4- كوني لي زوجةً

726 32 95
                                    

الفصل الرابع
كوني لي زوجةً

"أيهـــــــــــم أوما أخـــــــــي"
انتفض أيهم على صوت أخاه الذي صفق الباب خلفه بقوةٍ ودلف لمكتبه بحماس يصيحُ بزوبعةٍ لا مثيل لها، فهتف أيهم بفزع: "سلامٌ قولًا من ربٍ رحيم، أنتَ يا بني آدم هل هناك شخصٌ عاقل يدخلُ مكتب أحدٍ بهذا الشكل!"
لم يعبأ أدهم بحديثه بعدما كان قد وصل إليه ووقف أمام مكتبه صائحًا بحماسٍ شديد وفرحةٍ غامرة: "وافقت يا أيهم تاج وافقت" لانت ملامح أيهم وابتسم بحنوٍ متمتمًا: "الحمد لله" ثم أكمل بفرحةٍ حقيقية صادقة مُمتزجه بهدوئه ورزانته المُعتادة: "مُباركٌ لكَ يا برنس الليالي"
صمت أدهم يحكُّ مُؤخرة رأسه وهو يهتِفُ بخجلٍ من شخصِه الذي كان عليه: "دعكَ من هذا اللقب يا أيهم لقد ولَّت تلك الليالي وأنا تائبٌ الآن"
أومأ أيهم بفخرٍ قائلًا: "سعيدٌ أنكَ صدقتَ في توبتك أخي"
ثم قال ببعض المرح: "وبما أن العروسة وافقت سأخبِرُ أمّي وريتاج ليُجهزا أنفسهنَّ فنذهب معك لطلب يدها السنيورةِ رسميًا يوم الجمعةِ إن شاء الله"
اختفت ابتسامةُ أدهم الذي تقدم منه بتوترٍ وجلس على سطح المكتبِ أمامه قائلًا بحزنٍ وأسف: "للأسف علينا الانتظارُ قليلًا"
أومأ أيهم وهمس بتفهم: "مُؤكدٌ أن والِدها يُريدُها أن تُنهي تعليمها أولًا، لا مشكلة يُمكنُنا إقناعه بأن تكون خِطبةً فقط أي مُجرد وعدًا رسميًا بالزواج"
فنفى أدهم قائلًا: "ليس هذا هو السبب"
ليقول أيهم ببعض الريبة: "إذًا هل لديهم ظروفٌ مانِعة أو هل يراها والدها صغيرةً على الزواج؟"
هز أدهم رأسه نافيًا للمرةٍ الثانية وهو يقول بأسى: "يا ليت هذا هو السبب، فوالدها يُريدُ تزويجها اليوم قبل الغدِ لكن.. هناك مانِعٌ آخر مُعقدًا بعض الشيء" وبالنبرةِ المُترددة المُتوترة التي قال أدهم بها جملته الأخيرة فهم أيهم أن في الأمر إنَّ والقادِمُ لن يُعجبه أبدًا، لذلك احتدت عيناه وهو يعقدُ زراعيه أمام صدره يُطالِعُ أخاه بترقبٍ قائلًا بغضبٍ مكتوم: "أسمعُكَ يا وجه المصائب.."
فقفز أدهم عن المكتب ثم استدار خلف المكتب مُبتعدًا عن أيهم قدر المُستطاع وهو يقولُ بترجٍ مُستعطفًا إياه: "سأُخبِرُكَ لكن بالله عليكَ يا رجل نحنُ في شركةٍ مُحترمة فلا داعي للفضائح"
اقترب أيهم من المكتب بكرسيه ثم وضع مرفقيه على سطح المكتب ليُشبِّك كفيّه أمامه رافعًا له أحدُ حاجبيه ينتظره ليُدلي بالسبب فهمس أدهم بتوترٍ أشد وقلقٍ بالغ وهو يُحاول التحامي في أي شيءٍ أمامه ليتقي غضب أيهم: "لأنها مخطوبة"
وقبل إن يستوعب أيهم ما هتف به أدهم صاح الأخيرُ قائلًا بترجٍ: "وحياة كتاب اللهِ سأُوضِّحُ لكَ، الأمرُ ليسَ كما تعتقد.." ليُقاطعه أيهم بعصبيّةٍ شديدة وقد أحمرّت أُذناه من الغضب: "لا تحلف بغير الله"
أومأ أدهم بسرعة ثم اقترب منه بترددٍ وجلس على الكرسي المُقابل لمكتب أيهم قائلًا: "حاضر والله.. واللهِ فقط" ثم قصَّ عليه بعدها كل شيء منذُ لقاءه برودين وحتى اتفاقه معها فهتف أيهم مُستنكرًا: "لكنّكَ تعلمُ جيدًا أن هذا خطأ، والِدها حُرٌ في اختيار مَن يُزوِّجها له، لا أنكر أن طريقته خاطِئة وليس مِن حقِّه إجبارها وتزويجها ضدَّ رغبتها لكن هذا لا يمنحكم الحق في ما تفعلوه، هذا غير ذاك الخاطِب الذي لا ذنب له ليُنتهك حقه هكذا دون الرجوع إليه"
تنهد أدهم وهمس مُبررًا: "لأجلي يا أيهم أرجوك، أنتَ لا تُدرِكُ الجحيم الذي سيُقبِلن عليه إن تمَّت الزيجة، مما فهمته منهنّ أن ذاك المدعو خيّال زيرُ نساء ويَشُكُّون أنه يُتاجِرُ في الممنوعات أيضًا مع والدها، أترتضيها لأختك أو ابنتك؟!"
صمت أيهم مُقطبًا جبينه فاسترسل أدهم قائلًا: "ذاك الخيّال لا يُحبُّها، الزواج لديه مُجرّت صفقةِ لا أكثر، تاج سيكسرُ قلبها لو تزوجت به وهي أرقُّ مِن أن تتحمل هذا" ثم تابع داخله محدثًا نفسه: "استغفرُ الله، أنتَ تهزي يا أدهم تاج والرقّة لا يجتمعان أبدًا في جملةٍ واحدة" لكنه أسرَّ تلكَ الخاطرة في نفسه ولم يبدها لأيهم لأنه الآن يُريدُ استمالته أخاه بأي ثمن.
وبالرغم مِن حُجّته وما حاول أقناع أيهم به إلّا أن الأخير اعترض بشكلٍ قاطِع هاتفًا: "لا يجوز يا أدهم أفهم أرجوك ما تريده هو خطأٌ لا يُبرر، الخطأ يبقى خطأ مهما تنوعت الحُجج!
رسول الله صلَّ الله عليه وسلم أمركَ أن لا تخطب على خطبةِ أخيك وأنا لن أدعمكَ في هذا أبدًا"
شعر أدهم بلهيبٍ في صدره وأخاه يُقِرُّ أنها باتت معهودةً لغيره ولا حق له فيها فاعترض بغضبٍ قائلًا: "لكنّي أُحبُّها"
ليُجيب أيهم ببرود: "وهو سبقكَ إليها"
فصرخ أدهم بغضبٍ عارِم وهو يمسحُ على وجهه بحنقٍ شديد ثم ما لبس أن عاد بنظره لأيهم وهو يهتفُ بحدّةٍ وكأنه يُدافِع عن عِرضه: "أنا أحببتُها أولًا وهما سيدتان وحيدتان ولا أظنُّ أن مِن الشهامةِ تركهما وحدهما في الطريق ليُقابِلا ذاك الظُلم دون وجودِ شخصٍ يحميهما أو يُدافِع عنهما" بعدها أخذَّ نفسًا عميقًا ثم زفره بخفوتٍ لعله يُهدِّئ مِن روعه قليلًا وقد نجح عندما هتف بإصرارٍ لا جِدال فيه: "حسنًا دعكَ مِن تاج لكن ساعد رودين"
فضيّق أيهم عيناه سائلًا باستفسار: "وكيف أُساعِدُها!"
ليوضح أدهم قائلًا: "قضية خُلع"
❀•❀•❀
"ماذا الآن؟
أنتِ تعلمين جيدًا أن خيّال لن يتركني بسهولة بسبب المصالِح القائمة على هذه الزيجة فماذا نفعل؟!
وبالطبع لا يكفي اتصالُكِ بأدهم بل أظنّه لن يُفيد في هذا الموضوع خاصةً فماذا ستفعلين؟"
هتفت تاج باستفهام فأجابت رودين قائلة بلا مبالاة وهي تقضم قطعةً من تفاحتها الحمراءُ الطازجة: "ما سأفعله ليسَ بالشيءِ المُهم، انتظري وشاهدي بنفسك"
اتسعت ابتسامةُ تاج قائلة: "وهذا هو المطلوب أثباته"
❀•❀•❀
أنهى اللمسات الأخيرة أمام مرآته ثم وضع عطرة الأخّاذ وسحب سلسلة مفاتيحه ومحفظته من فوق المنضدة وبعدها خرج من غرفته واتَّجه نحو الدرج ليهبط لبهو قصره المهيب، توقّف أمام غرفة اختيه أو ابنتيه -أيهما أقرب- الراحلتين وأغلق جفونه بشدّةٍ مُتألمًا وهي يستندُ على باب غرفتيهما برأسه بإرهاقٍ شديد فهذا الجرحُ لن يندمل أبدًا!
دقائق من السكون حتى همس بخريرٍ بطيء: "اوشكتُ على تحقيق انتقامي لكما يا صغيرتي، أقسِمُ أنّي لن أترك حقكُما أبدًا وسأُمزِّق قاتلكما بأسناني ولن أتركه ليهنأ لحظةً واحدة" ثم فتح عينيه بشراسةٍ وعيناه تحمرُّ غضبًا مُزمجرًا: "وخطوتي الأولى ستكون.. إتمامُ صفقة سراج شمسُ الدين"
بعد قليلٍ كان يطرقُ الباب الداخلي لفيلا سراج بعد أن سمح حارسُ الأمنِ له بالدخول مُرحبًا به لأنه خطيبُ الآنسة تاج..
فتحت تاج له الباب بوجهٍ مُلون بابتسامةٍ مُصطنعة صفراء مُتوعدة فدلف خيّال بوجهه الصلبُ الخشن وهو يقولُ بنبرةٍ يشوبها الكثيرُ مِن السخرية: "بالتأكيد أخبركِ والِدُكِ سراج بمجيئي للجلوس معكِ قليلًا لأتعرف على عروسي التي لم تحضر خطبتها أو ترتدي خاتمها حتى الآن" قالها وهو يرمق كفيها بنظراتٍ مُعينة فوضعت كفيّها في جيبا جلبابها الفضفاضُ الواسِع وهي تُجيبه بلا مُبالاةٍ قائلة: "لا أحب ارتداءه فهو يُسببُ لي حساسية" رمق خيّال ملابسها الغريبة بريبةٍ فقد كانت ترتدي جلبابًا قطنيًا مُريحًا باللون الأسود يُزيّنه خطّان رياضيّان ينسابان طوليًا على جانبي الجلباب بالون الأبيض، بالإضافةٍ لحذاءٍ رياضي أبيض وحجابٍ يُغطِّي رأسها ورقبتها بنفس لون الحذاء فعلم أنها بذّتُها الرياضية، وبذّتُها كانت واسعة لا تصف ولا تشف جسدها، لوى ثغره بسخريةٍ فمن بين كل النساء الفاتناتِ اللاتي يرتمين أسفل قدميه ستكون تلك.. زوجته!
لاحظت تاج نظراته الساخطة على ملابسها فهتفت بخبث مستتر خلف نبرتها المُتعجرفة: "هذا رأيّ أنا أيضًا معك حق علينا الاقترابُ من بعضنا البعض والتعرف على اهتمامات كلًا منّا الآخر ومشاركته إياها" طالعها بشكٍّ فهو لا يرتاحُ لها مُطلقًا لكنها تابعت قائلة: "تعالى معي لأُريكَ غرفة المُلاكمة خاصتي فأنا لن أتنازل عن واحدة تُماثِلُها في بيتي المُستقبلي"
ليهتف خيّال مُستنكرًا: "غرفةُ مُلاكمة!"
أومأت تاج قائلة بفخرٍ واعتزاز: "نعم وكلُّها جوائز قيمة وشهادات تقديرٍ من مسابقاتٍ مُختلفة في بُلدانٍ عديدة، ولن أنسى المدلياتِ ذهبية التي نلتُها بعدد المرّات التي تحطّم فيها وجهي داخل حلبة المُلاكمةِ و.."
فغر خيّال ثغره لدقائق ثم قاطعها قائلًا: "تحطّم وجهُكِ!"
فأومأت قائلة بجديةٍ شديدة: "بل قُل تمزّقت بشرته وتحطمت عِظامه وتورَّمت خلاياه ليتضاعف حجمها لمرتين أو ثلاثة فبات وجهي في كل مرّة كالبالونِ البنفسجي لا ملامح له"
وبالطبع كانت كاذبة تُريدُ تَهويلَ الأمرِ وهو صدّقها..
فبدى واجمًا لا يزالُ يُطالِعُها بصدمةٍ وهو يهمس لنفسه مُتهكمًا: "وأنتَ الذي ظننت أنكَ لن تتزوج سوى بصاروخٍ فتّاكٍ يا خيّال! أو على الأقل بذاتِ جمالٍ صارخ.. لكنكَ لم تسقط سوى مع مُصارِعٍة قد حُطِّمَ وجهها أكثر مِن الغفر الموجودين أمام بوابةِ قصرك يا لفقرك يا ابن جاويش!"
نظرت تاج إليه بخبثٍ قائلة: "فمك والذُبابُ يا أنتَ" بعدها أعطته ظهرها قائلة ببرودٍ: "هيّا لنعود قبل أن يُصيبُكَ البردُ في هذا الطقس الحار" طالعها باشمئزازٍ مُستنكرًا كلماتها التي لا تتماشى مع بعضها البعضُ فصمت وهو يهمسُ لنفسه: "مرِّرها خيّال فالشرعُ أحلّ لكَ الثانية والثالثة والرابعة، انهي هذه الصفقةَ الحقيرةَ أولًا ثم ربِّيها بعدها كيفما تشاء"
أما تاج فكانت تهمسُ داخلها بوجل وهي تتقدمه نحو غرفة الجلوس: "يا رب تفلح خطتُكِ يا رودين"
❀•❀•❀
"مالي أنا ومالُ قضيةِ الخلع هذه التي سترفعها المدامُ رودين!"
"اسمعني يا أيهم أُريدُ مُحامٍ ماهر ليُساعِدها في رفع القضية والفوز بها في أقربِ فرصةٍ قبل أن يعود زوجها ويُجبِرُها على البقاء معه مُرغمة، وعدٌ منّي أنها لن تهرب بالطفل أو تحرم والِده مِن لقاءه، هي فقط تُريدُ الخلاص منه والانتقام مما فعله بها"
فقال أيهم دون اقتناعٍ: "وما الذي فعله بها ويستدعي الخُلع دون أن تسمع منه حتّى!
أدهم لا تتدخل في شيءٍ لا يعنيك، أنتَ لا تملِكُ حق التدخل في خلافٍ بين زوجين ستندمُ عليه لاحقًا، كفاكَ تهورًا واتركهم يحلّون مشاكلهم الزوجية فيما بينهم كي لا تُلام لاحقًا، أرجوكَ لا تكن عونًا للشيطان في التفريق بينهم"
"يا أيهم أفهمني هي مَن طلبت المُساعدة بشكلٍ مُباشِر هذا أولًا وثانيًا ما فعله بها ذاكَ الحقيرُ لا أعلمُ منه شيئًا سوى أنه تركها وهي حاملٌ في شهورِها الأخيرة وذهب في شهر عسله مع زوجته الجديدة بدلًا مِن أن يكون جوارها في هذه الأيّامُ المُرهقة، أنتَ تعلمُ جيدًا كم تحتاجُ الزوجة زوجها في هذه الأيّام خاصة، لقد جربت هذا مُسبقًا مع زوجتكَ فلا تُنكر"
صمت أيهم لبرهةٍ ولُجم لسانه، لم يجد ما يرد به على كلمات أخيه أدهم، يعلمُ أنه صادِقٌ لدرجةٍ كبيرة لكن أيصح ما يفعل..
بعد فترة من الصمت الطويل قال أيهم بصوتٍ خافت وبطيء: "أنا مُوافِق، سأُساعِدُها وأُوكِّلُ لها مُحامٍ ليُساعدها رغم أنّي ما زلتُ مُتحفظًا على ما تفعلوه رغم أنّي مُتعاطفٌ معهنَّ" صمت قليلًا ثم تابع بأسف: "صدقًا أودُّ مُساعدتكم لكن بالطريقة الصحيحة والتي لا أعلمُ ما هي فالموضوع بات مُعقدًا جدًا"
❀•❀•❀
"يا إلهي ما هذا!"
بصق خيّال قهوته بقرفٍ ووجههٍ مُحمرٌ بشدة ثم أخذ يلهث بعدما احمرت أذنه قائلًا: "اللعنةُ عليكِ ماء، أحضري ماءً أو حليبًا يا غبية"
فهمست تاج تدعي البراءةَ قائلة ببرودٍ وهدوء: "لماذا ما بكَ؟!"
ليُجيبها خيّال بغضبٍ عارم وهو يسعلُ بشدة: "ماء يا سميكةُ الرأس سأختنق"
"سميكةُ رأسٍ في عينك" قالتها بتحدٍ وشراسةٍ فسعل خيّال أكثر وهو يصيحُ فيها قائلًا: "يا إلهي أحضري الماء أيتها الثرثارة المُقرفة"
زاد عبوس تاج وهي ترمقه بتحدٍ أكبر تأمره أن يتراجع قبل أن يهلك فتنازل خيّال قائلًا بعدما لمس انعدام نيّتها في احضار له ما يُنقذه قبل رضوخه لها: "حسنًا أعتذر، من فضلكِ ناوليني كوبًا من الماء الآن"
ابتسمت بتشفٍ ورضا ثم استقامت وأحضرت له كوب حليبٍ قائلة: "هذه أفضل"
تناوله منها وشربه بسرعةٍ كاملًا ثم خفض رأسه للأمام وهو يشعرُ بصداعٍ يفتِكُ برأسه، لحظاتٍ ورفع رأسه إليها يُطالِعُها بغضبٍ أسود وهو يهمسُ بحدّةٍ من بين انفاسه وكأنه على وشك الانفجار بها: "هل أنتِ مجنونة! تضعين لي فُلفلًا حارق في القهوة؟!"
فقالت ببرودٍ ولا مُبالاة: "خلطتُ بينه وبين السكر لا تؤاخذني"
طالعها بنفس النظرةِ القاتمة وهو يجزُّ على أسنانه قائلًا: "أسمعُ عن أُناسٍ يخلطون بين الملح والسكر لكن السكر والفُلفُل الحار! هذه جديدةٌ عليّ، أم أنكِ مُصابةٌ بعمى الألوان؟!"
استقامت تاج واتجهت نحو بابِ الغرفةِ وكادت تخرج لكنها توقفت قائلة ببرودٍ وابتسامةٍ لعوب: "يا إلهي حقًا!
وأنا التي كنتُ أتساءل لماذا لم أُفرِّق بينكَ وبين القرود" ثم خرجت سريعًا من الغرفةِ بتماسكٍ مصطنع قبل أن ينقضَّ عليها ذاك الخيّالُ وهي تعلمُ جيدًا أنها استنزفت رصيدها لديه كاملًا.
بعد عِدَّة دقائق خرج خيّال من منزلهم وهو في قمة غضبه، لقد اختفت تمامًا بعد أن قصفت جبهته، ودّ لو ظهرت أمامه لمرَّةٍ واحدة بعد ما قالته، ولو فعلت لكن حطّم وجهها بابتسامتها المُستفزّة الكريهة ثم أخرج أحشائها بيده لتجرُّؤها عليه، يعذُرها فهي لم ترى وجهه الحقيقي بعد، حسنًا تاج سأتفننُ في جعلكِ تتجرعين ألوان العذاب قطرةً، قطرة وها أنا أُقسِم.
انتبه خيّال لنظراتِ غريبه يرمقه بها شخصٌ غريب يسيرُ على مقربةٍ منه، وعدما وصل إليه قال ساخرًا: "ما هذا يا كابتن ألديكَ ظروفٌ أم ماذا؟!" وبعدها رحل مُقهقهًا فهمس خيّالُ مُستنكرًا: "ظروف!"
ما الذي يهذي به ذلك المعتوه؟! لكن غضبه عماه أن يستفسر عن سبب كلمات ذاك المجنون فاكتفى بسبِّه ثم صعد لسيّارته وأخرج سيجارةٍ ليُنفِّث بها عن غضبه ثم طار بسيّارته عائدًا لقصره فقد عكّرت تلك الحقيرة صفوه ولم يعد لديه رغبةً لقضاء الليل خارجًا كما يفعلُ كل ليلة، دلف بسيارته لحديقةِ قصرِه الواسعة ثم ترك السيارة جانبًا وهبط منها بشموخٍ يتحلى به دائمًا ليشعُر بنظرات الأمن مُسلطةٌ عليه على غير العادة، دلف لبهو القصر فتوقف الخدمُ الموجودون هناك عن العمل وهم يرمقونه بنظراتٍ مُبهمة ويتهامسون فيهما بينهم.
"مــــاذا" صرخ خيّالُ فيهم بحدّةٍ فتقدم منه أحدُ الخدم برهبةٍ وترددٍ قائلًا: "سيدي.. سروالُ حضرتك به بُقعةٌ غريبة، أظنُّه يحتاجُ للتنظيف" نظر خيال بعد فهمٍ لما بين قدميه فأدرك فداحة منظره، لم يكد يُصدِّق ما يرى حتى صعد للأعلى مُهرولًا يقطعُ كل سلمتين معًا مُتجهًا لغرفته ليتوقف أمام مرآته ينظرُ للبُقعةٍ الحمراء التي تُلطِّخُ سرواله الكلاسيكي الرمادي الفاتح وتمتدُّ من بين قدميه حتى نصف مؤخرته من الخلف!
تلك البُقعة كانت تُشبه.. تُشبه تلك العادة التي تُصيبُ الإناث شهريًا! لهذا سخر الشابُ منه ورمقه الخدم بتلك النظراتِ الـ.. الـ لم يجد ما يُكملُ به جملته فصرخ بغضبٍ جامح والنيرانُ تتطايرُ مِن عينه قائلًا: "تـــــــــــــــاج"
❀•❀•❀
لم تستطع التوقف عن الضحك منذُ نصف ساعة عندما أخبرتها رودين بالمُفاجأة التي أهدته إياها قبل مُغادرته، لتهتف تاج مِن بين قهقهتها العالية: "يا إلهي رودين أنتِ حقًا مجنونة ما الذي فعلته!"
أكملت ضحكاتها حتى سالت دموعها فتابعت وهي تكادُ تختنقُ مِن شدّة الضحك بسخريةٍ وأسى: "أدفعُ نصف عمري لأرى وجهه عندما يكتشف الهدية، حتمًا سيُصابُ بجلطةٍ وهو يرى الناس مِن حوله يظنون أنه.. أنه.. يا إلهي لا أستطيعُ أن أتخيل" انفجرت في الضحك مُجددًا فشاركتها رودين الضحك وهي تقول ببراءةٍ كأنها لم تفعل شيء: "أنا لم أفعل شيء أنه مُجرّد لون طعامٍ وضعتُه له على الكرسي -الذي لاحظت أنه يفضِّلُ الجلوس عليه كل مرّةٍ- فسُكب عن طريق الخطأ قبل أن يجلسَ عليه، هو المُخطِئ لو كان بدّل مكانه لكان الآن في السليم، وبالطبع الحافظة الحمراء المضادّة للماء التي وضعتُها على الكرسيّ كان لها دورًا كبيرًا في حماية مجلسي الأنيق أم أنكِ كنتِ تُريدين منِّي نزعه!"
عادة تاج للضحك بقوةٍ قائلة: "عندما أخبرتني أن لديكِ خطةٌ للانتقام لم أتصور أن يصل بكِ الحالُ لهذه الدرجةِ مِن الشر" لتنفجر رودين معها مجددًا فتشاركا الفتاتان الضحكاتِ حتى همست رودين بخبثٍ وانتعاش: "أدهم أتصل بي وأخبرنه أنه وجد مُحامٍ بارِع سيحرصُ أن تصل لسراج هدية زواجه منّي قبل عودته، ولا شكّ أن أترُكَ له هديّة أُخرى صغيرة هنا في الشقّة أم تعتقدين أني سأُمرِّرُها لهم بسلام!
لا والله في أحلامه سأنتقمُ لكل ليلةٍ نمتُ فيها باكية بسبب أفعاله وإهاناته المُتكررة"
❀•❀•❀
بعدما أخذ حمامًا بارد علّه يهدأ من النار المُستعرة داخله قليلًا توجه للمرآة بملامحه الحادة كالناقوس وأنفاسه الهوجاء العالية ثم همس بفحيح كريه: "حسنًا يا تــاج أوصلتِ رفضكِ لي بطريقةٍ رائعة اليوم لكن.. أتعتقدين أن خلاصكِ مِنّي سيكون بتلك الطريقةِ الساذجة والمقالِبُ التافِهة السخيفة مِثلكِ!
صفقة بالملايين هامةٍ لي كهذه لن أخسرها لأجل حقيرةٍ مثلُكِ فصبرًا يا معتوهتي، سأُنفِّذُ شرط والِدكِ بزواجكِ منّي ثم سأنتقم، سأجعلُكِ تدفعين الثمن غاليًا، غاليًا جدًّا يا تاج"
أنهى حديثه وهو يُغمضُ عينيه بقوة وقطراتُ المياه تُسالُ مِن شِعيّراتِه المُبللة والطويلةُ نسبيًا، تكوّنت في عقله صورة أخرى داعبت خياله المُنهك في الليالي السابقة ولم تتركه أبدًا، عينان عسليتانِ صافيتان تحدُّهما خيوطٌ نحاسية وتتخلَّلُ صفوهما لتضعُ لمستها من النقوش البديعة الساحرة، تحتضنُ جفونها أهدابُ طويلة بُنِّيه مُتناثرة ومُتشابكة بطريقةٍ رقيقة تجعلُكَ تتمنى لو تُقبِّلُها بشدةٍ برقةٍ بحنانٍ كي لا تخدش هشاشتها الواضحة.
فتح عينه بسرعة كمن لدغته حيّة، نظر لنفسه في المرآة فوجد ملامحة ليّنة وكل خليّة في وجهه عدا شفتاه القاسية المُحتدّة تبتسم!
عقد حاجبيه واستدعى جموده وعبوسه التامُ مُجددًا، رفع كفِّه ليضعها فوق قلبه النابضُ بألمٍ فطرق عليه بعنفٍ يزجره قائلًا بغضب: "لمَن تدقُّ أيُّها الغبيُّ الغافِلُ؟!
لفتاةٍ لم ترى منها سوى عينانِ جميلتان والله وحده يعلمُ ماذا كانت تفعلُ في منطقةٍ كهذه بعد مُنتصف الليل!"
لكن اللعينُ الخافِق بين أضلاعِه اعترض صائحًا: "هي بريئةٌ يا خيّال فلا تظلمها، رأيتَ فيها طفلةً صغيرة ضائعة، لمست داخلها براءة روحها فلماذا تُصِرُّ أنها حقيرةٌ مُتلاعِبة!
بُكاءها وارتجافها أكّدا لكَ أنها نقيّةٌ ترتعشُ هلعًا، استنجادها بأخيها ذكّراكَ بمشهدٍ مُشابهٍ لأختيكَ وهنَّ يرتجفنَّ في السيارةِ ويترجيانكَ لإنقاذهما وأنتَ فشلتَ في فعلها"
هزَّ خيّال رأسه نافيًا وقد بدأ يتصببُ عرقًا مِن تلك الذكرى الدامية فضرب بيد كل شيءٍ أمامه على طاولةِ الزينة وأسقطهم أرضًا، سيُنقذُهما، سيُنقذُها، لن يدعىَ شيءً يؤذيها سيجدُها و..
لكنه كان.. كان يتحرشُ بها، في اللِقاء الأول تحرشَ بها وانتهك براءتها! هو السببُ في خوفها وبُكائها وارتجافها، هو مَن قتلهما، قتل أختاه وكاد يقتُلها هي الأخرى، هو الوحشُ الحقيقي.. والحقيقة هنا أصابته في مقتل.
ركض لدرجٍ قريب وأخرج منه عُلبةً صغير وسكب مُحتواها على سطح الطاولة الصغيرة الموجودة قُرب السرير بعدها فرّق البُودر الأبيض الشبيه بالدقيق ببطاقةٍ بنكيةٍ قديمة كانت في الدرج أيضًا، شكَّل تلك البورد على شكل خطٍّ مُستقيمٍ ثم استنشق إياها بإحدى فُتحتيْ أنفه دفعةً واحدة وهو يُتمتمُ بحنونٍ وارتعاشٍ وتقطع: "أنا القاتل، أنا السبب، أنا الوحشُ هنا"
❀•❀•❀
تقدمت من الباب وفتحته برفقٍ لتمد يدها بكيس السكرِ قائلةً بأدب: "تفضلي يا صغيرة" ولم تكد تمرُّ لحظةً واحدة إلّا وفوجِئت بالبابِ يُدفع بقوة ثم شخصٌ عريض يُكمم ثغرها ويقيدُ حركتها بجسده الغليظ وهو يدفعها للداخل ويهمسُ بكلماتٍ تُماثله قذارة: "هلا بالجميلة الفاتنة دعينا نمرحُ قليلًا ولن يعلم أحد، سنتسلى طوال الليل فلم يتسنى لي امتلاككِ مِن قبل بعد ما.."
بُترت كلماته بدفعِها الشرسُ له وهي تصرخُ بشدَّةٍ قائلة: "أبتعد يا حقير، سأقتُلك إن لمستني" اقترب منها مُجددًا وهو يُغلِقُ الباب خلفه ويُحاوِل لمسها قائلًا: "لن يشعُر أحد لا تقلقي ولن تكشفنا الجيرانُ فالجميعُ يعلمُ أنكِ مُطلقة" صفعته بقوةٍ على وجهه وهي تصرخُ بانهيارٍ وتُقفزُ بدبدبةٍ مُتعمدة على الأرضِ قائلة: "أنا أبعدُ إليكَ مِن نجوم السماء يا ديّوث، أرحل عن هنا قبل أن أتصل بالشرطة وأُنادي الجيران" زادت شراسته وثار غاضبًا فهجمُ عليها يُريدُ انتِهاك جسدها قائلًا: "سأُركِ كيف النجوم قريبةً منِّي إذًا، سأمتَلُكُكِ عفراء وستكونين لي وفقط لي وحدي" تملّصت منه بعد أن ضربته بركبتها بشراسةٍ أسفل الحزام فتأوه مُتألمًا وهربت هي مِن بين يديه مُحاولةً الوصول لغرفتها والتحامي بها لكنه أمسك بها في اللحظةِ الأخيرة وأسقطها أرضًا ثم هبط فوقها مُفرِّق قدميها وواضعًا ركبتيه بينهما ليتجنّب أي إصابةٍ أُخرى قد تطوله منها بعدها انحنى نحو وجهها يُحاولُ تقبيلها قائلًا: "كم أُحبُّكِ وأنتِ شرسةً وشهيةً هكذا، لطالما رغبتُ بكِ وأنا أرى غسّان يتفاخرُ بصحبتكِ ويصـ..."
بصقت في وجهه وهي تصرخُ بلهيبٍ حارق: "أخرس يا حقير، كلاكُما مُدنسان عديمي الرجولة"
مسح وجهه بنفاذ صبرٍ ثم طالعها بنظراتٍ ماجنة وهو يهمسُ بشرٍّ وخبث: "سأُريكِ بنفسي كيف هي الرجولة التي كانت معدومةً لديه، سترين بنفسكِ أن المُقارنة بيننا مُستحيلة"
والصرخةُ منها كانت مُدوية حارقة تشهدُ انتهاكها للمرةِ التي نست عددها.
❀•❀•❀
"هذا يعني أنكَ أتيت لأجل ياسيف فقط أليس كذلك؟"
سألت أُميمة مُستفسرة وهي تجلسُ مُتربعة وتحتضنُ كوب الشُوكولاتة الساخنة بين يديها فأجاب وِضاء الجالِس براحةٍ وهو يُمدِّدُ قدميه فوق الطاولةِ الزجاجيةِ التي أمامه: "بلى، أنتِ تعلمين أنّي أقربُ الناس إليه وعليّ التواجد معه في حدثٍ مُهمٍ كهذا"
أومأت قائلة بإدراك: "وأنتَ هربت بالقدوم إليَّ بسبب جدتي عندما وجدت إصرارها على تزويجك أنتَ الآخر!"
"أُميمة الموضوع مُنتهي، لن أتزوج مُجددًا أبدًا وأنتِ تعلمين السبب"
أومأت بتفهُّمٍ قائلة: "وماذا ستفعلُ مع جدتي؟"
زفر بضيقٍ قائلًا: "سأُسايرُها حتى أُسافر مُجددًا ولن أعود بعدها"
زمّت أميمة شفتيها قائلة: "حرامٌ عليكَ يا وِضاء جدتي ستحزنُ منك جدًا وأنتَ تُدركُ أن صحتها تتراجعُ كل يومٍ أكثر عن اليوم الذي يسبقه"
فأجاب بلا مُبالاةٍ مُصطنعة: "لن أُكرِّر الخطأ وأرتبط بحقيرةٍ ثانية، أنا حُرٌ في حياتي ومُرتاحٌ هكذا"
فكّرت أُميمة قليلًا ثم قالت بحماس: "لدي فكرة"
ابتسم بسخرية قائلًا: "هيا ابهريني بأفكارِكِ المَرِّخية التي لا تميتُ للواقِع بصلة، ما هي؟"
رمقته بحدّةٍ ثم قالت بكبرياءٍ مُصطنع: "بِلا أفكاري ما كنتَ أنتَ لتكون هنا"
قهقه بشدّةٍ فقالت تزمُّ شفتيها وتتخصر قائلة: "تُنكِرُ أنني مَن خلصتُكَ مِن زواجِك الكارِثيُّ!"
هدأت ضحكاته وهو يرفعُ كفيه قائلًا باستسلام: "واللهِ يا باشا لا أقدرُ أن أقول غيرَ هذا فأفكاركِ الغريبة قليلًا ما تأتي بنتائج مذهلة"
فابتسمت بفخرٍ قائلة: "إذًا اسمعني جيدًا يا خالي المُدلل، اسمح لجدتي بعرض الفتيات عليكَ وكأنكَ مُوافقٌ فتطمئن هي أنكَ غيرَ مُضربٍ عن الزواج ثم جد في كل مرةٍ حُجّة لترفض بها الفتاة قبل أن تذهب لها في زيارةٍ رسمية، بعدها أخبرها أنكَ قررت البحث عن عروسك بنفسكَ وحينما تجدُها ستأخذها لطلب يدها فورًا، لكن لا تتجاهل جدتي أرجوكَ فقلبها لن يتحمل خصوصًا أنكَ ستُسافِرُ سريعًا لذلك لن تجد هي فرصةً لإرغامِك على إحداهنَّ"
طالعها بحيرةٍ ثم سألها بجديةٍ: "تظُنِّنَ هذا سيُجدي نفعًا!"
فأومأت ببساطةٍ قائلة: "لما لا، وأنا سأهتمُ بإلهائها عنك بعد السفر"
وافق باستسلامٍ فتنهدت هي بشجنٍ ليسألها قائلًا: "ماذا بكِ؟ تبدين مهمومة!"
"لا شيء" همست تهزُّ رأسها نافية فرفع وِضاء أحد حاجبيه قائلًا: "متى تعلمتي الكذب؟!"
هنا قهقهت عاليًا فابتسم قائلًا: "أخبريني ما بكِ عَلّي استطيعُ المُساعدة"
تنهدت للمرةِ الثانية واحت تحكي له عن صديقتها وما فعله أعمامُها معها بعد وفاة والدتها، فحزن وِضاء لأجلها قائلًا: "وأين هي الآن؟"
"استأجرت شقة وتجلسُ فيها بمفردها" أومأ وِضاء فقالت هي ترثي حال تلك المسكينة: "أنها طبيبةٌ صيدلانية وذكية وطيبةُ الأصل والخُلِق، والله لولا اضرابها على الزواج بعد ما تطلقت لكنتُ رشّحتُها لصديقك الكيميائي"
"مُطلقة!" همسها مُتفاجِئًا فأومأت بأسفٍ قائلة: "تطلقت منذُ أكثر من عامان وكرهت جنس الرجال بأكمله بسبب ذاك الحقيرُ الذي كان زوجها" ثم تابعت وهي تنظرُ بعيدًا وترتشفُ مِن قهوتها ببطءٍ: "كنّا جميعًا نَشدُوا بأخلاقها ورقتِها وهشاشتها حتى تزوجت فتبدلت ملامِحُ شخصها كاملة ومالت للحادةِ قليلًا والجمود الصامتُ كثيرًا، أنا حقًا حزينةٌ لأجلها"
صمت لا يعلمُ ما يُجيبُ به فهو بنفسه جرّب فشل الزواج ويعرِفُ خذله حقَّ المعرفة..
شرد بعيدًا فشعرت هي بالشُحنات السلبية التي تكاثفت حولهما لتُبادِر بفتح موضوعٍ جديد قائلة: "وبالنسبةِ لصديقك الكيميائيُّ الذي كان يلتهمُ الأوراق الدراسية ليُرتِّب على الدفعةِ كل عام، هل وجد عروسًا مُناسبة؟"
هنا قهقه وِضاء قائلًا: "يا إلهي لا تُذكريني به لقد رُفض بالثلاث في أربع زياراتٍ لعرائس مُختلفة"
فابتسمت بحماسٍ قائلة: "قُصَّ عليَّ ماذا حدث"
أومأ باستمتاعٍ قائلًا وقد بدأت روح المُداعبةِ بالسيطرةِ عليهما مُجددًا: "اسمعيني إذًا فأنا لن أُصاب بنوبةٍ قلبيةٍ وحدي؛ الأولى رفضته لأنه في أول مُقابلة قال لها "أنا أحبُّ البيت نظيفًا دائمًا وملابسكِ أيضًا يجب أن تكون كذلك، لا أُريدُ أن أرى جواربكِ على الأرضِ مُلقاةٌ ولا أي ملابس أخرى في أي ركنٍ مِن أركان المنزل، أحبُّ الانضباط والاستيقاظُ مُبكرًا وسأترُك لكِ مذكرةً لخَّصتُ بها كل المهامِ الواجبةَ؛ عليكِ حفظُها ومُذاكرتها جيدًا، لا أُريدُكِ أن تُنقُصي منها شرطًا واحدًا لأني سأُحضِرُ معي في الزيارةِ القادمة اختبارًا صغيرًا لتُحلِّه أمامي كي لا تغشّي وأتأكد أنها بأكملها اجاباتُكِ دون مُساعدةِ أحد"" انفجرت أُميمة في الضحك أثناء تقليده لنبرةِ ياسيف فهتفت قائلة: "سامحكَ الله يا وِضاء لقد جننتَ الرجُل" فشاركها وِضاء الضحك قائلًا: "هذا لا شيء مُقارنةً بالمرةِ الثانية فالمجنون قال لها "ارفعي قدميكِ عن الأرض أُريدُ أن أرى إذا كانت الأَرضُ نظيفةً أم لا واسمحي لي أن أرى غرفتكِ أيضًا لأطمئنَّ أنها نظيفةً ومُرتبة والمطبخُ كذلك لأرى مدى نظافته وأن كانت تفوحُ منه رائحةٌ كريهة أم لا".." فقاطعته أُميمةُ قائلةً بصدمة: "والفتاة.. هل سكتت له؟"
فأجاب وضاء قائلة بسخريةٍ شديدة وهو يتذكرُ صدمةَ صديقه: "بل مسحت الأرض بكرامته قائلة "لتتأكد بنفسك أنها نظيفةٌ لامعة" ثم طردته شر طردتٍ وهي تنعته بأقبح الألفاظ وأقذرها" انفجرت في الضحك حتى دمعة عيناها قائلة: "يا إلهي لا استطيعُ التوقف عن الضحك" فقهقه وِضاء قائلًا: "جدي له عروسًا بارك الله فيكِ قبل أن يُصيبُني بذبحةٍ صدريةٍ، اخشى أن لا نجد مَن ترضى به" فزادت قهقهتها حتى سعلت قائلة: "صديقك هذا يحتاجٌ لدوراتٍ مُكثّفة لنستطيعَ تزويجه أو..." ثم صمتت فجأة وهي تستشعرُ حركةً غريبة من الطابق الذي يليها وفجأة دبدبةٌ شديدة اثارت رعبها لتقفز قائلة: "عفراء!"
أرهفت أميمة السمع فشعرت بها تُنازِعُ شيئًا أو أحدًا ما لتجد نفسها تهبُّ واقفة وهي ترتدي اسدال الصلاةِ بسرعةٍ وتُمسِكُ بحاملةِ مفاتيحها قائلة: "سترك يا رب" أمَّا وضاء فسمع ما سمعته لذلك لحق بها وهو لا يعلمُ كينونة تلك الفتاةُ التي ذكرت أُميمة أسمها ولكن من حديثها شعر أنها مهمةً بالنسبةِ لها، فتساءل إن كانت نفسُها صديقتها التي قصَّت عليه مُشكلتها منذُ قليل!
وصلت أُميمة للباب فطرقته قائلةً بزعرٍ وهي تسمعُ صراخ عفراء المقهورُ ونزاعها المُثيرُ للريبةِ: "عفراء هل أنتِ بخير؟" خرج بعضُ الجيران بفضولٍ بعد سماعهم لصراخ عفراء المكتوم أما عفراء فسمعت نداء أُميمةِ الملهوف القلق لتصيح بأعلى صوتها: "أنقذيني يا أُميمة أنقـ.." وقُطعت كلماتها بصراخ الحقيرُ المُقيِّدُ لها قائلًا وهو يصفعُ وجنتيها بقوة: "أخرسي يا حقيرة لن يستطيع أحد تخليصكِ مني قبل أن آخذ منكِ ما أُريد"
أمَّا في الخارِج فما إن سمعت أُميمة باستغاثةِ عفراء حتى فتحت الباب بتعثُر مستخدمةً النسخةِ الاحتياطية التي أعطتها لها عفراء مُسبقًا ولسانُ حالها يهمسُ بذعرٍ والقلبُ في صدرها ينتفض: "يا رب سلِّم"
فشلت في فتح الباب بحركات اصابعها الخرقاءُ فتناول وِضاء منها المفتاحُ بعجلٍ ليفتح الباب بثباتٍ يُحسدُ عليه، دلفت أُميمة بسرعةٍ وهو خلفها ليصدمه ما يرى، ذكرًا عريضُ البُنيةِ غليظُ الهيئةِ يُقيّدُ فتاةً أسفله ويعتدي عليها..
تصاعد الدمُّ في شرايينه فخطى نحوه بنظراتٍ شرسة غاضبة ثم جذبه بقوةٍ من مؤخرةِ قميصه ليُبعده عنها ويُلقيه أرضًا قُرب باب الشقة ثم ينخفض فوقه مُرددًا له لكماتٍ قاسية وهو يُردِّدُ بدمٍ حامي يغلي على شرف دينه وعرضه: "يا وَسخ يا حقير تتعدى على حرمةٍ هي أضعفُ مِنكَ بكثير!"
وأما عن أُميمة فما لبثت أن وصلت لعفراء التي استقامت جالسة وتقوقعت على نفسها تبكي وهي تستندُ بظهرها على الحائِط وتجذبُ ملابسها المُمزقة بفعل ذاك الحقيرُ الذي حاول هتك عرضها وتلويث جسدها، كانت منهارة تدفنُ وجهها فوق رُكبتيها فعانقتها أُميمة بشدّةٍ وهي تُشارِكها البكاء قائلة: "لا بأس لا بأس انتهى الأمرُ لا تقلقي أنتِ بخير"
قالت عفراء بانهيارٍ تام وحشرجة أثناء ارتعاشها الشديدُ: "نقابي يا أميمة وملابسي.." فجذبت أُميمة شرشف السرير مِن الغرفةِ المُجاورة القريبة جدًا ثن قامت بوضعه على عفراء التي ضمته لنفسها وهي تستقيمُ لتدلف لغرفتها وتُستر نفسها بملابس أخرى سليمة، كانت تبكي وهي تشعرُ بالدنس والتعرّي ودموعها تجري على وجنتيها بحرقةٍ فإلى متى سيستمرُّ بؤسها ولحاقُ الماضي بها إلى متى؟!
استقام وِضاء بعدما فقد المُعتدي وعيه مِن شدّة نزيفه على يد أُميمة التي كانت تجذبه من ذراعه هاتفة ببكاءٍ مرير: "دعه يا وِضاء لا تُلوِّث يداكَ بدمائه القذرة، أرجوك دعه أ.." في تلك اللحظة تدخلت عفراء التي خرجت لتوِّها بقوّةٍ كانت النقيضُ تمامًا للضعفِ والانتفاض الذي دلفت به لغرفتها منذُ دقيقةٍ واحدة فقط قائلة: "أنا أتصلتُ بالشرطة"
❀•❀•❀
"أنا لا دخل لي أريدُ أن أتزوج جدوا لي عريسًا يا ناس" تذمّرت لؤلؤة كالأطفال وهي تضربُ الأرضَ بقدميها فأجابتها والدتُها ببرودٍ وهي تستكمِلُ جلي الصحون قائلة: "ما اسمُ الروايةِ هذه المرة"
فهتفت لؤلؤة باستنكارٍ: "أيُّ روايةٍ؟"
لتتوقف الأمُّ عمّا تفعل وهي تتخصرُ بيدٍ وبالأُخرى تُشوِّحُ بها في الهواء قائلة: "بما أن هرموناتك المسائية طافحةٌ بهذا الشكل إذًا أنتِ قرأتِ روايةً ما رومانسية وأثّرت على عقلك"
احمرت لؤلؤة خجلًا للحظاتٍ مُتأففة ثم ابتسمت وهي تشردُ حالمة دون وعيٍ منها: "أنه السبب"
قطبت الأمُّ جبينها وهي تستفسرُ قائلة: "مَن!"
لتقول آلاء بهُيامٍ: "داغر العشقُ يا أمّي"
وما إن سمعت الأمُّ الاسم حتى رفعت كفيها إلى الله شاكية: "عوِّض عليَّ عوض الصابرين يا رب، ابنتِ المنكوسةُ ستأتي لي بذبحةٍ صدرية بدلًا من عريسٍ كباقي خلق الله، تتركُ لي شبابًا كالورد وتمسكت بأبطال الروايات، والله حسبيَ الله"
فهتفت لؤلؤة باستنكارٍ وهي تُقطِّبُ جبينها: "مَن هو بطلُ الروايات ذاك الذي تقصدينه يا أمّي!"
فأجابت الأمُّ وهي تشرحُ حديثها ببيديها المُلوِّحة في الهواء: "سي داخل أو خارج هذا لا فرق ما دام أسمه بالهيروغليفيةِ هكذا سيكون بالتأكيد بطلُ روايةٍ ما"
لتُجيب لؤلؤة بهيامٍ مُضاعف: "ليسَ بطل روايةٍ يا أمّي بل هو بطل سلسلةٍ بأكملها، إنه طويلٌ وقويُّ وبرونزيُّ البشرةِ وأزرق العينان و.."
قطعها صياح والِدتها الحانِقُ بشدّةٍ مع صاروخٍ ناسف يُصيب ثغرها بجدارة يُسمي 'سلكة المواعين': "اخرسي ليتَكِ ما تحدثتِ!
نكدتِ ليلتي يا آلاء سامحكِ الله أغربي عن وجهي الآن وفورًا"
❀•❀•❀
عادت مِن مركز الشرطةِ معهما في سيارةٍ وضاءٍ وهي تبكي بصمتٍ بعد أن قُبِض على الحقير فقالت أُميمة الجالسة بالخلف جوارها: "قِف هنا قليلًا يا وِضاء من فضلك، عليّ التحدّث مع عفراء في أمرٍ هامٍ قبل العودةِ للمنزل فالأولادِ بالتأكيد استيقظوا الآن ولن نستطيع الحديث أمامهم"
وبالفعل أوقف وضاءُ السيّارةِ فخرجت منها أُميمة التي كانت جالسةً بالخلف جوار عفراء تجذبها خلفها فلحقت الأخيرةُ بها باستسلامِ حتى جلسا على طاولةٍ في مقهى يمتلكُ حديقةً واسعة ولحسن حظِّهما أنها كانت فارغة في ظلِّ هذا الوقت المُتأخر، خرج وِضاء هو الأخر وجلس على طاولةٍ قريبةً منهما نوعًا ما ثم طلب كوبًا مِن القهوةٍ الحُلوة بحلاوةٍ مُعتلة تُعادِلُ القليل مِن مُرِّها وهو ينظرُ نحوهما ويشغلُ باله تلك الفتاةُ الغامضة التي تجلسُ جوار أُميمة ابنةَ أخته، من حديثهما فهما أنها نفسها الفتاةُ التي قصّت أُميمة عليه قصتها، لقد صُدِمُ عندما علِم من المحضرِ التي رفعته أن ذاك المُعتدي هو قريبُ مُطلقها وهذا أعطاه نظرةً أوضح لنوعيةِ ذاك الأذى المُتسببُ به زوجها لها وأيضًا يُوضِّح سبب نفورها وبُغضها لمُنظمةِ الزواج بأكملها ففتاةٌ مُتدينةٌ مثلها -وهذا ما فاجأه أيضًا بالمُناسبةِ فقد ظنّها فتاةً مُتحررة عندما قصّت عليه أُميمة اصرارها على المكوث وحدها- بالطبع لن تقبل بنظرةٍ دنيئة مِن أحد أصدقاء زوجها خاصةً وأنه استشعر مِن نبرتها والضابطُ يستفسرُ منها إن كان قد تعرض لها ذلك الخسيسُ سابقًا أم لا؛ أنّه فعل والمدعوُّ زوجها لم يُدافِع عنها!
"أنا لن أتزوج أبدًا، أُفضِّلُ العيش وحيدةً لبقيةِ عمري على أن أقترن بأحدهم"
فاق وِضاء مِن شرودِه على صوتها الحادُ وهي ترفضُ حديث أميمة رفضًا قاطعًا فالتمس لها شيئًا من العذر وثار فضوله مُتسائلًا عن سبب أضرابها عن الزواج، ما الذي فعله لها ذاك الحقير لتبغض الزواج هكذا!
هل هناك أكثر مِن ما استنتجه أم أن استنتاجه بأكله خاطئ وما خفى كان أعظم؟!
أمّا أُميمة فشاركتها الحِدّةَ قائلة: "وأنا على جثتي تركِ وحدكِ مُجددًا عفراء خاصةً بعد ما فهمتُ أن زوجكِ السابقُ وأصدقائه يتربصون بكِ، اختاري الآن أما العيش معي بالإجبار أو الزواج، والدتُكِ رحمها الله قبل وفاتها بأيامٍ قليلة أخبرتني عن حميد جارُنا الأستاذ الجامعي الذي توفت زوجته منذُ ثلاث سنواتٍ وأنه قد تقدّم لكِ فما رأيُكِ بإمهالِه فرصة؟
بالطبع تعلمين أنه شخصٌ مُحترمٌ ومستواه المادي جيد ولا شائبةَ على أخلاقه فما الرفض!"
"لن أتزوج يا أُميمة وكفا، أنا أحبُّ البقاء وحدي لا أُريدُ الزواج" قالتها برفضٍ قاطع واشمِئزازٍ لفكرةٍ الزواج مجددًا فقالت أُميمة بحنقٍ غاضب: "لماذا!
أعطيني مُبررًا واحدة لترفضيه، أنه شابٌ رائع"
"لا أُريد يا أميمة، هل سأغصبُ على الزواج أيضًا!"
"اسمعيني عفراء أنا أتفهمُّ فشل زواجكِ الأول وأعلمُ أنه لم يكن بالتجربةِ الجيدة لكن أصابِعُ يدكِ غير متشابهةً يا عفراء والرجالُ مُعاشرتُهم ليست مُتماثلة، مِنهم الجيدُ والسيء، مَن يُطلق عليه رجل ويستحقُّها ومَن لا يُقال له سوى ذكرًا فقط لأنه عديمُ الرجولية"
بكت عفراءُ قائلة: "أرجوكِ أنا لا أستحقُّ هذا، لا أُريدُ الزواج، لا أُريدُ الزواج لا تُجبريني أرجوك"
تنهدت أُميمة وجذبتها لصدرها تُربِّتُ بحنوٍ على ظهرها قائلة: "ماذا أفعلُ معكِ يا صغيرة، سأُجنُّ مِن الخوف عليكِ، سأُصابُ بنوبةٍ قلبية إن أصابكِ مكروهٌ وفشِلتُ في المُحافظةِ عليكِ كما وصّتني والِدتُكِ"
فقالت عفراء وقد عاودها الانهيارُ بعدما خارت قواها المزعومةُ: "لا أُريدُ الزواج لا أُريد"
❀•❀•❀
"نعم يا حبيبتي، سأتأخرُ قليلًا الليلة أرجوكِ أخلدي للنوم ولا تنتظريني أرجوكِ" صمت قليلًا يستمعُ لتأنيبها فأجاب مُعتذرًا: "أعتذرُ صدقًا لقد احتاجني صديقٌ لي لديه مُشكلة فوجب عليّ تلبيةُ النداء"
استمع لجملتها الغاضبة وهي تهتفُ مُتذمرة: "لقد وعدتني اليوم بالتحدُّث في شأنِ العروس على العشاء يا وِضاء لكنّك لم تحضر" ثم تحولت نبرتها للبكاء قائلة: "أنتَ لم تعد تهتمُّ بي أو بحديثي وِضاء، لم تعد وَلدي الذي يُحبُّني لقد أتعبت قلبي يا ولد"
فقال وِضاء بنبرةٍ حانية: "سلامةُ قلبكِ يا غالية" لتهتف بنبرةٍ راجية: "أرح فؤادي يا وِضاء وقِرَّ عيني برؤيةِ أولادِكَ يا فلذةَ كبدي"
وفجأة وجد عينه تلتفُّ لتنظرَ لها، لحيثُ تركها مع أُميمة على بعدٍ ضئيلٍ منه سمح له بسماع كلماتِهما بوضوحٍ، بدأ فجأة في تكرار جملتها بخفوتٍ دون وعيٍ منه: "أنا لن أتزوج أبدًا، أُفضِّلُ العيش وحيدًا لبقيةِ عمري على أن أقترن بإحداهنَّ" ولأن سمع والدته ضعيف لم تلتقط جملته الخافتة بوضوحٍ فهمست سائلة: "ماذا قلت؟ أين ذهب صوتُك يا وضاء" انتبه لحديث والِدته فأجاب بتوترٍ وهو يمسحُ جبينه المُتعرق بمنديلٍ ورقي: "لـ لا شيء"
أومأت والدته كأنه يراها قائلة: "ستأتي غدًا معي لمُقابلة تلك العروس أليس كذلك؟"
ليهتف بسخط وهو يشيحُ بعينيه بعيدًا: "أنا لستُ مُتفرغًا يا أمي سـ"
فقطعت والدته حديثه قائلة: "لا تتماكر عليّ يا ولد أنا أفهمُ تهرُّبكَ هذا أم تراني كبرتُ وأصابني الخرف!"
فقال بنهيٍ ينفي عنه قولها: "حاش لله يا أمَّ وضاء أنا.."
فقالت تقطعُ عليه الطريق مُجددًا بحسمٍ أكبر: "والله يا وضاء إن عدت لسفرك قبل أن توافقُ على إحداهنَّ وتتزوج سأُخاصِمُكَ ليوم الدين ولن أرضى عنكَ أبدًا"
ثم أغلط الخط في وجهه فأغمضَ وِضاء عينه بإرهاقٍ واستنزافٍ لقواه العقليةَ قائلًا برافضٍ تام لفكرةِ الزواج: "يا رب اهدني للقرار الصحيح ماذا أفعل!" واختتم جملته ليجد نفسه دون وعيّ منه ينظُرُ لجمود عينيها وحدّتها الواضِحة من أسفل النقاب وهي تقول لأُميمةٍ ببسالة: "لن أفعل شيء، سأكتفي بالذهاب لخالتي في الجنوب، لقد عرضت عليَّ مُسبقًا أن استأجر الشقةِ الأرضية في منزلهم لأنهم سيُؤجرونها على كل حال كما أن غسّان وأصدقاءه لن يعثروا عليّ هناك أبدًا"
دمعت عينُ أُميمةٍ وهي تشعرُ بالضعف والهوانِ وعدم القدرةِ على الدفاع عن عفراء المُضطرة للمُهاجرةِ بعيدًا عن مسقطِ رأسها الذي تعلمُ كم هي مُتعلقةً به لأجل حثالةِ المُجتمع من عائلتها وأقاربها والأغرابُ عنها فجميعهم تكاثفوا عليها وتشاركوا في ظلمها بشتّى الطرق، كادت تهتفُ باعتراضٍ واهي في مُحاولةٍ أخيرة لإقناع عفراء بالزواج والاستقرارِ هنا بينهم أو أي حلٍ آخر بديل لهجرها لكن هتافُ وِضاء الجاد عندما تنحنح بعد وقوفه أمامهما قائلًا برسميةٍ وهو يُجلي صوته: "أعتذرُ عن سماع حديثكما لكني لدي حلُّ قد يُساعدنا جميعًا" قطع اعتراضها.
طالعته عفراء بتساؤلٍ فاتر بينما هتفت أُميمة بلهفةٍ: "وما هو؟"
فنظر لعفراء وتطلع في عينيها قائلًا بصلابة: "كوني لي زوجةً وسيكون بيتي وعائلتي لكِ الأمانُ والحماية"
"ماذا" وتلك الكلمة هتفت بها كلاهما وكُلٌ منهما له غرضٌ منها كان النقيضُ تمامًا مِن الآخر، فأُميمة أمُّ مُحمدٍ قالتها بسعادةٍ زاهلة، أخيرًا وِضاء المُخاصِمُ للزواج قرر الزواج أخيرًا ومِن مَن..
مِن مُضربةً الزواج مثله أو أشدّة منه!
"ونعمَّ الاختيارِ أقسِمُ بالله ما جمّع إلّا أمّا وفّقَ" همست بها ضاحكة بينما تصاعدت شراسةُ عفراء قائلة: "في أحلامِكَ" بعدها تابعت قائلة بصميمٍ وحدّةٍ أكبر: "أنا لن أتزوح أبدًا"
فأجابها وِضاء ببرودٍ وعدم اكتراث: "وأنا مثلُكِ لا أكرهُ في حياتي سوى الاقترانُ ببناتِ جنسكنَّ لكن لدي سببٌ يُجبِرُني على الزواج"
فأجابته هي الأخرى دون اكتراث مُماثل: "وأنا لا أُجبرُ على الزواج لذا.. جد لنفسكَ عروسًا بعيدًا عنّي" وضغطت بتصميمٍ على كلمتها الأخيرة بينما أُميمة هتفت أُميمة بحماسٍ شديد: "الله.. عراكٌ ثم زواجٌ إجباري وبعدها حبُّ وغرام" ثم تنهدت بهُيامٍ قائلة: "مُنتهى الرومانسية"
أما وِضاء فقد زاد جموده قليلًا مِن إهانةِ عفراء المُستترة خلف كلماتها والمُوجهةَ له لكنه تغاضى عنها قاصدًا ولا يعلمُ سبب تغاضيه في الواقع، لم يُعلِّق أيضًا على كلماتِ أُميمة التافهة بالنسبةِ له وتابع قائلًا: "الزواجُ سيكونُ على الورق فقط لا أكثر، أنا مُسافرٌ بعد أسابيعٍ قليلة جدًا ولن أعود مُجددًا قبل خمسةِ سنواتٍ على الأقل لذلك أنتِ غيرُ مُجبرةٍ على أي واجباتٍ زوجيةٍ تجاهي سوى التظاهُر مراتٍ قليلة أمام والِدي كي لا يَشُكّانِ في شيء، أمّا عن أرباحكِ مِن هذا الزواجِ الأشبه بصفقة؛ ستعيشين في الفيلا مع أمي وأبي وسيكونُ لكِ طابق خاصٌ بكِ مفصولٌ تمامًا عن طابق والِداي المُزدوج وسيارةُ البيت بسائقها الخاص يمكنه أن يُقِلُّكِ حيثُ شئتِ وأخيرًا أفرادُ أمنٍ يقظة على مدارِ أربع وعشرون ساعة ولن يتجرّأ أيُّ ابن امرأةٍ على سطح هذا الكوكب مِن التعرُّضِ لكِ، كلُّ هذا بشرط أن تحفظي أسمي في غيابي لا أكثر"
دمعت أعيُّن أُميمةٍ قائلة: "كلماتُكَ أصابت قلبي في مقتلٍ يا وِضاء، لم أكن أعلمُ أنّكَ رُومانسيٌ هكذا"
أمّا عفراء فزادت قسوة عينيها وهي تنظرُ لنقطةٍ وهميةٍ بعيدٍ قائلة: "كلُّ هذا لا يَنِمُّ على الأمانِ أبدًا ولا أيٍّ مِن خصاله كذلك لذلك.. وفِر عرضك لغيري فأنا لا اكترث به"
"ماذا!" والصرخةُ هنا كانت مِن أميمة التي تابعت اعتراضها المُستنكر بحنقٍ قائلة: "كلُّ هذا لا ينِمُّ على الأمان!
أجُنِنتِ عفراء؟ هل هناكَ ما هو أكثرُ مِن هذا لمنحكِ الأمان؟!"
ثم تابعت بغيظٍ وحدّة: "رفضتي الزواج ومرَّرتُها لكِ، والآن عندما تقدم لكِ أكثرُ رجال الأرض كرهًا للزواج وسيترُككِ على هواكِ كما تريدين دون أي حقوقٍ شرعية ترفضين أيضًا!
لماذا كل هذا عفراء؟"
فأجابت عفراء بحدّة: "لأنّي لا أعرفه ولا أثقُ به فكيف أسلمه نفسي وكيف أضمنُّ أن لا يحنث وعده بعد الزواج!"
"سأضمنُه لكِ بنفسي وِضاء رجلٌ يُعتمدُ عليه صدقًا" قالت أُميمة بصدقٍ فأجاب وِضاء بهدوءٍ وثباتٍ شديد: "هذه كانت مُساعدتي المطروحة عليكما، معكِ يا أستاذة عفراء مُهلةٌ للغدِ فإن قبلتي عرضي سأنتظرُ اتصالا مِن أُميمة يُبلِّغُني بهذا وإن لم تفعلي فهذا كان مُجرّد اقتراحٍ ومصلحةً مُتبادلةً لا أكثر لذا سأبدأُ حينها بالبحث عن أخرى تلعب هذا الدور مُقابل القليل مِن النقود لأنّي.." ثم نظر لعفراء داخِل عينيها بتركيزٍ وقال ببساطةٍ وبرود: "لا أُريدُ أن أتزوج أبدًا"
طالعته بصمتٍ للحظاتٍ وقد بدت مُحتارة تائهة فقالت أُميمة بخبثٍ في نفسها: "كلاكما الآن مُضربانِ على الزواج لكن.. أنا أشعرُ أنّكما أكثر مَن يليقانِ ببعضهما في المجرةِ بأكملها" بعدها نقلت عينيها بينهما مُتابعةً حديث نفسها قائلة: "زواجكما سيكون مِن اليوم أُولى مُهمّاتي أقسم" بعدها بانتشاءٍ انتفخت اوداجها قائلةً بعزيمةٍ واصرار: "ثم سأدعو الله أن يُؤلِّفَ بين قلبيكما سريعًا، بل سريعًا جدًا ومولوكما الأول سيكون مُهمتي الثانية وحصاد ثِمار جهدي معكما بإذن الله"
❀•❀•❀
"رُفِعت الجلسة"
أغمضت عينها فانهارت دموعها فوق وجنتيها وبعد دقائق خرجت مِن المحكمةِ بمشاعر مُتباينة، سعادة وحزن مُمتزج بالحرية و.. والتشفّي!
لقد شَفت غليليها منه قليلًا بهذا الطلاق الذي تمَّ سريعًا بطريقة لم تتوقعها أبدًا، الحمد والشكر له ثم لذاك المَجهول أخا أدهم فهو من وكّل لهم مُحامٍ غاية في المهارة ليتولى قضيّتها، أما أدهم فبعلاقاته الوطيدة مع أُناسٍ لهم في كل مكانٍ حبيب؛ استطاع أن يُقنِع القاضي بعدم التأجيل وإصدار حكمٍ سريع قبل عودة زوجها المُسافِرُ، فرافع المُحامي بما يُثبتُ أن سراج قد يُصيبُها بأذى ويجبرها على التنازل عن القضية لو أُجِّلت الجلسة أو تأخر الحكم فيها.
استمرت الجلسة لساعاتٍ كاملة حتى حكم القاضي أخيرًا قائلًا: "بعد النظر في القضية والاطلاع على جميع المُستندات المُقدمة؛ يقع الخلع قانونيًا نظير تنازل الزوجة عن مستحقاتها المالية وكافة حقوقها الشرعية فيما عدا حقوق الأطفال إن وجد فهل أنتِ مُوافقة سيدة رودين"
"نعم سيدي القاضي أنا أتنازلُ عن كل شيء مُقابِل حُرّيتي"
"رُفعت الجلسة"
سارت في الرواق الطويل ودموعها تنسابُ على وجنتيها تتذكرُ يوم نكستها عندما رأت سراج والد تاج أول مرة، حينها كانت صغيرة مُراهِقة لم تُكمل عامها الثامن عشر بعد، تحملُ حقائب الخضراوات البلاستيكية وهي تتقدمُ من باب منزلها بملابسها القديمة المُتهالكة وحِجابها القطني الناعم الذي انزلق عن شُعيّراتها الأمامية فأظهر شُعيراتٍ فحمية غاية في التمرد والرقةِ اللامعة، ثم بلورتان زرقاوان صافيتان تُحيطُ بهما أهدابٌ كثيفة ماثلت شعرها لونًا أصابته في مقتل كما كان يُخبرها يومًا، ليرميها بابتسامته الوسيمة المُزينة لذقنه الحليقة التي أظهرت فكّة الصلب وبشرته المائلة للبياض قليلًا.
أكان وسيم؟ نعم وسامته سحرتها من النظرةِ الأولى وأربكتها ليتصاعد اللونُ الأحمر في وجنتيها خجلًا بالتزامن مع تجاهلها المزعوم له وهي تدلف لمنزلها وتُغلق الباب خلفها بتوترٍ كأنها تهربُ من عينيه العابثتين التي ترمقها بنظراتٍ جريئة جرّدتها مِن ملابسها، استمرت حالته تلك لشهورٍ كاملة، يُلاحِقُها من المدرسةِ للمنزل ثم يبقى أمام شُرفتها يُغازلها بعينيه القاتمة وابتسامته القاتلة حتى وصلتها رسالةٌ على رقمها الخاص من رقمٍ مجهولٍ يعترفُ لها بالحب ويُهديها أحبُّ أشعار الحب وأكثرها عشقًا وهيُامًا، استفسرت أحد المرات عن هويته التي شكّت بها مُسبقًا فقالت: "مَن أنتَ"
"عاشقٌ ولهان اكتفى من مُلاحقتكِ بهُيامٍ وحان وقتُ الخطوةِ الجدية ليصل القلب لمعشوقه"
ذاك كان رده الذي حُفِرَ في صدرها الغرُّ واستوطنه، شعُورٌ فريد لم تتذوق مثله مُسبقًا، تلك أولى تجاربها التي لم تُثنّى، أولى همساتُ الحب التي داعبت قلبها..
وليتها لم تفعل وتركتها بريئة كسابِق عهدها، ولأن شخصية رودين تميّزت بتمردها الخفيفُ مِن نوعٍ خاص لا يليقُ إلّا بها ردعته وصدته عن عزله قائلة: "أبتعد عني يا أستاذُ فضلًا فأنا لستُ لقمةً سائغة لكَ ولا لأمثالك"
"غرضي بريء أردتُ التقدم لكِ لا أكثر، أنا أعشقُكِ رودين فتزوجيني.."
شهقت وهي تضعُ يداها فوق صدرها تُهدِّئ مِن وقع نبضاته الثائرة: "أهدأ أيُها القلبُ ما بك!"
"هل ستقبلين بي يا رودي؟"
زاد خجلها لكنه أصرَّ أن يتلقى منها ردًا فتهورت وجنتيها قائلة: "حادِث أبي" ثم حظرته تمامًا ويا للمفاجأة فقد صدق في حديثه وتقدم لها في نهايةِ الأسبوع لكن والدها رفضه.
وهي تعلمُ سبب الرفض جيدًا فهو كانت أرمل ولديه فتاةٌ صغيرة يُربِّيها..
زاد من اصراره لها وأصبح يُلاحقها في كل مكانٍ لتقبل به وتُقنع والدها فرضخت له وعاندت والديها وهددتهم بالهروب من المنزل إن لم يُزوِّجوها له، حُبست وهُددت بالضرب ثم أخذوا منها هاتفها كي لا تتواصل معه مُرددين لها: "أنتِ تظلِمين نفسكِ معه وهو ليسَ مُناسبًا لكِ، أنتِ مازالت صغيرة قليلةَ التجارب في هذه الحياةُ المُلثمةِ فأعطي نفسكِ فرصة ليأتيكِ حبٌّ حقيقيٌ ناضج!" لكنها لم تعبأ بحديثهم ولم تسمع لهم ثم لم تيأس لمُحاولات ردعها عن الأمر فهي كانت قد أحبته!
طفلة تحتاج الدلال والاهتمام كانت حينها وهو أغرقها بكل هذا منذُ اللقاء الأول فلماذا يرفضوه بعدما أمست عاشقةً له، واستمرَّ حالها معهم بالشد والجذب حتى قاربت العشرين من عمرها ففاجأتهم جميعًا بمُحاولة انتحارٍ نجت منها بأعجوبةٍ فرضخوا لها أخيرًا وقبلوا بزواجها من سراج مُرغمين حفاظًا على حياة ابنتهم الوحيدة، وتلك كانت أول مرةٍ ترى فيها أباها يبكي وهو لا يجدُ بين يديه حلًا لحالتها الميؤوس منها، حزنت لأنها أحزنته فحاولت مُعانقته والاعتذار منه ليعرض عنها ويُخلِّفها خلف ظهر قائلًا: "منذُ اليوم أنتِ لا أبًا لكِ وأنا ابنتي ماتت فابحثي لكِ عن واليٍ غيري يُزوِّجُك"
عادت من ذكراها تتأفف بخيبةٍ أملٍ وانكسار، ها هي خسرت عائلتها وخسرت مَن خسرتهم لأجله أيضًا.
وصلت للسُلم الطويل أمامها والذي يربطُ بين حديقةِ المحكمةِ وبابها الداخلى، رمقته بضجر وهي تزمُّ شفتيها فهذا الدرج الرُخامي الناعم قادر على جعلها تنزلقُ وقد تخسر طفلها..
هزّت رأسها برعبٍ خوفًا على صغيرها وهي تحتضنه بقوةٍ ثم نظرت لأدهم الواقف في بداية الرِواق يُحادِثُ المُحامي ونظرت أمامها لتاج التي توجهت لدكانٍ صغير يقعُ أمام بوابةِ المحكمة الخارجية لتشتري زجاجة مياهٍ بارِدة عذبة تُنعشهم في هذا النهار المُشمس، لم تجد أمامها سوى التوكل على الله ونزول السلالم التي لا سور لها لتستند عليه فزلت ببطيءٍ وحرصٍ كي لا تنزلق، ما أبغض هذا السُلِم الواسع الذي يركض فوقه الجميعُ بلا مُبالاةٍ وكأنهم تعودوا عليه فما عاد يُسبِبُ لهم هاجس السقوط من فوقه.
بِضعُ درجاتٍ وكادت تنزلق فتشبثت بشخصٍ مرَّ جوارها صدفةً وقد كان يركضُ لأعلى في رشاقةٍ وجاذبيةٍ لا يُمكنُ نكرانُها، وقف الرجُل ليسمح لها بالتوازن على مهلٍ فتداركت نفسها واستطاعت التوازن بهلعٍ وهي تحتضنُ بيديها الأخرى جنينها فسألها قائلًا: "هل أنتِ بخيرٍ يا مدام؟"
فهمست بخفوتٍ وامتنان: "اشكُركَ يا عمّي"
طالعها باستنكارٍ وهو يرمقُ بطنها الكبيرُ ثم ينظرُ لبذّته الغيرُ رسميةٍ والتي تُعطيه طابعًا شبابي كما المفروض أن يكون: "عمّي!" ثم حدّث نفسه قائلًا: "هل شِختُ لهذه الدرجة؟
حسنًا ربما غزى الشيبُ جانبي شعرك لكنك ما زلتَ في الثلاثين يا رجل، يبدو أن الشيخوخةَ لم تكفها قلبك فانتقلت لباقي جسدك أيضًا!"
لحظاتٍ وتدارك نفسه لينفض عنه تلك الأفكار العقيمةَ قائلًا: "دعيني أُساعِدُكِ يا مدام فالدرجُ غيرَ آمنٍ لكِ"
فرد زراعه أمامها فرفعت رودين عيناها لنظارته السوداء التي تحجبُ عيناها عنه بذهول..
غريبٌ يَعرضُ عليها المُساعدة في منتصف النهار ووسط الناس جميعًا فهل تقبلُ منه المُساعدةَ شاكرة أم تهرب قبل أن يختطفها ويهرب بها!
هل أنتِ معتوهةٌ يا رودين؟ يختطفُكِ وسط هذا الجُمّع! ولماذا يخطفُكِ من الأساس ألم تنظري لحُلته الباهظة؟
نظرت لابتسامته المُهذبة والتي لا تنمُّ على اجرامٍ أو فجور فترددت قليلًا قبل أن تمدَّ يدها وتُمسِك بكمّ بذته السميكة الأنيقة كباقي هيئته المُهندمة الساحرة، بدى وكأنه رجُل أعمالٍ لكن كالذين كانت تقرأُ عنهم في الروايات أو مِن رِجال الدولةِ المهمة لكنه كان مُختلف عمّن قابلتهم واخلفوا تمامًا عن وصف الكاتبات الساحر لهم، ربما لأنه كان وسيمًا ورقيقُ القلب حليمٌ على عكس من يحتلون تلك الطبقة مِن رِجالٍ يلزمهم الكثيرُ من الشدّةِ كأساسٍ لشخصيتهم القوية المهيبة.
وصلت لآخر الدرجات فسحبت يدها بسرعةٍ وارتباكٍ شديد وهي تشكره بخفوتٍ وخجل غيرَ قادرةٍ على رفع وجهها إليه فسمعت صوته الرخيمُ يتمتمُ برسميةٍ: "لا شُكر على واجب"
ثم ابتعد صاعدًا تلك السليمات الطويلة برشاقةٍ، أما هي فرأت على الأرض زِر كمِّ جاكته الذي كانت تُمسِكُ به لتوها فانخفضت بحرصٍ وألمٍ على الأرض لتأخذ الزِر ثم رفعت عيناها له فرأته قد أختفى، قبضت على الزِر بأناملها القصيرة الرقيقة لتبتسم بشعورٍ غريب من السعادةِ الجنونية والتي غابت عنها لسنواتٍ قائلة: "جوعانة"
كلمة لا تعلم من أين تقفِزُ لذِهنها فربتت بيداها فوق بطنها وهي تهمس بأسف: "أعتذرُ يا صغيري، أعلمُ انكَ ستختنقُ داخلي يومًا ما من كثرةِ تناول الطعام لكنّي حقًا جوعانة"
في تلك اللحظة وصلت تاج إليها وعانقتها بقوةٍ قائلة بابتسامةٍ صافية: "مُبارك يا رودي"
فاستدارت رودين إليها قائلة بتذمرٍ كالأطفال: "كُلُّ هذا الوقتِ لتُحضري زُجاجةَ مياهٍ يا تاج!
أنا جــــــائعة"
❀•❀•❀
"لم أجدهم يا أبي ولا أعلمُ أين اختفوا، لا أثر لهم والجيرانُ لا تعلمُ أين هم!"
قال خيّال باستهجان حانق فقد بحث عنهم في كل بقعةٍ في العاصمةِ ولم يجدهم"
ليُجيبه والده بغضبٍ ثائر: "لا يُهمّني أيٌّ من هذا أنا أُريدُ أولاد أختي بأي ثمن، إن اضطررت لشقِّ الأرض طولًا وعرضًا فافعل وأتيني بهم أمام عيني" صمت خيّال بغضبٍ مكتوم فوالِده يُثيرُ جنونه بضغطه عليه ليجدهم وهو لم يترك مكانًا إلّا وبحث فيه، جذب شعره من منابته بعصبيةٍ وهو يجزُّ على أسنانه بغضبٍ فقال ليُنهي هذا الحديث العقيم: "حسنًا يا أبي امهلني بعض الوقت وسأجدهم لا تقلق" ثم أغلق الهاتف قبل أن يسمع ردّه وهو يسبُّ كل شيءٍ ويلعنه ليُكمل سيره بسيارته الأنيقةُ الغامضة مثله تمامًا قبل أن تأتيه مُكالمةٌ أخرى مِن نوعٍ مُختلف ليتبدد الغضبُ المرسوم فوق ملامحه فجأة ويحل محله ابتسامةٌ خبيثة ولهيبٍ أسود يُهددُّ بحرق الأخضرِ واليابس.
فتح المُكالمةَ فابتسم بانتشاءٍ قائلًا: "لكَ هذا"
أغلق المُكالمة وهو يلِفُّ عجلةَ القيادةِ بسرعةٍ مُفاجِئة ليسير في الطريق المُعاكِس قائلًا: "سأتلذذُ بانتقامي منكم جميعًا، قطرةٍ قطرة"
أما سلاف فبعدما أغلق الهاتف مع خيّال سمع صوتٍ آخر يهتفُ له بخبثٍ وشراسة: "ما رأيُكَ أن أتولى أنا هذه المُهمة مُقابِل عشرةِ صناديقٍ صغيرة" طالعه سلاف لدقائق يتفحص هيئته الواثقة الباردة ثم قال بصلابةٍ وقد عاد إليه رونقه وكِبريائه: "لكَ ما تُريدُ وأكثر بشرط أن تُحضرهم لي سالِمين".
❀•❀•❀
لا يُسمح له بمهاتفتها ولا تَسمح له بمقابلتها، يا إلهي لماذا عندما أحب؛ حبه لم يكن سهلًا أبدًا!
تذكر صبيحةَ اليومِ عندما ذهب برفقتهم لمطعم الوجبات سريعة بعد حالة الجوع الغير مُبررة والتي أصابت رودين فجأة، رافقهم لمطعمٍ قريب فجلست رودين تأكلُ بنهمٍ وعفوية كأنها لم تأكل منذُ قرون، والحقُّ يُقال فمنذُ زواج سراج وهي لا تأكلُ إلّا لمامًا واليوم فقد رُدَّت إليها شهيَّتُها.
شعر أدهم بأنها تشبه طفلةً صغيرة شاب قلبُها من شدّة الحزن رغم احتفاظها ببعض مرحها المُحبب والمُناقِض تمامًا للبالون المُمتد أمامها، ستُصبِحُ أمًا مُمتازة هو مُتأكدٌ من ذلك فقد كانت أمًا حنونةً بالفطرةِ لتاج لمُدّةِ خمس سنواتٍ كاملة.
رغم أنها تخلصت اليوم من ذاك المدعو سراج لكن ظلَّ هناك بعضُ من خيوط ألمٍ مُرتسمة على وجهها، لم تبتسم طوال المُحاكمةِ ولم تصح فرحًا عندما ربحت القضية بل ارتعشت!
ولا يدري أكان خوفًا ورهبةً للقادِم أم حبًا لذاك السراج للذي شعر به يستوطن قلبها.
أتسرع حين قبل مُساعدتهما؟ أسيندمُ على تلك المُساعدةِ كما قال أيهم؟!
زفر بخفوتٍ وهو يُقررُ أنه لن يتخلى عنها أبدًا، سيتحملُ نتيجة تصرفه إن كانت حقًا خاطِئة ورودين ستكون كأختٍ صغيرةٍ له لن يتركها وحدها أبدًا، سيطلب منها العيش معهم بعد زواجه بتاج حبيبةُ قلبه، وبذكر المَحبوبة هنا وجب الحديثُ عنها، ألتفت نحوها يرمق برودها اللطيفُ وشراستها الرقيقة وجنونها الرزينُ وصمتها الأفصحُ من ألف حديث.
تسلبُ لبه ببراءتها وذكائها وعبوسها أيضًا، ثم تسلبُ قلبه ببسمةٍ صغيرة تبخلُ عليه بها.
تنهد بتذمرٍ لينظر لطبقه مُحاولًا غض الطرف عنها، يتذكرُ تلك اللحظاتٍ الغالية التي استرق النظر لها عندما كان يُراقبها في العامانِ المَاضيان، لطالما كانت كتلة مشتعلة تلهو وتقفز، تتحول من اَلْمُلَاكِمةِ الشرسة للفراشةِ الودودة الرقيقة الحالمة المفعمة بالحيوية والنشاط، وفي كل تلك الذكرياتُ المُتضادة كان هناك حلقةُ ربطٍ مُشتركة وهي الوحدة وما أصعبها كلمة، تساءل كثيرًا عن سر تلك الوحدةِ التي تُغلِّفُ بها نفسها ولا يجدُ لها تفسير فشخصيتها قيادية ورائعة، جمالها خاطف ومكانتها في المجتمع تجعلُ القريب والبعيد يحبو إليها يطلبُ وصالها.
وكل أسئلته عُلِّق في الهواء بلا إجابة فقرر الانتظار حتى يستكشفها بنفسه فيُبدد ظلامها بحبه واحتواءه لها أو يغمسها في ألوانه الخاصة فتُصبغ بعشقه، يومًا ما تاج ستكون تاج حياته، ستكون حلاله،
له في منزله ينعمُ بقربها ويتوسد صدرها، يقسم سيجعلها ملكةَ عالمه، يستكشفُها ويفكُّ طلاسم غموضها فيدرسها حقَّ دراسةٍ وكيف لا وعشقها أحبُّ الموادِ لقلبه.
أرجع رأسه للخلف وهو يُغمِضُ عينيه أخيرًا، يبتسمُ باتساعٍ وهو يشعرُ أنها امرأته التي ينتمي لها وتنتمي له.
لكن فجأة اتسعت عيناه برهبةٍ واختفت سعادته سريعًا ليحلَّ محلها حزنٌ ثقيل ومُرٌّا كالعلقم، لقد انتهت إجازته التي قدم طلبًا رَسْمِيًّا لها منذ أسبوعين أو أكثر وعليه العودةَ للعمل صباح الغدِ!
قفز عن سور الشرفةِ التي كان يجلسُ عليه وقدماه مُتدليةٌ للخارِج جهةَ الحديقةِ الواسعة في الهواء الطلق بعدما أعتدل ليُدخل قدمه أولًا فتهبط بسلامٍ على أرضيةِ الشرفة الواسعة نوعًا ما.
دلف للداخل ووضع كوب القهوةِ المُمتزجة بالحليب والشوكولاتة الذي كان في يده على الطاولةِ التي قابلته في منتصف الغرفة ثم ألقى بنفسه فوق سريره بإرهاقٍ فيتقلبَ قلبه بين ذكرياته القديمة عندما كان مهووس بمراقبة تلك المرأة النارية التي سقطَ أسيرًا لها بمِلء إرادته وانتهى الأمر.
❀•❀•❀
أخرجت حقيبة ملابسها وأغراضها التي ستصحبها معها لشقتهم الجديدة، للأسف ادهم ليسَ موجودًا برفقتهن اليوم فقد عاد لعمله -الذي أهمله لفترةٍ لا بأس بها- في الصباح الباكر بعد أن ودّعهم في المطعمِ أمس، لقد اعتادت وجوده ودورانه حولها كأنها محور الكون وما دونها سراب، شُعورها نحوه مُختلف، هي شاكرةً له لكل ما قدمه لهم من دعمٍ ومشاعر أخرى لم تجرؤ على تفسيرها، مشاعر لم تشعر بشيءٍ مُماثلٍ لها أبدًا، زفرت بخفوتٍ وحاولت حمل حقيبتها لتجد شخصًا يرتدي حلّةً بسيطةً رسمية باللون الأبيض يحملُ عنها الحقيبةَ قائلًا: "عنكِ يا آنسة، السيد أيهم أمرني بالاهتمام جيدًا بكم"
ابتسمت بهدوءٍ ثم توجهت بعينها لرودين التي خرجت لتوها بفستانٍ فضفاضٍ قطني رقيقٍ جدًا باللون الأرجواني الفاتِحُ بشحوبٍ بسيط واللون الأبيض، مع حجابٍ أبيض أظهرها أصغر سنًا وأكثر حيويةٍ ونشاط.
نظرت رودين لتاج التي ارتدت هي الأخرى فستانًا يُماثله شكلًا لكنه أختلف معه باللون فقد كان رماديًا يتخلله اللون الأبيض ويعلوه جاكتًا من الجينز القاتِم وقد كانت فيه جميلةً أيضًا، فغرت رودين ثغرها بذهول قائلة في نفسها: "ما شاء الله"
لتتوتر تاج من نظراتِها وتتخضب بالحمرةِ اللذيذة المُناقضة لحدتها الدائمة قائلة: "ماذا هل أستلتقطين لي صورةً أو ما شابه!"
فقهقهت رودين ضاحكة وهي تتنفسُ الصعداء قائلةً برضا: "الحمد لله هكذا اطمأننتُ أنها تاج ذات لسان العقرب مُعافاةٍ ولم تُصاب بضربة شمس أو خللٍ في عقلها"
ثم أرتفع صوتها لتهمس ضاحكة: "للحظة ظننتُكِ صرتي رقيقة"
فتذمّرت تاج قائلة وهي تتخصرُ وتُضيِّقُ عينيها بغضب: "ماذا ظننتني رقيقة، أأنا لستُ رقيقة؟"
"حاشاه لله أن تكوني" عاندتها رودين فكادت تهجمُ عليها تاج لتفتك بها لو ذاك الصوت الذي أندفع كالمدفعِ المُصوّبِ نحوهم قائلًا: "تـــــــــاج"
وهي تعرفه حق معرفه فهو والدها العزيزُ الذي لا يعرفُ عن الأُبوةِ غير أنه ورّثها بيولوجيًا جيناته العصيّة، وبحركةٍ سريعة جذبت تاج رودين خلفها بحسمٍ وهي تضعها في السيارةِ دون أن تجعلها تنظر له خلفها ثم عادت إليه بنظراتها الشرسة لتقبض رودين كلتا يديها على بطنها وهي تدعوا الله أن يمرَّ الأمرُ على خيرٍ دون أذية.
❀•❀•❀
"كابتن حان وقتُ الإبحار"
تحدث الرجل برسمةٍ واحترامٍ شديد فرد أدهم عليه بقوةٍ فطرية وخفوتٍ جديدٍ عليه: "مُستعدٌ لا تقلق، تأكد أنتَ من حضور الطاقِم كاملًا وأن السفينةَ جاهزة للإبحار"
ضرب الرجل جبينه بجانب كفه الأيمن في تحيةٍ عسكريةٍ رسمة ثم انصرف ليضع أدهم كفّه الأيمنُ على قلبه النابض بشدة يخبره أن هناك كارثةً ستحدثُ أثناء سفره لا مُحال، والمصيبةُ أن حدسه لا يخطأ أبدًا، فيا رب.. اجعله خيرًا.
"كابتن السفينةُ أبحرت" تناول نفسًا عميقًا وهو يعقدُ العزم ليُغادِر المِيناءُ مُبتعدًا عنهم، مُبتعدًا أكثر من اللازم.
❀•❀•❀

الفصل الجاي بداية الانطلاق 🙊🔥
اتمنى تكونوا استمتعتم وإلى لقاء قريب مع الفصل القادم إن شاء الله 🤍🤍🤍

منى علاء شاهين
الجيش الأزرق Blue army 🌍💙

استوصوا بالحبيب غزلًا "للكاتبة منى علاء شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن