَّرتُكَ وأنتَ تعلمُ إني لا أُهدِّدُ عبثًا"
دخلت السيارة وأمرت السائق بكل بهاءٍ وقوة أن يذهب بهم لوجهتهم، نظرت لرودين بصلابة فوجدتها ترتعش بوضوح لذلك مالت عليها وسحبتها بين أحضانها بحنان قائلة: "لا تقلقي نحنُ في أمان، كان همًّا خانقًا وراح لحال سبيله، لن يقربكِ مُجددًا أبدًا ما دمتُ على قيد الحياة، لن أسمح له، لم استطع حماية أمّي من بطشه لكنّي سأحميكِ أنتِ، سأفديكِ بحياتي"
فتشبثت رودين بقوة في ثيابها وهي تتمتم من بين دموعها بحمد الله وشكره لوجود تاج في حياتها ولأنها لم تتخلّى عنها وتتركها وحيدة كما فعل الجميع.
❀•❀•❀
أُطلِقت الزغاريدُ بفرحةٍ عارِمة والنساءُ ترقص في باحةِ المنزل والرجالُ في الخارِج يتسامرون معًا ويضحكون بأصواتٍ مُجلجلة عدا العريسُ الذي كان يرتسمُ ابتسامةٍ مُصطنعة لا تصلُ عينيه وهو يتذكرُّ يوم حدّثته أُميمة لتُخبره أن العروس وافقت فأرتاح لمُوافقتها وشعر أنها الحلُّ الأمثل لمُعضِلتِه مع أمه، ابتسم شاردًا لذكرى فرحة والِدته وهو يخبِرها أنه وجد عروسًا مُناسِبة ومُطلقة مثله رغم صغر سنها، ثم وضَّح أن أُميمة تعرفها وتعرِفُ والِدتها وقد رجّحتها له بقوة أي أنها من طرف الغالية صديقةُ جدته الصغيرة، فتهللت أسارِيرُها وانهالت عليه بسيلٍ من الأسئلةِ لا ينتهي ليضحك وهو يحتضنُها قائلًا: "هذا دورُكِ أنتِ يا كل البركة، أذهبي لها وجدي الإجابة على أسألتك هذه بنفسك" فتذمرت قائلة: "ألم تعرف عنها أي شيء؟"
فنفى برأسه قائلًا: "لا شيء غيرَ أن أُميمة أخبرتني أنكِ تعرفين والِدتُها معرفةً جيدة" فتركته فجأة وهرولت نحو هاتِفها تمسكه بين يديها لتتصل بأُميمة التي أجابتها بصراخةٍ قائلة: "جدتي العروسةُ كالبدرِ في تمامه؛ جمالٌ وأخلاقٌ وذكاءٌ ورقّةٌ لا مثيل لها ستعشقينها باللهِ يا جدتي" فابتسمت الجدّة باتساعٍ وهي تسألُها الكثير والكثير بلهفةٍ وحماسٍ شديد حتى تعلمَ منها كل شيءٍ وأُميمة تقوم بالواجب وزيادة، ضحك مِن قلبه لسعادِة والدته والتي باتت كشابةٍ صغيرة تتآمرُ مع صديقتها عليه فدلف والده في هذه اللحظة بابتسامته البشوشة وهو يمزحُ قائلًا: "على مَن تنمُّ والِدتك هذه المرّة؟"
قهقه وِضاء الذي يُشبِه كثيرًا والِده بل يُعتبر النسخة المُصغرةَ منه قائلًا: "عنّي"
ليسأل والده باستنكار: "عروسٌ جديدة؟"
فأومأ وِضاء قائلًا بسخرية: "وأنا مَن أحضرتُها هذه المرّة"
ليرمقه والِده قائلًا بصدمة وهو يكادُ يُكذّب أذنيه: "ستتزوج؟"
فأومأ وِضاء قائلًا بسخط وهو يتنهدُ فهذا يبدوا أنه واقِعٌ لا فِرار منه: "نعم سأنتحرُ.. أقصد سأتزوّج للمرةِ الثانية"
عاد مِن ذكراه مُبتسمًا لينتقل بعقله لذكرةٍ أخرى عندما قضت والِدته النهار بطولة تبكي حينما أخبرتها أُميمة بأن والِدة عفراء توفت، والتي فهم في ما بعد أنها كانت صديقتُها في القِراءة أيضًا وتتبادلان الكتب والروايات معًا عن طريق أميمة التي كانت حلقةُ والوصل بينهما، شرد مرةً أخرى في ذكرى تقدُّمه لها، كانت صامته خجولة مُنحنية الرأس و.. وحدها، صدقًا كانت وحدها لا أهل، لا أصدقاء، لا عائلة ولا أي شخصٍ يستقبلهم معها سوى أميمة التي وكّلت نفسها المُوصية عليها رغم أنه علم أن لها أختان وأعمامٍ والكثير من الأقارِب غيرهما لكنهم لم يكونوا معها ولم يحضرا، والذي فاجأه أكثر حينما أختلى بها بأمرٍ من أُميمة وبحُجَّةِ أنهما عروسان وعليهما التحدثُ قليلًا معًا، الخلوةُ التي جمعتهما لم تكن سوى التُراس المُغطّى بستائر ثقيلة تمنعُ رؤيةَ الجيران المُتطفلة لهم، جلست هي في أحد الأركان المُستترة بينما جلس هو أمامها ظاهرًا لأُميمة ووالديه فاصطنع ابتسامة هادِئة كي لا يُثير شكوك والِديه.
"لا أُريدُ حضور أعمامي أو أن يكون أحدهما واليًا لي"
لم يصدِّق أنها قد تطلبُ شيئًا كهذا لكنه أومأ بهدوء فهو يعرفُ السبب حق معرفة لأن أُميمة أخبرته بكل شيء في تلك الليلة التي أنقذ عفراء بها.
تابعت بخجلٍ وهي تنكسُ رأسها: "أُريدُ إمام المسجد أن يكون واليًا لي، هو رجلٌ صالِح وقد كان يُحفِّظنا القرآن ويُعلمُّنا الفقه والعقيدة حينما كنّا صِغارًا، كما أنه صديقُ والِدي الراحِل رحمةُ الله عليه"
فأومأ هذه المرّة بإعجابٍ صريح وكأنه يُهنِّها على حسن اختيارها، غادر يومها ولم يرى وجهها وعندما نوّهت والِدته لهذا تحجج أنه رآه وهما في الداخل عندما كانا وحدهما، ورغم كون الزواج صوريًا إلّا أن غريزته الذكورية كانت تتمنى رؤيةَ وجهها وبقوة، يُحاوِل تخيُّل مَلامِح وجهها؛ ثغرها أنفها شفتيها ووجنتيها..
بالتأكيد ستكون حمراء شهية عندما تخجل بما أنها شديدةُ الخجل وقد لاحظ هذا من انخفاض رأسها وتوترها المُستمر، كفيها كانا أبيضين وناعمين وهذا جعله يستنتجُ أنها بشرتها فاتحة، ملابسها كانت فضفاضة واسعة لا تصف جسدها أو تفصله ولا حتى تُعطيه تخيلًا واضحًا لجسدها لكن بما أنها كانت لا تشغلُ مكانًا يُذكرُ من الأريكة التي تجلسُ عليها فإذًا هي ذات قوامٍ ممشوق أو ربما تكون شديدةَ النحافة، وهذا مُطمئنٌ قليلًا فهو على كل حالٍ لا يُحبُّ النحيلات ولا يستهويهنّ مما سيجعلُ مهمته أسهل بكل تأكيد.
استفاق على يدٍ تُربِّتُ على ظهره وصوتُ ياسيف يهتِفُ بمرحٍ قائلًا: "ها قد أتى العاقِلُ الوحيدُ فينا شيخَ الشباب" وعلى ذكر ياسيف فقد كاد يقتله حين علِمَ بأمر زواجه قائلًا: "يا حقير يا خائن كنتَ تُصرِعُ رأسي بقولِكَ لا أُريد الزواج لا أريد الزواج وها أنتَ تجدُ عروسكَ الثانية وستتزوج وتتركني كالعانس أبحثُ عن واحدة؟!" حينها قهقه وِضاء كما لم يفعل من قبل وهو يُبرِّرُ قائلًا: "كان عليّ أن أُثبتَ لكَ أنّي رجُلًا حقيقي أتزوج النساء وأحبهم لأنفي ما رميتني به باطلًا"
كذبه ياسيف بشراسةٍ وهو يتوعدُ له قائلًا: "أنتَ كاذب يا وِضاء وتحاوِل النفاذ بجلدك، لن أتركك تنعمُ بهذه الزيجة سآتي للبيات معك ليلةَ عرسِكَ وسأخربها لكَ إلّا لو..." ثم تحولت نبرته للطف واللهفةِ قائلةً: "زوّجتَني معكَ، ألديها أخوات؟"
افجر وضاء في تلكَ اللحظةِ ضاحِك وهو يهتفُ بسخريةٍ قائلًا: "مُتزوجاتٍ أقسمُ بالله، يبدوا أنّكَ ستظلُّ العازب الوحيد على سطح هذا الكوكب"
عاد من شروده يبتسم بمرحٍ لذكرى انقضاض ياسيف عليه بحنقٍ غاضبًا والتفت لذاك الذي عانقه بقوةٍ رجولية قائلًا: "مُباركٌ لكَ صاحبي" هتف صديقه وهو يحتضنه بمودّةٍ وسعادة ليستقبل وِضاء عِناقه بعناقٍ أشد قائلًا: "مرحبًا يا أيهم كيف حالُكَ وحالُ ريتاج، اشتقتُ بقوةٍ لكما يا رجل"
فابتعد أيهم عنه مُبتسمًا وهو يقول بابتسامةٍ واسِعة: "بخيرِ حالٍ والحمد لله" ثم وكزه قائلًا: "أخيرًا كسرت النحس وتزوجت"
فقهقه وِضاء قائلًا: "بالله لا تُذكرني على ما أنا مُقبلٌ عليه من جحيم، أنا بالكاد تخطيتُ صدمة تدبيسي مُجددًا"
قهقه أيهم مِلأ شدقيه ليقول ياسيف ساخطًا: "حضر الماء وبَطل التيَمم، اضحكا.. اضحكا كأن لا وجود لي" فعانقه أيهم ضاحكًا بابتهاجٍ لعودة صاحبيه أخيرًا بعد غياب سنواتٍ عديدة في بلدٍ أجنبي بعيدًا جدًا عن الوَطن، وقد سافر إليه ليزورهما مع ريتاج بضع مراتٍ قليلةَ من قبل لذلك همس بشوقٍ ومُزاحٍ لصديقه الثاني المُقرّب قائلًا: "مرحبًا بـ 'الدحيح' العانس، أخبرتُكَ أن لا داعي لاِلتهام الكتب وابحث عن عروسٍ أفضل قبل أن يَفوتكَ القِطارُ فتذمرت قائلًا مُستقبلي.. مُستقبلي اِهنأ إذًا بمُستقبلكَ والعنوسةِ يا عبقريَّ الجامعة"
فلكزه ياسيف في خصرِه متذمرًا قائلًا: "مزحةٌ لطيفة يا خفيف الدم، أنتَ أكثرُ شخصٍ عليه أن يصمت فحالُك ليس أفضلَ منّي ثم أنا أبحث بتأنّي لا أكثر"
فقال أيهم مُستمتعًا بإغاظته: "لا تكذب ياسيف فوِضاء أخبرني كل شيء"
نفض ياسيف نفسه بعيدًا عنهما ثم قال بتحدٍ سافِر: "تتحدياني أني سأُعلِنُ خطوبتي غدًا قبل أنهاء زفاف وِضاء السخيف!
وزفافي سيكون بعد ذاك الغليظ المحظوظ الذي يتزوّجُ للمرةِ الثانية بأسبوعٍ واحد وربما أسبوعان على أقصى تقدير"
ثم تركهما ورحل قاصدًا وجهةً بعينيها، وتلك الوجهة لم تكن سوى: "مَجلِس النساء" المكان المُخصص لاحتفال النساء حيثُ الرقص والدلع وخلفه وِضاء وأيهم ساقِطان أرضًا من شدّةِ الضحك وحولهما بعضُ الأقارب يضحكون على مشاكسات هذا الثلاثي والتي أتضح أنها لا تنتهي حتى بعد مرور الكثير من السنوات.
❀•❀•❀
تململ خيّال في نومه على صوت هاتفه الجوال فحمله بسخط ليرى أن المتصل سراج، زفر بحنقٍ ثم أجاب مُتأففًا: "نعم"
فهتف سراج بغلٍ وغضبٍ أعمى: "اسمعني يا خيّال الشرطُ الأول سيُنفَّذ الليلة بل بعد ساعةٍ واحدة ولن انتظر ثانيةً زائدة"
فهتف خيّال باستنكار وهو يستقيم جالسًا: "بعد ساعة!"
فأكّد سراج بفحيح: "نعم بعد ساعةٍ من الآن سنعقدُ قرانك على تاج"
بعدما أغلق سراج الهاتف تمدد على الأريكة بغضب سافر، سيُعِيد تربية تلك التاج هي والغبيةُ رودين، تأفف مُجددًا فهو لا يستطيع العيش دونها، يعشقها بكل ما فيها براءتها طفولتها عنادها هُيامها به وغيرتها الشديدة عليه والتي كان مُدركًا أنها تحرقها بقسوةٍ منذُ ذهب ليَخطُبَ أخرى لكنه تغاضى عنها ليُفهما أن هذا ليس حقها، الغيرةُ عليها من هذه الجهة ليست في صالِحها لأنه ليس مِلكها، مؤكدٌ أن زواجه هو ما جعلها تدعسُ فوق قلبها وتتخذُ قرارًا لعينًا كهذا، قد تكون تَغيُّراتٍ هرمونية لعينة وستفيقُ من كل هذا قربيًا جدًا وتعود لوعيها ومن بعدها تعود إليه خانعة خاصةً عندما تجدُ نفسها وحيدةً بعد مُغادرةِ تاج، ستركعُ أسفل قدمه وتعتذر وهو سيعملُ على ضمان هذا وسيأخذ قلبها غنوة كما فعل وسيفعل من جديد إن تطلب الأمر رغم أنه متأكد أن قلبها مازال ملكه.
تذكر صبيحة اليوم عندما سمع صوت صريخ مديحة الذي قطعَ سيل أفكاره لينتفض واقفًا راكضًا إليها ليجدها تركضُ نحوه وأربع دجاجاتٍ حمقاواتٍ يركضون خلفها، تسمر مكانه لفترة من الزمن لم يستوعب فيها ما يحدث حتى وجد مديحة قد اقتربت منه والدجاجاتُ السريعاتُ تُهروِلُ خلفها فاستدار في لحظةٍ وهَرِبَ راكضًا وهو يصرخُ بهلعٍ مُناديًا الأمن ليُمسكوا بالدجاجات الثائرة، اختبأ في غرفة الحارس وأغلق الباب خلفه هامسًا بفحيح خافت: "تلعبين بالنار يا رودين، تستخدمين نقاط ضعفي بمهارة في ألاعيبٍ طفولية حقيرة تظنّين أنها ستَهزُّني أمام زوجتي..
أثقلتِ الحساب كثيرًا لكن مهلًا فالقصاصُ آتٍ لا تقلقي" عاد من ذكراه يبتسمُ بخبثٍ وهو يقول بفحيحٍ: "أنتِ لا تعلبي بنزاهةٍ يا صغيرة لكن صبرًا فأنا سأستمتِعُ كثيرًا باختراق قواعد اللعبة وستندمين".
❀•❀•❀
كان جالسًا ينتظر المُترجمةَ الجديدة المُسمّاةُ عِطر ليُجري لها مُقابلةِ عملٍ وكانت تلك هي المُقابلة الأخيرة له في هذا اليوم فتمنى أن تكون مُناسبة لتلك الوظيفة لينهي من تلك المُقابلات المشحونة والتي يجعله المُتقدمون يشعر فيها وكأنه سجان أو جلّاد وليسَ مُجرد مديرٍ للموارد البشرية ومُهمّته اختيار أُناسٍ أكفّاء للعمل في الشرِكة، زفر بخفوتٍ وهو يعود ليتفحص أوراقها أمامه مؤهلاتها جيدة، وخطُّها أنيقٌ ومُهذّب، تقديراتها جيدة والشهادات الحاصلة عليها قوية، كل هذا كان جيدًا والمؤشراتُ جميعها كانت مُبشرةً جدًا حتى دلفت الفتاة!
وهنا كانت الصدمة التي جعلته يُعيد حسابته ألف مرًة..
رآها تدلف بهدوء رَأسُها مَرفوع رغم انخفاض عينيها بحياءٍ واحترام، السوادُ يُغطيها من قمّةِ رأسها لأخمص قدميها، ولعدم سماع صوت خطواتها أدرك أنها ترتدي حذاءً رياضيًا وليست من ذوات الكعب العالي الذي يُفرقع كلما تحركت، تركت الباب مفتوحًا خلفها وتقدمت حتى وقفت أمامه قائلة: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" رفعت وجهها إليه برسميةٍ فتوتر قليلًا ثم أشار إليها بالجلوس قائلًا بريبة: "وعليكم السلام تفضلي.."
كان لابد من التعامل معها بلباقةٍ ورسمية رغم اعتراضه التام لهيئتها وملابسها، فتساءل في نفسه أهذه هي المُترجمة!
وبنظرةٍ ساخطة حاول مُداراتها قال بحنق: "نسيتِ الباب مفتوحًا يا أستاذة"
فأجابت هي بثقةٍ تعجّب لها: "لم أنساه بل تركته مَفتوحًا عن قصد فلا يجوز بقائي معكَ وحدنا في مكانٍ مُغلق"
ليبتسم بسخريةٍ وهو يُجيبُ بنبرةٍ مُتهكمة: "معكِ حق ستكون كارثة إن تجمع شيطانانِ في مكانٍ واحِد وثالِثهما بني آدم"
اتسعت عيناها بعضبٍ هامسة: "شيطانان!"
فزادت سخريته وهو يُشيرُ لها بازدراءٍ قائلًا: "برِدائكِ هذا لا ينقصكِ سوى قرنانِ وشوكةً حُمر ويخاف منكِ أعظمهم"
كانت تغلي داخِلها لكنها تماسكت ببرودها لتُجيب ببساطةِ قائلة: "إذًا أنتَ تراني الآن شيطانة؟"
أومأ بسخريةٍ شديدة فأجابته بابتسامةٍ كبيرة لمعت في عينيها: "مَباركٌ سيدي لقد عرفنا نوعكَ" قطب حاجبيه مُتسائلًا لتابعت هي قائلةً ببراءةٍ: "أنستَ أن الحميرَ وحدها مَن ترى الشياطين سيدي؟"
وبوم.. في مُنتصف الجَبهةِ، تابعت جملتها وهي تستقيمُ راحِلة وقد انتشت من الرَدِّ عليه مُقررةً الرحيل قبل أن يطردها بنفسه ليستوقفها بغضبٍ أعمى قائلًا: "انتظري يا أستاذة" ثم تابع بفحيحٍ: "المُقابلةُ لم تنتهي بعد.."
استدارت نحوه تنظرُ إليه بشكٍّ لقد قصفت جبهته للتو فهل لديها فَرصةً للقبول في الوظيفة!
وجدته يُطالِعها بخبثٍ وهو يفرد زراعه ليُشير نحو الكرسي الذي كانت جالسةً عليه قائلًا بلباقةٍ كاذبة: "تفضلي بالجلوس"
و.. جلست فامسك هو بأوراقِها مُنشغِلًا عنها وبدأ في أداء مُهمته بكل رسميةٍ وفي نفسه يُقسِمُ أن ينتقم منها أشد انتقام، مرّت نصفُ المقابلةِ بشحناتٍ سلبية مُبالغٌ فيها لكنها تقريبًا أبلت بلاءً حسنًا، جاءت فقرة 'الأسئلة التعجيزية'، والسؤال الأول كان بديهي بالنسبةِ لها: "ما الذي يجعلنا نقبلك دونًا عن غَيركِ؟"
فأجابت ببساطةٍ: "لأنّي أُحبُّ عَملي وأتحدثُ اللغة بلهجاتها المُختلفة كأنها لغتي الأم وأصدقائي الأجانب يشهدون على ذلك، كما أنكم تتعاملون كثيرًا مع الغرب وتحتاجون لمَن يفهم لغةَ الشوارِع خاصتهم وليست فقط اللغة الأكاديمية"
صمت وطال صمته وهو يُطالِها بنظراتٍ عميقة ثم في النهايةِ أشاح بنظره عنها ونظر للأوراق قليلًا ثم سألها بخبثٍ: "أنتِ الآن في السيّارة ومعكِ عملَةٌ معدنية وأمامكِ طفلٌ وعجوز فمَن ستدعسين؟"
بنظرةِ ثقة وابتسامةٍ عبقرية أجابت دون اكتراثٍ: "سأدعسُ الفرامِل"
صدم لسرعةِ ردها إذًا هي تفكرُ جيدًا في السؤال ولا تتسرعُ في الإجابة وهذا حقًا أعجبه فتسعون بالمِئةِ مِمَن طرح عليهم هذا السؤال فشلوا فب إجابته!
سأل للمرةِ الثالثة: "إن كنتِ في اجتماعٍ مع المُدير واقرَح شيئًا وكان لديكِ اعتراضٌ عليه أو اقتراحٌ أفضل منه ماذا ستفعلين؟"
وبنفس الهدوء أجابت: "سأضطرُ للاستئذان في أمرٍ طارِئ واطلبُ مِن المُدير أن يتقدمني لأن الأمر يخصه وسأخبره بما أريد بيني وبينه لأني لا يمكنني احراجه أمام أي وفدٍ من الخارِج أما لو كان الاجتماعُ للموظفين فقط سأنتظرُ الاجتماع حتى ينتهي ثم سأذهبُ له لأعرض عليه اقتراحي ثم اشرحه له بإيجاز"
"أين تظنين نفسكِ بعد خمس سنوات"
'في بيت زوجي بالطبع وحولي أطفالي أخبزُ لهم الكعك والحلوى' هذا ما ودّت الهمس به لكنها أجابت بعملية: "في فرع شركتكم الموجود في أوروبا أعملُ كمُترجمة للغتان جديدتان غير الثلاثة اللاتي أتحدثُ بهم"
كادت يسقط ثغره من مُفاجَأةِ ردِّها لكنه تمالك نفسه بصعوبة وهو يقول برسميةٍ ونبرةٍ ماكِرة فهو لا يُريد توظيفها من البداية بل أراد إعطائها أملًا ثم كسره لتعلم مَن هو المُدير هنا وكيف عليها أن تحترمه: "حسنًا آنسة عطر يُمكنكِ الذهاب وسنُحدِّثُكِ فيما بعد"
الوَغدُ الحقير كان يلعبُ بأعصابها!
حافظت على هدوؤها أمامه كي لا يشعر بالانتصار عليها ثم استقامت قائلة: "حسنًا، أستَأذنُكَ للرحيل" لم تقل له السلام عليكم فهي في قلبها الآن لا تتمنى له أي سلامٍ الوغد الحقير الذي دمر سلامها الداخلي، أومأ لها وهو غافلًا عن خواطرها مُستمتعًا بانتقامه منها أما هي فخرجت مرفوعةَ الرَأس أمام تلكَ السكرتيرة المُتكبرة.
هذا ليس مكانها.. وعند هذا الخاطر ترقرقت الدموع في عينيها لتنهار باكية ما إن خرجت من الشركة وصعت لسيارةِ الأجرة، أُغرِقَ النقاب بالدموع وهي تسألُ الله تيسير كل عسيرٍ لها لأنها تعبت بحق!
كيف ستُسدد مصاريف دروس أخيها؟
مِن أين لها بالمال بعد ما أنفقت كل مُدخراتِ والِدتها..
وفجأة هداها الله لفكرةٍ لامعة سرعان ما قررت تنفيذها عندما التفتت نحو السائق قائلة: "غَيِّر الاتجاه لو سمحت سأذهبُ للمركز التعليمي"
ولما لا..
لما لا تُدرس الطلّاب للإنجليزية والفرنسية وهي ممتازةٌ فيهما كأنَّهما لغتها الأم.
❀•❀•❀
انتهت تاج من ترتيب الأغراض في الشقة التي ساعدهم أدهم في استأجَرِها برضا فهي مفروشةٌ ومُجهزةٌ جيدًا جدًا، تعلمُ أنه مَن فعلها وجهزها فشعرت بالامتنان الشديد لأنه اهتم بكل هذا، ترى كيف علم بلونها المُفضل أو حبها للُعبة للمُلاكمة؟
تفاجأت عندما وجدت أنه حضَّر لها زاويةً للمُلاكمةِ في غرفتها الخاصة، وتفاجأت أكثر عندما وجدت أن تلك الغرفة يغلبُ عليها لونها المُفضل..
الغرفةُ كانت مُحايدة، لا هي بتفاصيلٍ أنثوية ولا حتى رجولية خشنة بل كانت بالضبط كما تُفضِّل بسيطة فاتحة ويتخللها ألوانٌ جذّابة وهادِئة.
ابتسمت بخجلٍ فطري لا يظهرُ كثيرًا ثم خرجت من غرفتها واغلقتها لتذهب للغرفةِ المُجاوِرة والتي كانت لرودين، طرقت باب الغرفةِ ودخلت لتجدها نائمة على ظهرها وشاردة في سقف الغرفة بينما يداها تربت بحنو على بطنها، اقتربت منها ثم دست نفسها بجانبها قائلة بتذمرٍ طفولي لا يَظهر إلا نادرًا، بالتحديد لا يظهر إلّا لو كانت مع رودين أو وحدها في عزلتها تتصرفُ على سجيّتها: "رودي افسحي لي مكانًا فأنا أريدُ أن أنام جواركِ، لا أُحِبُّ النوم وحدي في منزلٍ غريب"
كانت تكذب فهي لطالما صلبة قوية لا تهاب شيئًا ولكنها لا تريد تركَ رودين وحدها خاصةً بعد اللقاء المُدوي صباحًا، أما رودين ففهمت غايتها بسهولة لأن تاج لا تجيدُ الكذب وإن فعلت لن تستطيعَ خداع طفلٍ صغير، ورغم هذا ابتسمت بحنوٍ لها وأخذتها بين احضنها كأنها أبنتها حَقًّا رغم أن تاج تفوقها طولًا بكثير، تلك الشابة القوية تاج كانت يومًا مجردَ طفلةٍ صغيرة يتيمة تَقفُ في الركن المُظلِم وحدها خائفة وتشردُ كثيرًا كأنها لا تنتمي للمُحيط حولها، حاولت مُحادثتها فخافت وتراجعت برهبةٍ وانعدام ثقة، يومها بكت رودين وهي تحتضنها بقوةٍ مُقسمةً أنها لن تترك يد تلك الطفلة أبدًا وسترعاها للأبد، وها هي الطفلة الضعيفة الخائفة كبرت لتكون المُناضلةَ القوية التي لا تهابُ الظلم وتواجهه بشراسةٍ حتى لو كان والِدها فصارت هي التي ترعاها وتحميها من كل شيءٍ يحوم حولها أو يُؤرِّقُ نومها.
نامت تاج بينما شردت رودين بعيدًا مرة أخرى، لقد تركت لهم ثلاث هدايا صغيرة في المنزل، تجزِمُ أنهم قد اكتشفوا واحِدةً الآن..
ربما كانت مقالبها طفولية لكنها لا تملِكُ غيرها، شعرت أنها تستحق أن تُشفي غليلها منهم حتى لو بأكثر الطرق سخافةً المهم أن تنتقمَ ولا تُمرِّرُ له خيانته مرور الكرام هكذا!
تذكرت يوم احضرت دجاجة لذبحها في المنزل ثم تنظيفها وطبخها فهربت الدجاجة منها وانطلقت تركض في الفيلا لتسمع صُراخًا مدويًا والذي لم يكن سوى من سراج المُرتعِب وهو يهتف قائلًا: "أبعدوها عندي، ساعِدوني"
ضحكت بمرارةٍ وعيناها تدمعُ لتلك الذكرى التي جعلتها تسقط أرضًا من شدّةِ الضحك يومها وهي ترى سراج رجل الأعمال الذي يهابه أغلب الناس يخافُ من دجاجةٍ صغيرة حقيرة لا تزنُ شيئًا، فبرر لها يومها بلا فخر قائلًا: "أنا مُصابٌ برِهاب الدجاج الذي يركض بسرعةٍ وهمجية لأن إحداهم خدشتني بأظافرها الطويلة عندما كنتُ صغيرًا فبِتُّ لا أحبُ رؤيتهم أحرارًا يطيحون في كل مكان"
مَن كان يظن أن سراج بكل أمواله وغروره يخاف الدجاج!
عادت من ذكراها بابتسامة ذابلة سرعان ما اختفت وقست ملامحها عندما تذكرت زواجه بأخرى هذا إن نسته لحظةً واحدة!
ابتلعت غصتها وأقسمت أن تنساه للأبد لكنها لا تتوقع أن تنسى جرحه أبدًا.
❀•❀•❀
ابتسمت عفراء بذبولٍ وهي ترى النساء حولها يَرقصن بحرارةٍ على طبول الدف، والكثير من المُشجِّعات الجالِسات حولها يُصَفِّقنَّ بأيديهنَّ ليزداد العرسُ حرارًا، كانت لتكون أكثر من سعيدة لو كان هذا زواجها الأول ولو كانت تلك الفتاة الصغيرة التي تحلمُ بفارس أحلامها ويوم زواجهما، تنهدت للذكرى المريرة وهي تتمنى لو كان هذا الزواج زواجًا حقيقيًا وأنها ما عادت مُعقدةً منه فتستمتع بكل هذا الهرج والمرج حولها، مَعذورة فهي ذاقت ما لا خطر على قلب بشر أو على الأقل ما لم يخطر على قلبها..
مالت برأسها للأمام تنظر لأُميمة الجالسة أسفل قدمها تُزِّنُ راحتيها برسومات الحنّاء المُزينة بالشموع المُعطرة فابتسمت بودٍ لتلك الأخت التي بُعثت لها رحمةً من الله في أغلظ أيامها وأشدها قسوة، جاءت مي من خلفها قائلة بتلعثمٍ وشغف: "أمي.. ضعي لي من حنة العروس هنا" قالت وهي تُشيرُ لمعصمها فضحكت والدتها وسط هذا الصخب العالي قائلة: "حاضر يا قلب أمَّكِ سأنتهي من الخالة عفراء وأتفرّغُ لكِ أم تحبين أن تضع الجدةُ لكِ الحنة بنفسها؟"
فابتسمت الطفلة مُهللة وهي تخرج من شقّةِ عفراء وتركضُ للأسف نحو شقتهما حيثُ يجلسُ أخاها مُحمد والذي فضّل المكوث بالأسفل حتى تنتهي والِدته ليذهبا معًا للخال وِضاء الذي وعدهما بجولةٍ مُمتعة فوق ظهر الحصان الراقص: "جدتي ستضعُ لي الحنّاء، جدتي ستضعُ لي الحنّاء مرحا"
ابتسم أخاها وهو يُقبِّلُ يديها المَمدودةَ قائلًا: "سترسمُ لكِ قلبًا جميلًا كالمرّةِ السابقة يا صغيرتي" لتضحك بدلالٍ وهي تُضيِّقُ عينيها قائلة: "وأنتَ ستضربُ بهاء لو فكر في مسحها لي أليس كذلك؟"
فأومأ قائلًا: "بلى سأنتُف لكِ شعره الذي يتمخترُ به هذا إن فعل"
فقهقهت بخبثٍ وهي تتآمرُ على ابن خالتها بهاء والذي يُقارِب أخاها عمرًا ويكبرها بسبعةِ سنواتٍ كاملة لكنه أحمق ويعشقُ مُضايقتها.
"كفا حبيبتي، هيا عليكِ أن تكون الآن وسط أهلك"
"وأنتِ صرتي من أهلي أيضًا عفراء فاصمتي" نهرتها أُميمة بعتابٍ وهي تَدعوها للرقص وسط النسوة فخجلت عفراء وجلست أرضًا قائلة: "لا استطيع الرقص أرقصوا أنتم" فأصرت عليها أميمة كثيرًا وفي النهاية انتصرت عفراء ولم ترضخ لإلحاح أميمة التي قررت أن ترقص بنفسها لتُشعل الحنة وسط النسوة بفستانها الأنيقُ وكعبها العالي الذي أعادها عشرةَ سنواتٍ للوراء، شردٍ بابتسامةٍ حزينة مُجددًا وهي تتذكرُ حنّتها السابقة والتي كانت قبل زفافها بيومين لأنها قررت أن تقضي اليوم الذي يسبق زفافها في المُنتجع الذي تُديره صديقتها والتي دعتها لتقضي به يومًا كاملًا من الهدوء والسكينة والعناية ببشرتها لتُدلِّلَ نفسها كما كانت تعشق، أين هي الآن من هذا الدلال..
صارت قاسية صلبة جافة والحياةُ التي كانت تتراقص في عينيها ماتت بذبحةٍ صدرية قضت عليها في الحال.
تنهدت ببؤسٍ فالماضي عاد ليُلاحقها عندما علم أنها وحيدةً ولا ظهر لها، اجبرها ذاك الحقير زوجها وأصحابه على أن تخوض هذا الجحيم مجددًا فاحمها يا الله منهم ومِن شرورهم لأنها لا تأمنُ غدرهم، غسان كان أمام الجميع آية من الرحمن فعشقته وذابت فيه حبًا خاصةً مع نُبله الواضِح وشهامته حتى انفردت به فكشف عن وجهه الحقيقي وأزال قناعه أمامها ليُرِها الحقيقة المُرّة التي ينفرُ منها البدن وينتفض منذُ الليلةِ الأولى لهما.
مرّت عدة ساعاتٍ قليلة حتى رحلت أُميمة مُضطرة ومن خلفها بعضُ النسوة والبعض الآخر جلست يتوددن ليَترُكاها وحدها عكس المرةِ السابقة التي كان أهلها جميعًا حولها حتى السويعات الأولى من النهار، نظرت لملابسها التي ما كانت سوى فستان طويل رقيق من الشيفون اللامع وشعرها المُموج مُنسدلٌ بوقارٍ خلف ظهرها، الحنّةُ الحمراء كانت قاتمة كلون النبيذ بينما بشرتها البيضاء المُوردة والتي كانت تُناقض ذاك اللون النبيذي القاتم والمُحبب لقلبها، لقد صلت واستخارت ربها للمرةِ ألف ولكن ما زالت تشعرُ بشيءٍ من الخوف، الخوف من المجهول..
جلست تضمُّ ساقيها لصدرها مُسلمةً أمرها كله للمولى عز وجل ومُتوكلةً عليه.
❀•❀•❀
وقف بخجلٍ أمام الباب الفاصل بينهم وبين النسوة وهو يلعنُ نفسه ألف مرّة ويلعن تهوره الذي أودى به إلى هنا.
"أستاذ ياسيف!"
يا إلهي الوضعُ زاد سوءً ماذا سيفعل الآن ماذا يقول..
منك لله يا وِضاء أنتَ وأيهم أنتما السبب في هذا الأحراج الآن، تنحنح وهو يكاد يبكي خجلًا قائلًا: "آنسـ.. أقصد مدام أُميمة ما هذه المُفاجأة الجميلة.. آ أقصد بالطبع أنتِ هنا فهذا عُرس وِضاء.. بما أنكِ خاله أقصد هو خالكِ... أنا راحلٌ" كان يتحدث بتلعثم وتوتر وخجلٍ شديد فزاد الطين بلا بكلماته ليُقرر في النهاية عندما شعر أنه أفسد كل شيء أن عليه الانسحاب والرحيل وأثناء خروجه نادته أميمة مبتسمة فهي على علم بتوتره الذي يزداد كلما أُمسِك به مُلبسًا في مصيبةٍ ما بالجرم المشهود أو عندما يرتكبُ حماقةً تجعله يندمُ ألف مرة: "انتظر يا أستاذ ياسيف جيدٌ أنّي رأيتُك، هل يُمكنُكَ أن تُنادي وِضاء لي لو سمحت؟"
أومأ قائلًا: "نعم بالطبع سأُناديه حالًا" ورحل مُسرعًا ليصطدم في الحديقةِ الخارِجية بفتاةٍ قصيرة نهرته قائلة: "ألا ترى يا هذا!"
اعتذر منها وهو ينظر لها ليجدها فتاةً برونزية البشرة قصيرة جدًا بالكاد تصلُ لبدايةِ قفصه الصدري وترتدي فستانًا وردي ناعم فسألها بانبهارٍ: "هل أنتِ مُتزوجة؟"
لتعبس هي وتجيبه مصدومة: "ماذا!"
لينظر هو بسرعةٍ في كفها فلا يجد خاتم زواج لتنفرج اساريره قائلًا: "أعطيني رقم والِدك إذا سمحتي أُريدُ مُحادثته.."
فابتعدت عنه ساخطة ووجنتيها تتلونُ دون إرادةٍ منها قائلة: "هل أنتَ مجنون!"
وكادت تُغادِره لكنه اعترض طريقها قائلًا: "أنا صادِقٌ أقسِمُ بالله، حسنًا لا داعي لرقم والِدك أمليني أسمكِ وأنا سأبحثُ في سجِل أسماء المدعوِّين وسأجدُكِ إن شاء الله لا تقلقي"
تصاعد غضبها لكنها ابتسمت فجأة بخبثٍ وهي تقول بدلالٍ مُزيف: "اه حسنًا، تفضل رقم والِدي" ثم كتبته سريعًا على ورقةٍ مُلونة وطوتها لتُعطيها له وترحل ضاحِكة بخفوت ماكِر أعتقد أنه نابِعٌ من خجلها أو سعادتها به..
وصل لموضِع صدِيقيه مُتفاخِرًا منفوش الريش يُخبرهم بفخرٍ أنه وجدَ عروسه، فضحك كلاهما ساخرين منه ليعبس قائلًا: "واللهِ وجدتها وأعطتني رقم والِدها حتى أنظر.." ثم أخرج هاتفه واتصل بالرقم المكتوب في الورقةِ الوردية وهو يفتحُ لهما مُكبر الصوت بعدما ابتعدوا قليلًا عن صخب الطبول فأجاب صوتٌ لا تُحدد له ملامِح أهو رجلٌ أو امرأة تقول بصوتٍ تحاول تنعيمه قدر الإمكان: "مرحبًا" فتنحنح ياسيف قائلًا وقد عاد له بعضًا من توتره: "السلام عليكم هل يُمكنُني مُحادثةُ والِدك"
"والِدي؟" قال باستنكارٍ ثم ضحكت ضحكة ركيكة قائلًا بسخرية: "لماذا تُريدُ والدي هل ستطلبُ يدي"
فعبس ياسيف لينظر لصديقيه اللذان يكتُمان قهقهتهما بشق الأنفس ليقول بنبرةٍ غاضبة: "كفي عن العبث هذا رقم رجُلٍ مُحترم، مَن أنتِ؟"
"أنا سامِح شقة 9 عمارة 73" قالها بنبرةٍ خليعة تقطرُ منها نعومةٌ ماسخة جعلت بشرة ياسيف تقشعرُّ تقززًا وهو يغلِقُ الخط في وجهه ليسقط أيهم ووِضاء أرضًا مُجددًا وهما يضحكنَّ بقوةٍ حتى سالت دموعهنَّ ليلعن ياسيف مجددًا وهو يُغادرهم ساخطًا عازمًا على أن يجد تلك الحقيرة ويُلقنها درسًا لن تنساه أبدًا لوضعه في هذا الموقف السخيف أمام وِضاء وأيهم، رن هاتفه مجددًا بنفس النمرةِ الغريبة فأجاب عليها بسخطٍ ليجده نفسُ ذاك الـ.. الـ ربـاه كيف يُسمي هذا الكائن باللهِ عليكم!
أغلق الهاتف مجددًا بسرعةٍ نافرًا ثم وضع الرقم على القائمةِ السوداء ليرفع عينيه نحو منزل وِضاء الضخم ليجدها هناك بفستانها الوردي ترحل صاعدةً لسيارةِ أجرى كان سريعًا لدرجة أنه ألتقط أرقام السيارةِ ويركض نحو وِضاء قائلًا: "أُريدُ صاحِب هذه السيارةِ الآن"
ابتسم وِضاء بتلاعبٍ قائلًا: "لماذا هل أعجبك؟"
"اللعنة وضاء لا تُثر جنوني أنا أريده الآن لأمرٍ عاجل"
وبعد مُكالمتان قصيرتان لمعارِف وِضاء استطاع الحصول على اسم الرجل ورقم هاتفه فهاتفه ياسيف وهو يتجه نحو الباب قائلًا: "هل أنتَ مُتاحٌ سيدي أُريدُكَ حالًا" والرجل وصل إليه بعد فترةٍ قصيرة ليَأمره ياسيف أن يوصله لنفس المكان الذي أوصل إليه الفتاة ذات الرِداء الوردي فسأله السائِقُ إن كانت قريبته ليخبره أنها خطيبته وبطاريةُ هاتفها نفذت لذلك هو يُريدُ الاطمِئنان أنها بخيرٍ فأوصله السائق لمنزلٍ يبعدُ كثيرًا عن منزل وِضاء ومن الواضِح أن به عرسٌ أيضًا، هل تاهت بين العرسين..
لا يظن فالمنطقتين مُختلفتين تمامًا إذا ما الذي تفعله هنا؟
انتظر طويلًا وطال انتظاره حتى وجدها تودِّعُ شخصًا ما يقفُ لها في شرفةِ الطابق الثالث وترحل خارِجًا، استغل خروجها ولحق بها حتى صعدت لسيارةِ أجرى فصعد لأخرى وأمرها أن تَلحق بها، ولحق بها ليجدها تنزلُ قرب منزلٍ مُتواضِع وهي ترنُّ الجرس بصخبٍ لتفتح لها والِدتها وتدلف خلفها، ابتسم بخبثٍ قائلًا: "اصبحتِ في قبضتي أيتها المُدللة؛ لقد التصقتُ بكِ كالغراء فتحملي لأنكِ الجانية"
انتظر دقيقتين ثم ضرب جرس بابِهما برزانةٍ لتخرج والدتها البشوشة قائلة: "مَن على الباب؟"
ليبتسم لها باحترامٍ قائلًا: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرحبًا خالتي"
فأجابت السيدةُ بخفوتٍ مُرحبة: "أهلًا بكَ يا ولدي تفضل"
شكرها بأدبٍ ثم همس بلباقةٍ تُثيرُ الإعجاب: "كنتُ أودُّ لو أحتسي بعض الشاي غدًا مع والِد الآنسة التي دلفت منذُ قليل من فضلك"
فقالت باستنكارٍ: "لؤلؤة؟"
ويا لجمال أسمها الذي يليقُ بها كأنها موشومةٌ به، هكذا فكّر ياسيف وسعادته تزداد ليقول بابتسامةٍ عريضة: "نعم من فضلك أتشرّفُ بهذا"
لتُتَمتم السيدةُ بخفوتٍ مُتعجب: "هل سحرت له!"
"ماذا تقولين؟ لم أسمعكِ سيدتي" قال ياسيف باستفسارٍ لتُجيب هي بسرعةٍ مُرحبة: "أبدًا يا ولدي تفضل غدًا ومُرحبٌ بكَ إن شاء الله"
ونعم لقد فعلها وطلب إحداهما الليلةَ وفاز بالتحدي، اسرع نحو وِضاء وأيهم ليَزفَّ لم الخبر فسقطت أفواههم من شدة الصدمة والتهور الذي قام به هذا الـياسيف ليهتف كلاهما باستنكارٍ في نفسٍ واحد: "هل أنتَ مجنون؟!"
ثم تابع أيهم بحزمٍ وتعقُّل: "هذا الأمرُ لا مُزاح فيه ياسيف، الفتاةُ أعطتكَ رقم شخصٍ لوطيًا ويبدو أنه بسمعةٍ قذرة، ألم تتساءل أبدًا مِن أين حصلت على رقم هاتفه إن كانت فتاةً صالِحة؟"
صمت ياسيف وهذا الخاطِر لم يُراوِده والسبب أن هذا أن الأمرَ كان مُنتشرًا وشائعًا جدًا لدرجةٍ ألفها قلبه في تلكَ الدولة الأجنبية التي يقطنُ بها ويعملُ فيها دكتورًا جامعيًا في أشهر جامعاتها..
ترى هل تسرّع؟
ربما قليلًا لكنه أعطى كلمته للسيدة وستكون نزلًا لو تخلّف عن زيارته لكن بالطبع يمكنه جعل تلكَ الفتاةَ تطرده كسابقاتها نعم سيفعل، يستطيعُ فعلها، حزم أمره وعزم على انهاء الأمر بنفسه لذلك قطّب جبينه بجديّةٍ قائلًا: "بصراحة لم أفكِّر في الأمر لكن لا تقلقا سأهتمُّ بالأمر"
نظرا وِضاء وأيهم لبعضهما بتوجس فهما لا يثقا في ياسيف من هذه الجهة بتاتًا، ياسيف لا يَصلُح سوى للدراسةِ والامتياز وشرح المُعادلات الكيميائية فقط لا أكثر، لذلك قال وِضاء ساخِرًا وهو يقصدُ إثارةَ غيظه أكثر: "تبحثُ بتأني أليسَ كذلك" فلعن ياسف بقوةٍ بينما انفجر أيهم في الضحك.
❀•❀•❀
"أُميمة اشتقتُ لكِ" ثم اقتربت منها واحتضنتها بنعومةٍ فابتسمت أميمة باتساعٍ قائلة: "مَرحبًا يا عمري كيفَ حالُكِ"
ابتسمت الفتاةُ بقوةٍ قائلة: "بخيرٍ والحمد لله داغِر حبيبي يُرسلُ لكما المُباركات" قهقهت أُميمة وهي تتذكرُ حروبها التي تُعلنها كل يومٍ في مجموعات الروايات على أي قارِئة قد تُعجبُ ببطلها المُميز الذي تعتبرُ نفسها زوجته ولا تسمح لأي فتاةٍ بالتغزل فيه فقالت بخوفٍ مُصطنع: "لن أقول ارسلي له سلامي كي لا تعتقدي أني مُعجبةٌ به"
فقالت لؤلؤة بثقةٍ كبيرة وهي تُشوِّحُ بكفيها: "أعلمُ أنكِ متزوجة وتحبين زوجكِ لذلك لن تقتربي من حبيبي داغِر أنا أعلم"
ضحكت أميمة بصدقٍ من قلبها ثم شاكستها قليلًا ولؤلؤة تدعي عدم الاكتراث حتى تهربت قائلة: "سأتأخرُ يا أميمة أعطيني ما جِئتُ لأجله"
أومأت أميمة باستذكارٍ ثم قالت بترجٍ: "كلفتُكِ بهذه المُهمّة لأنّي أثق بكِ فلا تخزليني يا صغيرة!"
لتُقهقه الوَردِية وهي تضربُ جبهتها بجانب كفها في تحيّةٍ عسكرية مُصطنعةً قائلة: "تمام يا فندم" لتُقهقه أُميمة على حركاتها المجنونة وهي تعبثُ بحقيبتها لتخرج أخيرًا حقيبة ورقية كبيرة وتُعطيها إيها وهي تخفف من وطء ضحكاتها قائلة: "هذا ما اتفقنا عليه" ثم دفعتها برفقٍ قائلة: "هيّا بسرعةٍ"
أومأت لؤلؤة بحماسٍ وهي تأخذ الكيس من يدها وتركض خارِجًا بينما أميمة تقدمت للجهةِ الأخرى تُسلِّمُ على جدتها ووالِديها وأهلها جميعًا المُهنِّيين والمُبارِكين لخالِها وِضاء.
خرجت لؤلؤة واستقلَّت سيارةَ اجرى ثم اندفعت نحو منزل عفراء لتُشارِكها طقوس حنتها.
طرقت على الباب المُزين بالأنوار المُبهجة والتي تكفلت بها أميمة ثم دلفت للبهو الواسع نوعًا ما لتجد عفراء وحيدة جالسة على اسفنجةٍ عالية نوعًا ما تبتسمُ بشرودٍ والسيداتُ الكبيراتُ يجلسن معًا ويتحدثنَّ في أمورٍ كثيرة ومُتداخِلة لتقف بينهنَّ وتصفق لتجذب أنتباه الجميع بالإضافةِ لعفراء التي طالعتها بفضولٍ وفجأة صدحت طبول الدفِّ في المكان فبدأت لؤلؤة في تحريك خصرها مع الإيقاع وهي تصفِّقُ بيديها قائلة: "هيّا يا سيدات أروني كيف يكون حفلُ الحِنّاء كما علمتنا الأصول"
قهقهت النساء ثم استداروا حولها بحماسٍ بعضهم يُصفق والآخر يُغنِّي والباقياتُ دلفنَّ للدائرةِ ليُشارِكنَّ لؤلؤةَ الرقص بسعادةٍ مُهلِّلاتٍ فضحكت عفراء والدموع تتجمّعُ في عينيها لتشعرَ فجأة بمَن يجذبها لتقف بينهما فيحثّها الجميعُ على الرقص مثلهما و.. فعلت!
في الحقيقة لقد اشتاقت للسعادة، اشتاقت للرقص.. للهرج والمرج.. للجنون وربما اشتاقت لفقدان الجزء السيء من ذاكرتها وابقاء الجيد منها فقط حتى ولو لليلةٍ واحِدة ويبدو أنها اختارت أن تكون هذه الليلة، ولما لا علّها تكون حقًا البداية التي تمنتها طوال حياتها.
مرّت ساعاتٍ حتى سقطت النسوة مُتعباتٍ من الرقص والضحك والتصفيق فاستأذن بعضهما للرحيل حيثُ تأخر الوقتُ كثيرًا والبعضُ الآخر قررنَّ تجهيز عشاء العروس ليوم غد والتنظيف بعد هذا اليوم الحافل بينما لؤلؤة أخذت بيد العروس وأدخلتها غرفتها وأخرجت من الحقيبة الورقية طقمًا حريريًا مُخصصًا لهذا الدلال الذي سيبدأ ثم أخرجت من حقيبتها الكثير من قناعات الوجه وأدوات العناية بالبشرةِ والجسد والقدمين ثم بدأت في تدليل العروس بشكلٍ إجباري لا يقبل النقاش، والعروس تبدل حالها لمئةٍ وثمانون درجة وبدلا من الابتسامة الحزينة والوجه المُرهق والجفون المنتفخة من أثر الدموع أصبحت ابتسامتها مُتلألئة وبشرتها مُشرقة والسعادة تُرفرِفُ بقلبها وعيناها مُشتعلةٍ ببريقٍ أخّاذ افتقدته طويلًا، السعادة باتت تغمرُ عقلها وقلبها فهل ستدوم..
مرّت الساعات واستمتعت الفتاتان فاستقامت لؤلؤة وقد سرقها الوقت لتركض نحو باب الشقة وتُقبِّلُ وجنتي عفراء قائلة: "نومًا هنيًّا يا عروس أراكِ غدًا صباحًا بإذن الله لنُكمل تَدليلَكِ يا حلوة"
قهقهت عفراء بصدقٍ من قلبها وهي تُودِّعها قائلة بامتنانٍ شديد: "شكرًا لكِ يا طيبةَ القَلب" ابتسمت لؤلؤة بخجلٍ ثم عادت لتُعانقها بشدّةٍ قائلة: "سعدتُ بصحبتكِ يا عروس أنتِ حقًا جميلة قلبًا وقالبًا كما قالت أُميمة"
كان وداعًا حارًا انتهى برحيل تلك الوَردية الجميلة لؤلؤة وخلود عفراء للنوم سعيدة وقد اختارت أخيرًا أن تترك كل شيءٍ لله و.. تستمتع.
وصلت لؤلؤة لمنزلها بزوبعتها المُعتادة وهي تصرُخ في والِدتها قائلة: "لن تصدقي مدى جمال العروس يا أمي لقد كانت حقًا آية من الرحمن بحق، أو ذاك المَعتوه شبيه داغِر، يعتقد أني سأقعُ في غرامِه فور رؤيته" ثم أصدرت صوتًا تهكميًا وهي تُتابِعُ قائلة: "ليست ألاء المنصور مَن تقع في الحب هكذا بهذه السرعة وكأنَّ قلبها مَساكِن شعبية، لا يا حبيبتي أنا لم أحبَّ سوى داغر وآدم ومَروان وطائف وياسين وفَجر وكيرال وجواد وأوس وفهد وعهد وليث وزياد ورعد وزين ومازن وقيس وعادل وفرّاس و..."
ولم تسمع والِدتها باقي الحديث وهي تدلف لغرفتها قائلة: "اللهمَّ طوِّلك يا روح منك لله يا بنت بطني ستصيبينني بجلطةٍ قاتِلة"
وفي تلك الأثناء ضُرِبَ جرسُ الباب فصاحت لؤلؤة قائلة: "أنا في المِرحاض يا أمّي ولا استطيعُ فتح الباب"
زفرت الأمُّ بقوةٍ وهي تترك ما في يدها وتذهب لتفتح الباب لتجد أمامها شابٌ طويل بجسدٍ نحيلٍ جدًا يرتدي بذة رسمية ويَمتلِكُ بشرةً مُذهبة وشعرٍ ذهبي طويل نوعًا ما يصلُ لنهاية فكِّه ويرتدي عويناتٍ طبية كبيرة ودائرية بإطارٍ مُذهب فقالت في نفسها: "مِن أين أُلقيت علينا قطعةُ الحلوياتِ هذه؟!"
بينما قال الشابُ بأدبٍ مُبتسمًا: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا خالتي"
فأجابت السيدةُ مُرحبة بهذا الوسيم الطارِق لبابها: "أهلًا بكَ يا ولدي تفضل" شكرها بأدبٍ ثم همس بلباقةٍ تُثيرُ الإعجاب: "كنتُ أودُّ أن أحتسي الشاي غدًا مع والِد الآنسة التي دلفت منذُ قليل من فضلك"
فقالت الأمُّ باستنكارٍ زاهِل: "لؤلؤة؟"
ويا لجمال أسمها الذي يليقُ بها كأنها موشومةٌ به، هكذا فكّر ياسيف وسعادته تزداد فيقول بابتسامةٍ عريضة: "نعم من فضلك أتشرّفُ بهذا"
لتُتَمتم السيدةُ بخفوتٍ مُتعجب: "هل سحرت له!"
"ماذا تقولين؟ لم أسمعكِ سيدتي" قال ياسيف باستفسارٍ لتُجيب هي بسرعةٍ مُرحبة: "أبدًا يا ولدي تفضل غدًا ومُرحبٌ بكَ إن شاء الله"
وتم التدبيس بنجاحٍ وستنزاحُ لؤلؤة أخيرًا وتخلص منها السيدة وَفاء على خيرٍ بإذن الله.
❀•❀•❀
دق جرس الباب فتوجهت تاج لفتحه وهي تمسحُ كفيها في مئزرة المطبخ لتجد خيّال يقفُ على الباب بابتسامةٍ عابثة ويستندُ بظهره على الحائط المُجاوِر للباب وعقدت زراعيها أسفل صدرها وهتفت بحنقٍ وقد اصبحت عيناها حادة ونظراتها قاتلة: "ما الذي تفعله هنا!"
فتقدم منها وقال بابتسامةٍ ساخرة: "جِئتُ لأرى زوجي المَصون"
ابتسمت هي الأخرى ابتسامةٍ ساخِرة مُوازية لنبرته التي قال بها جملته وهي تهتفُ بتهكمٍ: "ألم تكتفي من الفَضيحةِ السابقة؟
أخبرني فما زال لدينا الكثير.."
ثم رفعت رأسها وقالت بنبرةٍ مُترفعة: "أفهم يا أستاذ خيّال أنا لستُ راضيةً عن هذا الزيجة ولا أقبلُ بها فارحل عن هنا بكرامتك ولا تعد مُجددًا" واللهيبُ في عينيه ازداد قتامةً وهو يُطقطق فقرات رقبته قائلًا بجحيمٍ أسود: "ثَقُل الحسابُ كثيرًا يا ابنةَ سراج لكن صبرًا فأنتِ صرتي لي وسأتلذذُ بالانتقام صدقيني، لكن الآن لا تُفكِّري سوى في شهر العسل وكيف تجعليني راضيًا فيه لأني لن أقبل بأقل مِن هذا، لكن سأسمحُ لكِ باختيار المكان أين تُريدين الذهاب؟"
قال آخر جملته بانتصارٍ شديد وتلذذ غريب لثور تاج غاضِبة وهي تهتفُ من بين أسنانها: "هل أنتَ مجنون!"
ثم تابعت بقسوةٍ: "أنا غيرُ مُوافِقة، لن أتزوجك وأظن أن كلماتِ واضحة لأني لن أعيدها وسأُنادي الأمن حالًا"
فأجاب خيّال بتهكمٍ أسود وهو يستمتع بغضبها قائلًا: "ستُنادين الأمن لزوجِكِ؟"
طالعته باستنكارٍ قائلة: "أيُّ زوجٍ يا هذا أنا لم أرتدي خاتمك ولم أحضر حفل خِطبتكَ ولن أفعل أبدًا كما لن يكون هناك عِرسٌ مُطلقًا"
خرجت منه قهقهةً مُصطنعة ساخرة قصيرة وكأنه يبصقها ثم قال ببرودٍ وعدم اكتراث: "لم أهتم بحضورك لتلك الخِطبة التافهة كمان كان أيضًا حضوركِ لعقد القرآن أمرًا لا يُهم لكن المُهِمُّ أنني سأحرِصُ على أن تكوني موجودةً في الزفاف يا عَروسي" وضغط على كلمته الأخيرة بخبثٍ ثم لاحق كلماته بإخراج ورقةٍ ما وألقاها في وجهها قائلًا: "ورقة عقد القران الرسمية بين يديكِ الآن إقراءيها على مهلٍ وتفحصي توقيعَكِ جيدًا وبصمتكِ أيضًا ثم أخبريني ما رأيُكِ بهما يا جميلتي"
رماها بنظرةٍ أخيرة مُحتقِرة ثم استدار واتجه نحو المِصعد ليرتاده وقبل أن ينخفض به راحلًا قال باستخفافٍ غامزًا: "ولا تنسي تمزيق الوَرقةِ كما تُريدين لأننا طبعنا ست نسخٍ غيرها"
أمّا عنها فقد تجمد الدمُّ في عينيها وهي تنظرُ للورقةِ بين يديها بنظراتٍ فارغة ميتة فجاءت رودين من خلفها وهي تحتضنُ بطنها كالمُعتاد سائلةً باهتمامٍ: "ما بكِ تاج سمعتُ صراخكِ منذُ قليل؟"
لم تجب تاج فهزتها رودين برفقٍ وهي تقول بقلقٍ وتوجس: "تاج حبيبتي لما لونكِ مخطوفٌ هكذا ماذا حدث؟!"
فاستدارت تاج إليها بعدما أغلقت الباب بخفوتٍ وهي نقول بنظراتٍ فارغة وبشرةٍ شديدةَ الشحوب: "سراج فعلها وزوّجني بكل دناءةٍ لخيّال".
❀•❀•❀

فصل طويل خالص أهو بسبب الغياب إلي بالمُناسبة اتكلما عنه في جروب الفيس 🙊
فإلي مش هناك هيلاقي اللينك في الواصف أو أبحثي عنه أسمه "روايات الكاتبة منى علاء شاهين الجيش الأزرق 🌍💙"

ممكن نوصل الفصل ل10 كومنتات لأني تعبت في الرواية جدًا وعلشان تشجعوني؟
🥺
👈👉

منى علاء شاهين
الجيش الأزرق Blue army 🌍💙

استوصوا بالحبيب غزلًا "للكاتبة منى علاء شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن