6- نسائه تاجُ رأسه

491 29 97
                                    

الفصل السادس
”نسائه تاجُ رأسه“

سأكون مُعَلِمةً في سنترٍ قريب وسأُدرِّسُ للطلاب اللغة الإنجليزية والفرنسية“ قالت بحماسٍ فاحتضنها سند وهو يُقبِّلُ جبينها قائلّا: ”مباركٌ لكِ أختي الجميلة“ ثم ابتعد قليلًا قائلًا: ”وأنا وجدتُ عمَلًا في مطعمٍ مشهور وسط المدينة سأ..“
”لا يا سند وألف لا، لن تعمل أثناء الدراسة، دع أمر العَمل لي وركِّز في دراستك“ قاطعته بنفيٍ قاطِع فحاول الاعتراض لكنها دفعته برفقٍ نحو غرفته قائلةً بحزمٍ لا جِدال فيه: ”أمي تركت لنا ما يكفي لسداد مصروفات دروسك ويزيد فلا تتذمر وأنا الحمد لله وجدتُ وظيفةً جيّدة لذلك لن تعمل يا سند نقطة ومِن أول السطر“
وما كان منه إلّا أن يَرضخ لها مُتذمرًا وهي تغلقُ باب غرفته خلفه مانِحةً إياه القليل مِن الهدوء فهي ستبدَأُ في التنظيف بالمكنسة الكهربائيةِ الصاخِبة، عادت لبهو الشقةِ الصغيرة وتفقدت هاتفها بروتينيةٍ وملل لتجد إيميل لم تقرَأه بعد من الشركةِ التي أجرت فيها مُقابلةَ عملٍ بالأمس، طالعته بصدمةٍ ما إن قرَأت مُحتواه والذي كان ينصُّ على قبولِها في الشركةِ كمُترجمة!
❀•❀•❀
تفضَّل يا وَلدي“ هتف والِدها بابتسامةٍ طيبة مُرَحِّبة فابتسم ياسيف له ودلف بهدوءٍ لبهو المنزل وقد كانت الساعةُ حينئذ الخامِسة بعد أذان العَصر وعُرس وِضاء تبقى عليه ساعتان فقط لا أكثر، دلفت العروس بعد فترةٍ وجيزة تحملُ أكواب الشاي مُنخفضةَ الرَأس تتصنَّعُ ابتسامةً صفراء، فهم ياسيف سريعًا أنها مُجبرة فابتسم بخبثٍ وهو يشعرُ بلذّةٍ في استفزازِها، رفعت عينيها إليه بحدّةٍ وهي تُناوِله كوب الشاي لتتسع عينيها بصدمةٍ وهي تراه أنه هو..
لقد كان ذاك المَعتوه شبيه داغِر والذي سألها أمس عن رقم والِدها وهي..
يا إلهي احمرت وجنتيها خجلًا فابتسم هو بانتصارٍ وتشفي وكأنه يُخبرها أنه نجح ووجدها!
ناولي كوب الشاي للعريس يا ابنتي“ هتفت والِدتها بحدّةٍ عندما وجدت ابنتها مُتسمرةً أمام العريس فتداركت لؤلؤة نفسها ووضعت كوب الشاي أمامه ثم هرولت بتعثُّر لتجلس جوار والِدها، تحدث ياسيف مع الحاج مُحمّد المنصور وولده توئم ألاء الطبيب طِلال مُحمّد المنصور، حديثه معهما كان مرِنًا ومُشتعلًا خاصةً مع ثقافة طِلال ومُحمد الواسِعة والتي واكبت خواطِره وأفكاره التي يظنُّها البعضُ مبالغة!
شعر ياسيف بالأُلفةِ والانتماء بينهم وبالأسف أيضًا لأنه مُضطرٌّ لفَسخ تلكَ الزيجة بسبب شكِّه في أخلاق العَروس..
رمقته بسخط، يبدو أنها لن تتخلص منه سريعًا، طالعته ببؤسٍ عابسة فوجدته يتحدثُ بلباقةٍ، بشرته نوعًا ما فاتحة لكن عروقه كانت بارِزه وكفِّه مُحدَّدٌ والساعةُ الأنيقة تحتضنُ معصمه، شعرت بحرارةٍ في وجنتيها وهي تنظرُ لكف يده بخجل، لم تتصور أن يكون صادِقًا ويأتي لطلب يدها، ظَنَّته شخصٌ عابِث يُريد التودد لها، زفرت بخفوتٍ وهي تُحدِّثُ نفسها قائلة: ”أهدأي يا لؤلؤة أهدأي، أنتِ هنا فقط ليُسمح لكِ بحضور زفاف عفراء لا أكثر لذا كوني هادِئة وكالمُعتاد احرصي على أن يَهرب العريسُ منكِ ويَفِرَّ بجلده، لا يُغرَّنَّكِ كونه شبيه داغر التي رسمتِ ملامحه في عقلكِ وأحببته بها لأن هناك بالتأكيد فرقٌ شاسِعُ بينهما، داغر كان عاشقًا مُتمسكًا بعشقه أما هذا فهو مجردُ شخصٍ عادي رأى فتاةً في عرسٍ ما فأعجبته وتقدم لخطبتها“
لحظة هل حقًا أعجبته؟
يعني هي لم تُعجب والِدته لذلك تقدم لها؟!
فكَّرت بصدمةٍ ووجنتيها تزدادُ سخونةً لكنها نفت كل هذا قائلة: ”كيف أُعجبه بعد مَقلب أمسٍ كيف؟!“
ثم شهقت وأعينُها تتسع بصدمةٍ، تُطالِعه بذهولٍ وتهتف داخِلها: ”هل.. هل هو كذلك وتقدم لها لتُعرِّفه على ذلك المُقرِف؟ يا إلهي!“
حسنًا يا أولاد سنجلسُ على مسافةٍ مِنكما، كونا على راحتكما
هتف والِد طِلال وهو يستقيمُ واقفًا ومعه طِلال وأم طِلال ليُطالِعها ياسيف بخبثٍ قائلًا: ”هل يعلمُ والِداكِ بأمر الرقم الذي أعطيتني إياه أمس؟“
شهقت برعبٍ وهي تتوترُ قائلة: ”لماذا أتيت؟!“
فزفر براحةٍ وهو يجلسُ فاردًا زراعيه على ظهر الأريكةِ قائلًا: ”لأتقدم لكي كما ترين، أخبرتُكِ هذا بالأمس“
فقالت بسخطٍ وهي تعقدُ زراعيها أمام صدرها: ”وأنا غيرُ مُوافقةٍ فارحل“ ثم تمتمت باستنكارٍ وهي تُشيحُ وجهها عنه بتقزز: ”كيف تأتي لِخطبتي بعد ما صَدر مني أمس؟ أنا لا أفهم أي كرامةٍ تحمل!“
ضيق عينيه باستنكارٍ وهو يقلبُ ثغره قائلًا: ”الأَولى أن أسألكِ أنا هذا السؤال يا مُحترمة! كيفَ وصلَ رقمُ هاتِفُ ذاك المُحنث لكِ؟“
توترت قليلًا وهي تُدافِعُ عن نفسها قائلة: ”أنا.. أنا..“ ثم أغمضت عينيها وقبضت بشدّة على ثيابها وهي تهمسُ مُوضِّحةً بخجل فهي لن تسمح لأحدٍ أن يَشكَّ بتربيتها أو أخلاقها: ”أقسم لي أنكَ لن تُخبِر أحد“
أومأ مؤكدًا بثقة فقالت بتوتر: ”كان يتودَدُ لي لأنه.. لأنه يُريدُ طِلال أخي، لكنني أقسمُ بالله لم أجب عليه سوى أول مرّةٍ فقط ثم وضعته على القائمة السوداء وعندما حاول مُهاتفتي مِن رقمٍ آخر كسرتُ الخط واشتريتُ واحدًا جديدًا
تنحنح ياسيف بتقززٍ وهو يبتلعُ ريقه هامسًا بشك: ”وكيف علمتِ أنه يُريدُ أخاكِ؟“
فعبست هي وقد نست مَع مَن تتحدث وصاحت بغضبٍ مكتوم: ”الوقح قليلُ الأدب قالها لي صريحة؛ يَظنُني سأُساعِده لأني أؤمنُ بالحب“
ضحك بسخريةٍ ثم همس بريبةٍ: ”عليه لعنةُ الله هو وأمثاله سيجعلوننا نخافُ إجابةَ أيَّ أرقامٍ غريبة“
قهقهت فجأة وهي تكتمُ ثغرها بكفيها فشرد هو في ضحكاتها الخجولة الصادِقة وابتسم لابتسامتها وهو يهمسُ داخلة: ”جميلة“
ثم تنحنح مُجددًا وسألها بجديةٍ: ”ولماذا ما زال الرقمُ بحوزتكِ؟“
فقالت بثقة: ”لكي أضعه على القائمةِ السوداء مجددًا كي لا يُعاوِد الاتصال بي مرّةً أخرى فأُجيبه دون قصد“
طالعها بفخرٍ وابتسم برضا ثم استقام بفرحةٍ غامرة وهو يَقول بانتشاء: ”علمتُ صباح اليوم أن المنزل الذي كنتِ فيه بالأمس هو لزوجة أخي وِضاء، لذلك  بما أنني ذاهِبٌ لهُناك فهل تودِّين الذهاب معي؟“
قفزت بحماسٍ قائلة: ”نعم هيا أرجوك لقد أعادتني والدتي قبل ساعةٍ لأُقابل عريس الغفلةِ معهم فتركتُ عفراء في صالون التجميل وحدها، يا إلهي سأموت لأعود إليها أ..“ وفجأة خَبت حماستها وهي تُطالِعه قائلةً بريبة: ”ولماذا أذهبُ معكَ؟ يُمكنُني أخذُ سيَّارةِ أجرى“
فوضع يديه في جيبه قائلًا بخبث: ”لماذا!
هل قصَّر خطيبُكِ معكِ في شيء؟“
استفزّها فأجابته قائلة: ”أيُّ خطيبٍ إن شاء الله أنا..“
لكنه كان قد تركها ووصل لوالِدها يُحدِّثه بابتسامةٍ مُتسعة قائلًا: ”إذًا يا عمي ما رأيُكَ نقرَأُ الفاتِحة الآن والخطبةُ بعد أسبوعٍ إن شاء؟“
فكَّر الأبُ فقالت لؤلؤة مُتذمرة: ”لكن يا أبي..“ ليُقاطِعُها ياسيف قائلًا: ”معكِ حق فأنا معي خواتم الخطبة فلما لا نضعها الآن؟ لا داعي للتأجيل أليس كذلك!“
صمتت مُتسعةَ العينين فقال الوالِد بخفوتٍ: ”ولما الاستعجالُ يا ولدي؟“
ليقول ياسيف باستعطافٍ غريب عليه: ”والله يا عمّي أنا في عطلةٍ قصيرة وعليَّ العَودَةَ لطُلَّابي سريعًا، لذا لا أرى أن التأخير ليس في صالِحنا أبدًا خاصةً وأنا أُريدُ التعرُّف على الآنسةِ أكثر قبل الزواج إن شاء الله“
كان الوالد قد صلى صلاة الاستخارةِ قبل دخول ياسيف وأثناء حديثهما معًا ارتاح له كثيرًا، شعر مُحمد أنه كطِلال وَلده معزَّةً ومودَّةً، طِلال الذي كان أكثر مِن مُرحبٍ به خاصةً أنه سمع الكثير عن مُحاضرات دكتور ياسيف فَريد المُقيم في أُوروبا ويُدَرِّس في أقوى الجامِعات العالمية ولديه أبحاثُ عِدّة نالت جوائز عديدة وقبولٍ شديد من عمالقةِ الكيمياء، لذلك لقاءه في بيته يَطلبُ وِصال أخته كان حدثًا عظيمًا جعله فخورٌ جدًا أثناء حديثه مُناقشته في كل ما أراد وتمنّى.
أفعلا ما تحبّان يا أولًا لكن المُهِم الآن هو رَأيُّ العَروس؟“
مُوافِقة“ وتلك كانت صيحةً عالية مِن أثنان كلاهما قالاها بلهفةٍ شديدة، واللذان لم يكونا سوى أمَّ طِلال وياسيف فضحك الجميعُ بمرحٍ بينما تخصرت لؤلؤة وهي تُطالِعهم بسخط ليغمز ياسيف لها قائلًا بخفوتٍ ماكِر: ”هيّا يا عروسي لنرتدي الخواتم بسرعةٍ كي لا نتأخر على العُرس فتتأخرين على العروس“
ثم تنحنح قائلًا بصوتٍ عالٍ: ”أستأذنكَ يا عمِّي في اصطحاب الآنسة ألاء معي لحفل الزفاف بعد ارتداء الخواتِم إن شاء الله“
أيُّ زفاف؟“ سأل الوالِدُ فأجاب ياسيف مُبتسمًا: ”زِفافُ صديقي وأخي وِضاء والذي صادف أنه عُرس صديقة الآنسة ألاء؛ عفراء، لذلك اسمح لي من فضلكَ أن نذهب لهناك معًا“ فأجاب الأبُّ قائلًا بهدوء مُبتسم: ”لا مانع عندي إن اصطحبتما طِلال معكما“ أومأ ياسيف مُؤكدًا بينما أطلقت أمَّ طِلال الزغاريد وهي تدلفُ لداخل المَطبخ لتُخضر الشربات.
بعد فترةٍ قصيرة كان والِدها يُلبسهما الخواتم وهي تقفُ مصدومةَ مما يدور حولها كأنها دميةٌ خشبية يُحرِّكونها على المسرح!
كادت تعترضُ وتوبخ ذاك شبيه داغر بقوّةٍ لولا إخراجِه لخاتم ذهبي لطيف تعلوه جوهرةٌ رائعة كما حلُمت دومًا..
يا إلهي هذا الشخص يصنعُ من نفسه فارِس أحلامٍ لها!
شردت فيه تُطالِعه بأنفاسٍ مخطوفة وهو يقتربُ منها لتقاطعه قائلةً أثناء مُحاولتها التمسك بالقليل المُتبقي من عقلها: ”لا يُمكِنُكَ وضعُ خاتِمكَ في بُنصري“ عقد حاجبيه مُستغربًا فتابعت هي قائلة بخجلٍ شديد وتوترٍ أشد: ”لا يُمكنُكَ لمس يدي لأنَّكَ مُحرَّمٌ عليّ، اجعل أبي يضعه لنا“
وافق الأبُّ قائلًا براحةٍ شديدة وفَخرٍ موجه لابنته التي أحسن تربيتها، بالطبع كان سيعترضُ حالًا على لمس ياسيف لها، لكنها سبقته هي معترضة فزادت من فخرِه بها.
”هذا صحيحٌ يا دكتور ياسيف؛ لا يُمكِنُكَ لمسُ يد ابنتي قبل عقد القرآن“
أومأ ياسيف مُبتسمًا بفخرٍ لأنه وجدَ فتاةً بأخلاقٍ حميدة أخيرًا كما تمنى وجلس على الاريكةِ التي أشار طِلال عليها فجلست ألاء جواره تاركةً بينهما مسافةٌ جيدة والأبُّ أمامهما يضعُ الخواتِم في كفيهما وعيناه تدمعُ من الفرحة.
عانِقته لؤلؤة بقوةٍ وهي تبكي على كتفه، شاركتهما الأمُّ ذاك العِناق الحار فابتسم ياسيف بحنينٍ لِوالِديه اللذان أحبهما حبًا جمّا لكنه فقدهما منذُ سنواتٍ عديدة..
أما طِلال فلاحظ ابتسامةِ الشجن التي فرَّت من عين ياسيف ليتقدم منه مُحتضنًا إياه قائلًا: ”مُباركٌ لكَ يا دكتور صِرتَ واحدًا منّا الآن“
احتضنه ياسيف مُبتسمًا بحبٍ أُخوي ثم رمق لؤلؤة مُجددًا بنظراتٍ خبيثة وهو يتخيلها تُهديه عناقًا حارًا كهذا يومًا ما بدل والِدها!
وعند هذا الخاطِر زادت ابتسامته وهو ينظرُ لخاتم خطبته يُزينُ كف يده قائلًا لنفسه بفخر يتراقصُ في عينه: ”أخيرًا خطبت“.
❀•❀•❀
هيّا يا حبيبتي سنتأخر
قال أيهم لوالِدته وهو يُساعِدُها في لفِّ حجابها بأناقةٍ فاقتربت ريتاج منه بغيرةٍ قائلة: ”وأنا أيضًا يا أوما، أضبط لي حجابي“
ضحك أيهم وضحكت والِدته التي أزاحت يديه عنها قائلةً بحنقٍ مُصطنع: ”ابتعد عنِّي يا ولد وأذهب لتلك الغيّورة الحاقدة“ ضحك أيهم باتساعٍ بينما تمخترت ريتاج وهي تُخرج لها لسانها قائلة: ”ليست غيرة وإنما دلال فأوما يُحبُّني أكثر شخصٍ في الدنيا بأكملِها“ بعدها نظرت لأيهم بعيون القطةٍ الودودة وهي تسأله ببراءةٍ مِصطنعة: ”أليس كذلكَ يا أوما؟“
أومأ أيهم مُقهقهًا وهو يهتفُ مُصدقًا باصطناع: ”بلى أفعل يا قلبَ أوما
انتهى رجلُ الأعمال الشهير أيهم البُحتري من ضبط الحجاب لسيدَتيه الجميلتين ثم رافقهما لسيارته وكلتاهما يُعانِقان يده، ركض ريتاج وجلس في الخلف أولًا، ابتسمت والِدته بحبٍ وهي تجلسُ جوار أيهم في المُقدمةِ، تعلمُ مِقدار حب ريتاج لأيهم وغَيرته عليها ومع ذلك فهي تُدرِكُ جيدًا حبها لها واحترامها الرائعُ لها، تشاغلت ريتاج في هاتِفها فنظرت أم أيهم من النافذةِ بشرودٍ وابتسامةٍ حزينة وهي تدعوا لهما داخلها بالسعادةِ والسكينة.
جلس أيهم جوار والدته مُبتسمًا بسعادة ثم انطلق بسيارته نحو زفاف وِضاء الذي أصرَّ والِديه على أن يكون في قاعةٍ شهيرة في أوتيلٍ باهظ يطلُّ على البحر مُباشرةً وكأنه زواجه الأول، لكن العروس رفضت رفضًا قاطعًا ارتداء فستان زفاف وفضلت ارتداء فستانًا بسيطًا أبيضًا من الحرير والشيفون وفوقه حجابٌ طويل ونقابٌ جميل يعلوهما طوقٌ من الورد اللطيف، كانت خجولة، هادِئة وتبتسمُ بشجن.. لا تجدُ في العرس الضخم من طرفها سوى بعضُ الجارات والأقارِبُ البعيدة وأختيها اللتان حضرتا كضيفتانِ غريبتان يجلسان بهدوءٍ مع أولادِهما على طاولةٍ بعيدة، ملابسهما مُكلفة وطريقةُ حديثهما تمتازُ بعنجهيَّةٍ لا مثيل لها، بينما الغريبتان عنها لؤلؤة وأُميمة لم يتركاها لحظة واحِدة وكأنَّهما أختاها اللتان أرسلهما الله لها ليكون لها نعم الأختُّ والسند، دمعت عيناها وهي ترى لؤلؤة جوارها تُهندِمُ لها فستانها وتتأكد كل لحظةٍ أنها بأبهى صورةٍ!
ثم تنظرُ لأُميمة التي احتلت مكانة الأم بجدارةٍ تُرحبُ بالمَدعوّات وتستقبلُ تهانِيهم الحارَة وتُعرِّفُ عفراء عليهم، احتضنت نفسها برفقٍ وعيناها تدمع لتشعر فجأة بشخصٍ يُمسِكُ كفيها بحنانٍ رهيب تسلل لأوصالها وأثار رعشةً غريبة في سائر جسدها جعلتها تنتفض!
لم يقترب منها رجلٌ هكذا من قبل، لم يضمَّ رجلٌ بكفيه بكل هذا الدفِء من قبل..
طالعته باندهاشٍ ليهمس لها بثقةٍ كبيرة ودعمٍ أكبر أثناء مُطالعته لعينيها بدفءٍ لا مثيل له بعدما لمس وحدتها وشعر بشرودها الحزين وشاهد برود أختيها معها وعدم اكتراثهما لها: ”أنتِ الآن زوجتي، حرم السفير وِضاء الجندي فلا تكترثِ لأي أحد، أضمنُ لكِ أن الجميع غدًا سيسعون جاهدين مُتوددين لكِ“
زاد ذهولها وهي تسأله بشكٍ بعدما فضَّلت تغير مسار الحديث عن تجاهل عائلتها لها فهذا يؤلمها بشدّة، لا تُريده أن يظنَّها بدونه مُشرَّدة لن تجدَ العائلةَ والسند فيستغلها رغم كونها حقًا كذلك!
أأنتَ سفير؟“ هذا حقًا مُضحك!
لقد تزوجت من شخصٍ لا تعلم عن مهنته أي شيءٍ سوى أنه يعملُ بالخارِج..
أومأ بثقةٍ وهو يقول بفخر: ”أنا أُمَثِّلُ وَطني في أحدى السفارات الأوروبية“
زاد اتساعُ عينيها وهي تنظرُ أمامها هامسةً بارتباك: ”هذا مهيب“
ابتسم بفخرٍ فهذا حُلمه الذي حققه بعدما خالف صديقيه ياسيف وأيهم في المدرسة واختار القسم الأدبي بدلًا من العلمي كما اختار كلاهما فترتب على هذا اكتساحه للمركز الأول على مستوى الجمهورية ثم دلوفه لكلية أحلامه.
كانت مُرتبكة، كفها الصغيرُ الناعِمُ في كفِّه يرتعش.. وكأنها لم تُصافح رجُلًا من قبل بل لم تُلامس كف رجُلٍ من قبل، طالعها بحنانٍ تفجَّر فَجأةً عندما صرَّح المَأذون بأنها صارت زوجته وحلاله، ابتسم بشجنٍ يُفكِّرُ كم تبدو بريئةً جدًا على عكس زوجته السابقة والتي اخفت يومها حقيقتها خلف مساحيق التجميل المُكلّفة وتمثيلها المُصطنعُ أمام الصحافةِ والضيوف بحُجّةِ أنها يجبُ أن تليق بمركز زوجةِ السفير..
أمَّا عفراء فلم تعلم مُسبقًا بكونه سفير وهذا أمرٌ أخبرته إياه أُميمة وهي تُعلِمه أن عفراء لا تعرفُ عنه شيئًا فطلب منها الإجابة عن أي شيءٍ تُريده إن سألت، وللأسف هي لم تسأل!
لكن هذا لا ينفي أن أُميمة تطوعت وأخبرتها الكثير عنه، ربما كان قلقًا قليلًا مِن أن تكون كسابقتها بلا شرفٍ قررت بيع نفسها له لأجل وظيفته لكن هناك شيءٌ داخله أخبره أن عفراء لن تفعل، أنها ملاكٌ طاهر هبط من السماء لأجله خاصةً مع ذاك الفستانُ البسيطُ الأبيض والذي يتطايرُ حولها بلطافةٍ يجعله يودُّ لو..
ها هو بدأ في التفكير بانحرافٍ منذ ليلته الأولى وهي على اسمه!
تنحنح يُجلي صوته وهو يَصبُّ اهتمامه كاملًا على ضُيوفه خاصًا أيهم الذي دلف مع عائلته للتو.
❀•❀•❀
”أحم، أحم“
تنحنح ياسيف للمرةِ السابعة فهتف أيهم بحنقٍ أثناء لكزه بسخط: ”ما بكَ ياسيف لقد أصبتني بالصداع ماذا هناك!“
فهتف ياسيف مُتذمرًا بنُزق: ”ألا ترى!“
ثم بسط ياسيف كفه أمام عيني أيهم ووِضاء الذي هتف باستنكار: ”لم نفهم ما هذا!
أزادت كثافةُ شُعيرات يدِكَ أم ماذا؟“
”اللعنة“ لعن ياسيف وهو يُحرِّكُ خاتمه بضيقٍ أمام عينيهما فاتسعت عينُ أيهم قائلًا باستنكار: ”يا إلهي هل خطبت!“
بينما هتف وِضاء مصدومًا: ”ماذا!“
لينفش ياسيف ريشه بفخرٍ كالطاووس المُختال قائلًا: ”كسبتُ التحدي يا رِفاق وصِرتُ خاطبًا وسأكون مُتزوجًا قريبًا أيضًا“
”مِن مَن؟!“ سأل كلاهما بفضولٍ فهمس ياسيف بفخرٍ: ”نفسُ فتاةِ أمس“
ثم تابع بصرامةٍ: ”وقبل أن تعترضا لقد كان سوء تفاهم وحُلَّ الحمدُ لله“
بعدها ألتفت لوِضاء قائلًا بثقة: ”كما أنها صديقةُ زوجتكَ وأُميمة أيضًا يا وِضاء لذا لا أظنُّ أن في أخلاقها ما يُشين
صمت كلاهما للحظاتٍ يُحاوِلا استيعاب ما يقوله ياسيف لقطع أيهم الصمت بينهما قائلًا بنفاذ صبر: ”ياسيف قصَّ علينا ما حدث بالتفصيل“
وبالفعل أخبرهما بكل ما حدث مُختتمًا حديثه يهتفُ بحماسٍ: ”وعندما رافقتُكَ صباحًا حيثُ منزل العروس لآخذ أنا مُقتنياتها المُتبقية وأُرسِلُها للفيلا بينما تصطحِبُ أنتَ عروسكَ لمركز التجميل كان نفسَ المنزل الذي خرجت منه أمس فخمَّنتُ أنها صديقةُ العروس“
ضحكا بقوّةٍ ثم ضمَّاه بحرارةٍ قائلين: ”مُباركٌ لكَ صاحبي“
بينما همس أيهم بحبٍ مُشاكسًا ياسيف: ”ها قد تم تدبيسُ العازِب العانس بنجاحٍ أخيرًا“
ثم همس وضاء بسعادةٍ وهو يلكزُ كلاهما: ”العقدُة الثانيةُ حلَّت والحمدُ لله، العقبةُ للثالثة!“
طالت المُشاكساتُ بينهما لينظر وِضاء بعد فترةٍ قصيرة لعروسه الخجولة التي تقفُ بين الفتيات المُهلِّلات برقةٍ شديدة لدرجةِ أنها قد تُكسرُ لو لمستها إحداهنَّ، شعر أنها أُرهقت وتورَّمت قدماها بسبب طول وقفتها بهذا الكعب العالي الذي ترتديه فتقدم منها قائلًا بخفوتٍ لصديقيه اللذان تركهما يتشاكسان خلفه: ”كفاكما عبثًا هذا عُرسي، سأذهبُ لعروسي“
وصل إليها فتنحنح بحرجٍ وهو يُمسك بكفها الأيمنُ قائلًا: ”أعتذرُ يا آنسات؛ حان وقتُ تناوِل العشاء لذلك سأنفردُ بالعروس قليلًا
دلف بها للمطعم المُرافق للقاعة، المُخصص للعروسين فقط ثم أغلق الباب خلفه قائلًا لها بابتسامةٍ هادِئة وَقورة: ”خذي راحتكِوالمَقصدُ منه كان أن انزعي عنكِ هذا النقاب لأرى وجهكِ الذي يقتلني الفضول لاستكشف ثناياه وملامحه!
بالطبع ليسَ لشيءٍ سوى ليُثبتَ لنفسه أنَّها عادِية ككل الفتياتِ ولا شيء يُميُّزها ليشعُرَ نحوها بتلك المشاعر التملُّكية، خاصةً منذُ عقد قرآنه عليها..
جلست بهدوءٍ على الكرسي وهي تُتمتِمُ بحياءٍ وخجل: ”شكرًا“
كانت قد تعبت بالفعل مِن كل ذاك الصخب الذي أُلقت فيه منذُ الصباح الباكِر فانهارت على الكرسي خلفها وهي تتأوه بألم، جلس أمامها سائلًا بخفوتٍ: ”ماذا أطلبُ لكِ؟“
فقالت بخفوتٍ مُماثل وهي تنظرُ للطاوِلةِ بارتباكٍ: ”كوب عصيرٍ لا أكثر“
فسأل باهتمامٍ: ”ألن تأكلي؟“
فنفت بخفوتٍ قائلة: ”النقاب أبيض؛ لا استطيع الأكل به“
همس بلهفةٍ لم يقصد أن يجعلها تطغى على نبرةِ صوته: ”يُمكِنُكِ خلعه فلا كاميرات هنا ولن يدلفَ أحدٌ إلّا بإذني
ألتهبت وجنتيها وهي تقول باستحياء: ”النقابُ مثبتٌ بالكثير من الدبابيس لذلك لا بأس سنأكلُ في ما بعد؛ كما أنني لستُ جائعة“
أومأ راضخًا وهو يُصبِّرُ نفسه هامسًا بداخله: ”لا بأس ستخلعه فور وصولنا للفيلا“
تناول مثلها كوب عصيرٍ من الفراوِلةِ الطازجة ثم جلسا قليلًا معًا ليرتاحا وبعد فترةٍ خرجا للضيوف مجددًا وجلسا معًا في المكان المُخصَّصِ لهما وبعد ساعاتٍ قليلة كانا في الطريق لجناحهما في فيلته الخاصة والتي كانت بالنسبةِ لعفراء ساحرة لم ترى بجمالها، حمامُ سباحةٍ واسِع يتوسطُ حديقةً عِملاقة مليئة بالورود الجميلة والأنوارُ الفاتحةِ اللطيفة التي تمنحه دفئًا لا مثيل له..
وأخيرًا منزلٌ كبيرٌ فاخِر يتوسطُ الحديقة الرائعة، كان سعيدًا لأنها فضلت المكوث في جِناحٍ خاص في الطابق المزدوج لوالِديه بدلًا البقاء في الطابق العلوي والذي لا يستخدمانه كثيرًا إلّا في فصل الصيف لاحتوائه على تراسٍ كبير مُعرَّى السطح ومحفوفٌ بالكثير من الورود الصيفية المُعطِّرة لنسمات الهواء في موسمي الصيف والربيع.
لمس لطافتها مع والِديه وحبها لهما فارتاح قلبه قليلًا مُحدثًا نفسه أنه ستكون أنيسةً لهما على عكس زوجته السابقة التي أصرَّت أن يكون لها فيلتُها المُنفصلة ولن تزور والِديه إلّا بضع مرّاتٍ في السنة لأنها غير مكترثةٍ بزيارتهم.
ودَّعا الجميع معًا وصعدا لجناحهما الذي كان دافِئًا ورائعًا، يغلبُ عليه اللونُ السكريُّ النقي ويمتزج معه النبيذي القاتِم الذي يتداخلُ فيه القليلُ من البني الشاحِب قاني، طالعها بمودّةٍ وهو يستشعِرُ دهشتها وتفحُصِّها المُنبهرُ بالجناح البسيط فسألها بخفوتٍ: ”أعجبكِ؟“
لتومِئ بشدَّةٍ وهي تنظرُ له قائلةً بعيونٍ مُبتسمة: ”جميلٌ جدًا، أجملُ مما تخيّلتقارنها مُجددًا بزوجته السابقة التي نظرت لفيلتهم بلا اكتراثٍ قائلة: ”زوج هنادي أحضر لها واحدةً أضخم والأثاثُ كان مِن أوروبّا وأميركا
بينما تذكرت هي الفيلة التي أحضرها لها زوجها السابق وكم كانت قذرة تفوح منها رائحةُ الخمر رغم وجود الكثير مِن الخادِمات المُشرفاتِ على نظافة الفيلا وترتيبها، كانت بارِدة جافة مُظلمة مليئة باللوحات التي تُثيرُ اشمِئزازها وخوفها وحين طلبت منه مرّة أن تبدلهم بأخرى أكثر لطافةٍ سخر منها وبدَأ في مُعايرتها بثمن تلك اللوحات الباهظة وأنها بلا ذوق ولا تعلمُ شيئًا عن الفن!
سعيدٌ أنها أعجبتكِ“ قال زافِرًا براحةِ فابتسمت بخفوتٍ والتاع هو لرؤية تلك الابتسامة المَحجوبةَ عنه ليقول بعد فترةٍ مُتنهدًا بخفوت: ”الغرفةُ الرئيسية ستكون لكِ، أفعلي بها ما تشائين وإذا أردتِ تغيير أي شيءٍ فيها أعلميني فورًا، أعلمُ أنكِ لم تختاري أثاث بيتكِ لكنّي حاولتُ قدر استطاعتي جعله مُرِيحًا لكِ“
شكرته بخفوتٍ فابتسم مُتابعًا: ”سأنامُ في غرفةِ الأطفال حتى مَوعدُ سفري وبالطبع أنا عِند وعدي لكِ؛ سيظلُّ زواجنا صوريًا بحكم الاتفاق لكننا سنتظاهر قليلًا أمام والِداي كي لا يَشُكّانِ في شيء، لا تقلقي لن أُطيل المُكوث هُنا فياسيف وجد عروسًا له أخيرًا وزواجه سيكون خلال شهرٍ على أقصى تقدير“
أومأت مُجددًا ورأسُها ما زال مُنخفضًا ليُتابع للمرةِ الثانية قائلًا: ”بدلي ثيابكِ ثم تعالي لنأكل معًا“
قبل أن يتبع كلماته قائلًا بسرعةٍ وشيءٍ من التوتر: ”إذا أردتِ بالطبع“
لكنها رفعت عينيها إليه قائلة بابتسامةٍ خجولة: ”حسنًا سأُبدِّلُ ثيابي وأعود“ ثم سارت نحو غرفتها فاتسعت ابتسامته بحماسٍ لأنه أخيرًا سيري وجهها!
❀•❀•❀
كُفِّي عن البُكاء لا تحزني“ قالها بارتباكٍ فهو لا يعرفُ الطريقةَ المُثلى لتهدِئتها لكنها زادت في البكاء قائلة: ”لقد كانت جميلةً اليوم جدًا، سأشتاقُ صحبتها كثيرًا لقد احببتُها بصدق“ طالعها بحيرةٍ وهو لا يدري ما عليه فعله فحاول تهدئتها مرةً أخرى قائلًا: ”إن هدأتي وابتسمتِ سأُعطيكِ هديةَ خِطبتنا
صمتت وطالعته من بين جفونها المُحمرَّة وهي تسألُ بحرجٍ وخفوت: ”أيُّ هَديّةٍ؟“
فتحمس قائلًا وهو يشعرُ أن هذا الأمر قد ساعد في تهدئتها: ”اشتريتُ لكِ هدية عندما كنّا انتظاركِ أنتِ والعروس خارِج مركز التجميل“
لتقول بلهفةٍ وعيناها تلمعُ بشدّةٍ: ”أين هي؟“
”في السيارة“ قالها بسرعةٍ وهو يتجه نحو السيارةِ التي كان بها طِلال يَقرَأُ أحد الكتب العلمية الالكترونية على جواله مُتخلفًا عن حضور الحفل هامسًا بلا اكتراثٍ أنه لا يُحبُّ صخبَ الحفلات ويُفضِلُ قراءة شيءٍ مُفيد يُعينه على كِتابةِ رِسالةِ الماجِستير التي يحضِّرُ لها منذ تخرجه..
وهذا قد أعجب ياسيف كثيرًا فأخبره بفخرٍ أنه سيُساعِده إن اختار شيئًا عن الكيمياء الحيوية وربطها بوظائف الإنسان لأنه تعمق كثيرًا في هذا المَجال مِن قبل، تقبل طِلال عرضه بابتسامةٍ واسِعة وهو يهتفُ بلهفةٍ: ”سأكون غايةً في السعادةِ بهذا يا دكتور ياسيف
احضر ياسيف الهدية من حقيبةَ السيارة والتي كانت عبارة عن حقيبة بلاستيكية عليها شعار تعرفه جيدًا فتجمدت مكانها بذهولٍ ليُعطيها الكيس قائلًا بابتسامةٍ عريضة: ”تفضلي“
تلعثمت وهي تهمسُ بصدمةٍ وقد اشتعلت وجنتيها خجلًا: ”أ.. أهذه روايات؟“
أومَأ بسعادةٍ لتهتف باستنكارٍ: ”كيف علمت أنّي أحبُّ الروايات؟“
ابتسم يقول بنبرةٍ جادة وهو يشرحُ لها قائلًا: ”بما أنكِ صديقةُ أُميمة ولا تُماثلينها عمرًا أو يربطكِ بها أي علاقة قرابةٍ أو زمالة في أي مكانٍ إذًا أنتِ صديقةُ رواياتٍ.. افترضتُ هذا لكثرةِ صداقات أميمة التي كانت الرواياتُ أساسًا لها، فكرتُ واستنتجتُ أنكِ بنسبةِ تسعون بالمِئة عاشِقة للروايات مثلها لذا أحضرتُ لكِ بضع الرواياتٍ المُختلفة التي قرَأتُ بعضها وأعجبني
فغرت فاها بذهولٍ وهي تأخذُ الكيس منه هامسةً بحماس: ”أنتَ تقرأُ روايات؟“
فأومأ بجديةٍ قائلًا: ”بالطبع فهي مُفيدةٌ جدًا“
طالعته بهُيامٍ وقد تناثرت حول صورته في عينيها قلوبٌ كثيرة، هذا الشخصُ أروع مِن داغر!
إن كانت حانقة على تلك الخِطبة السريعة التي غافلتها بحماقةٍ فلم تستطع التحضر لها كما يليق إلا أنها الآن باتت موافقةٌ وتبصمُ بالعشرةِ على هذا..
دلفت للسيارةِ ومازالت تبتسمُ باتساعٍ وهي تحتضنُ حقيبةَ الروايات فانتبه لها أخاها الذي كان مُتكئًا على ظهره ليهمس مُتعجبًا من حال أخته الذي خرجت من السيارةِ بحالٍ ودلفت بحالٍ ثالث تمامًا!
”ما بكِ؟“
سألها بخفوتٍ فطالعته بابتسامةٍ مُتسعة فشلت بجدارةٍ في اخفائها قائلة: ”لا شيء“
بينما رمقها طِلال بريبةٍ وهو يعودُ ليجلس بأريحيةٍ في مقعده مُستندًا بظهره للخلف.
أما ياسيف فدلف للسيارةِ بعد أن أغلق الحقيبةَ ورقص بحماقةٍ وانتشاءٍ لأن هديته أعجبتها، جلس جوارها على مقعده خلف المقود بوقارٍ مُصطَنع فنظرت لؤلؤة بتوترٍ من نافذةِ السيارة وهي مازالت تبتسمُ بخجلٍ، لحظاتٍ وفتحت الكيس بتروٍّ فقد انفجر فضولها وما عادت تستطيعُ الانتظار لتُطالِع بشغفٍ عناوين الروايات التي أحضرتها تلك الكتلة المُشتعلة من الوسامةِ لأجلها، ابتسم ياسيف داخله برضا بينما هي زالت ابتسامتها وهتفت ببعضِ البؤس الذي وَأد فرحتها: ”رواياتٍ تاريخية وعلمية وفلسفية!“
أومأ بفخرٍ قائلًا: ”أهناكَ أجمل من التعلُّمِ بواسطةِ الروايات!“ بينما هي عبست تقول بحنق: ”ظننتُها رومانسية“
فقال بجديةٍ وهو يُرمقها من خلف عويناته الطبية: ”إحداهنَّ تحتوي على زوجٍ وزوجته يُقاتِلان المُستعمرة الأجنبية التي جاءت لتَحتل وطنهم فيستشهد الزوج في الجيش المُدافِع عن الوطن وتقفُ هي بشموخ سيدةٍ عربية تتبعُ نهج زوجها وتربي أولادها ليكونوا رجالًا أشداء يُقاتِلون في الجيش مُدافِعين عن وَطنهم الحبيب“
”يا للبؤس!“ قالتها بعينين دامعتينِ فتابع باهتمامٍ يُقنعها: ”ليست بهذا البؤس، النهايةُ جيدة فالوطن سينتصرُ قبل استشهاد الزوجة البطلة المُناضِلة
فرَّت الدموع من عيناها وبدأت في البُكاء قائلة بمشاعِر مُرهفة تتأثرُ سريعًا بكل ما يُحكى لها أو تقرَأه: ”ستموت أيضًا!“
توتر من بُكائها فابتلع ريقه بارتباكٍ قائلًا: ”أنا آسف لم أقصد إحزانكِ، أهدأي مِن فضلك“
لكنها زادت في البُكاء قائلة: ”لقد حرَقت لي الرواية سامحكَ الله“
زاد ارتباكه أثناء مُحاولته لإصلاح خطئه هامسًا: ”هُناك أشياءٌ غيرُ الحبكةِ مُفيدةٌ ومُهم، كالسرد مثلًا فهذا الكاتِبُ لغته قويّةٌ جدًا ولأنه باحِثٌ في التارِيخ فمعلوماته دقيقة مُختارةٌ بعناية والروايةُ دسمة بالمواعظ والمشاعر إلى جانب غِناها بالتفاصيل التاريخية الجيدة“
صمتت وهي تُطالِعه بِخفوتٍ، تحاول فهم هذا الكائن الذي يُحاول تهدِئتها ومُراضَاتِها ولم يمرَّ على لقائهما الأول أكثر مِن أربعٍ وعشرون ساعة!
شخصٌ صار فجأة خطيبها أي في حُكم الواعِد بالزواج..
وبعد فترةٍ قليلة سيكون زوجها!
وللكلمةِ وطءٌ كبيرٌ على قلبها، لقد تمنت دومًا القَفز للمُستقبلِ ورؤيةِ ذاك الزوج الذي سيكون نصيبها وشريكها في الحياة..
لكن خوفها كان دائمًا حاجزًا يمنعها من المُوافقةِ على أي أحد، لطالما خافت أن يكون الزواج بائسًا قاتلًا للحبِّ ومُسببًا للمشاكل والخناقات والقرف ومليئًا بالمسؤولية والأطفال المُزعجة كما يُصَرِّحُ الأزواج دائمًا!
ارتجفت قليلًا وقد شردت بعيدًا ولم تنتبه سوى على صوت ياسيف المُهتم يهمسُ لها بارتباكٍ: ”لؤلؤة، هل تسمعينني؟“
يَنطِقُ الاسم التي تُدَلَّلُ به بطريقةٍ رائعة، هذا ما فكرت فيه وهي تنظرُ إليه بحيرةٍ، أجابت بخجلٍ بعدما خفضت وجهها للروايات بين يديها وتحتضنهما برفق فعلى الرغم من كون ذوقه في ما يَقرَأُ مُختلفًا عنها إلّا أنه اهتم بما تحبه وحاول شراء ما يُسعدها وهذا في حد ذاته تُقدِّره ويجعلها ممتنَّةٌ له بشدة: ”نعم اسمعك“
ابتلع ريقه بخفوتٍ وهو يسألُها بحذر: ”هل ما زلتِ حزينة“
نفت برأسها وهي تحتضُ الكتب بحياءٍ ثم تهمسُ بخفوتٍ هادِئ بعدما جففت وجنتيها بظهر كفها وتخضبت وجنتيها بحُمرةٍ قانية: ”لا بل أحببتُ الهديةَ جدًا، شكرًا لكَ
ابتسم باتساعٍ وهو يهمسُ بأعجابٍ لتلك الوردية الجميلة الجالسة جواره والتي ستكون زوجته وحبيبته بعد فترةٍ قصيرةٍ جدًا: ”لا شكر على واجِب
كان طِلال يدعي التركيز مع هاتفه لكنه في الحقيقة كان يُراقِب كل شيءٍ بحذرٍ وغيرةٍ على أخته، مُحاولات استرضاء ياسيف للؤلؤة واهتمامه بإحضار هديةٍ لها تنالُ اعجابها خاصةً عندما رافقه لدكان الكتب الموجود على ناصية الشارع والذي صادف قربه من سنتر التجميل فراه يبحثُ بين كل الرفوف ويختارُ الكتب باهتمامٍ وعناية، حينها ساعده قائلًا بابتسامةٍ واسعة: ”ألاء تحبُّ الروايات لا الكتب“
فسأله ياسيف باندهاشٍ: ”وما الفرق المُهمُّ أنها تحبُّ القراءة، خاصةً أن الكتب أكثرُ إفادةً من الروايات“
أومأ طِلال مُصدقًا على حديثه ورغم ذلك أجاب بأسف: ”لكن أختي تافهة لا تبحثُ عن الإفادةِ إنما القصص العاطفية اللزجة“
حينها توقف ياسيف يُفكِّرُ للحظاتٍ ثم همس بجديةٍ: ”لتكن رواياتٍ إذًا“
وبعدها اختار لها عدّةَ رواياتٍ لا تخلو مِن الإفادةِ قائلًا: ”لنُمسِكَ العصا من المُنتصف إذًا؛ أحضرتُ لها رواياتٍ مُفيدة ستُزيدُها بالمعلومات الدسمة“
حينها رأى جانبًا جديدًا من البروفيسور ياسيف فريد وهو أنه مُتفهمٌ عقلاني يستطيعُ احتواء جنون أخته جيدًا والبحث عن طريقةٍ تُناسِبُ ذوقيهما معًا.
تنهد براحةٍ وعاد يقرَأُ في كتابه بذهنٍ صافي حتى همس ياسيف الذي نسى وجوده قائلًا ببعض الخجل: ”بالمُناسبة تبدين جميلةً في الذهبي، تمامًا كما كنتِ في الوَردي
هنا اُستُحضرت غيرته ليهتف بغضبٍ حاول كتمانه: ”دكتور ياسيف أنا هنا!“
تنحنح ياسيف بخجلٍ شديد فقد نسى وجود طِلال لوهلةٍ ليدعي انشغاله بالطريق قائلًا: ”لا أعلمُ لما الطريقُ مُزدحمٌ اليَوم هكذا؟“
ضحكت لؤلؤة بخفوتٍ وقد زاد اشتعالُ وجنتيها وهي تنظرُ خارج النافذة بارتباكٍ وخجلٍ لتُحدِّثَ نفسها بحماسٍ شديد: ”إن كان الزواج بائسًا سأتزوج وأُنبت به ما زرعته الرواياتُ داخلي“.
❀•❀•❀
”ما اسمُكِ؟“
سألتها ببشاشةٍ فأجابت بخجلٍ شديد وهي تعبثُ في طرف حجابها الطويلُ الفضفاضُ بتوتر: ”غالية“
اسمٌ جميل“ تمتمت السيدة برسميةٍ ثم همست بحنانٍ أُموي: ”هل عمِلتي مِن قبل في وَظِيفةٍ مُماثِلة يا غالية؟“
نفت غالية برأسها وهي تقول بسرعةٍ وتلعثم: ”لم أفعل لكن لا تقلقي تستطيعين الاعتماد عليّ فأنا أُجيدُ الطبخ والتنظيف وسأفعلُ كل شيء“
أومأت السيدة ثم قالت بفضولٍ وهي ترمقها بأعيُن ضيقة: ”ارفعي النقابِ يا غالية، دعيني أرى وجهكِ
أومأت غالية وفعلت ما أمرتها السيدةُ به فشهقت الأخيرةُ قائلة: ”يا إلهي كما توقعت! أنتِ صغيرة“
فأجابت غالية بخجلٍ شديد وهي تقضمُ شفتيها: ”لستُ صغيرة عُمري ثمانيةَ عشرَ عامًا ونصف“
فأجابت السيدةُ بحذر: ”هل اجبركِ والِداكِ على العمل؟“
فنفت باختناقٍ وعيناها تحتقنُ بالدموع قائلة: ”توفى والِداي وعليَّ إعالةُ أختي الصغيرة لذلك أبحثُ عن عمل“
رقَّت السيدةُ لها فقالت بعد فترة بحزم: ”لدنيا غرفة صغيرة بسريرين فوق بعضهما ستعيشين بها، مُبارك لقد حصلتي على الوَظيفة
فاعترضت غالية بأسفٍ قائلة: ”لكن سيدتي أنا..“
وأختكِ ستأتي للعيش معك“
قاطعتها بحسمٍ فاتسعت عينا غالية وطالعتها بذهولٍ قائلة: ”هل أنتِ واثقة سي..“
ناديني مدام صفاء“
أومأت غالية بحياءٍ فتابعت صفاء قائلة بحنانٍ يمتزجُ بحزمٍ لا يليقان إلّا بها: ”من الغد ستبدأين إن شاء الله ولذلك يُفضلُ أن تنتقلي للفيلا اليوم يا غالية فأنا أُحبُّ الانضباط والنظام“
❀•❀•❀
بعد فترةٍ ليست بقليلةٍ أبدًا وسط قاعةٍ بسيطة وصغيرة لعقد القرآن قال الشيخُ جملتُه الشهيرة: ”بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير“
العروسةُ كانت مَصدومة لقد تزوَّجت للمرَّةِ الثانية!
عُقِدَ قرانهما وصارت عروسه رسميًا..
عروسًا لذاك الرجلُ المُبهرُ بكل ما فيه، طلَّته الساحِرة، شهامته، رجولته الخاطِفة، عطره المُسكِر، ملابسه الرسمية الأنيقة، مُعاملته الحازِمة العطوفة وأخيرًا حضوره القويُّ طاغي بطريقةٍ تبعثُ بداخلها الدفيء والطمَأنينة، تسارعت دقّاتُ قلبها بخجلٍ فضغطت على شفتيها وهي تنظرُ أرضًا تتساءلُ إن كان زواجهما سيكون حقيقيًا أم حبرٌ على وَرق!
ورغم استنكارها لفكرةِ الزواج مجددًا بعد ما صارت مُستنزفَةَ المشاعِر لا تقوى على خوض معركةٍ جديدة من معارك الزواج إلّا إنها كانت لا تشعرُ بكُلِّ هذا مع أيهم..
أيهم مُختلف يسلُب أنفاسها بفِعله، كل حركةٍ فيه تنبض بالرجولةِ القاتِلة لقلبها على عكس سِراج الذي لم يُذيقها سوى حلو الكلام فقط!
اقترب أيهم وقبَّل رأسها هامسًا بثقة: ”مُباركٌ لكِ زوجتي“
ذابت بقبلته وكادت تتعثر وتسقط أرضًا فجذبها بحزمٍ نحوه ليدفنها بين أحضانِه ويُحيطها بزراعه سائلًا بحنانٍ: ”ما بكِ؟“
أحمر وجهُها أكثر وهي تُعاوِدُ عضَّ طرف شفتيها السفلى بخجلٍ شديد لتهتف بعد لحظةٍ برقةٍ خافته لتُغيَّر ضفَّةَ الحديث ورغمًا عنها خرجت نبرتُها آسفة يَشوبها الكثيرُ مِن الحزن: ”تمنيتُ لو كان أدهم معنا اليَوم“ ثم رفعت عينيها إليه قائلة: ”وعدته بمُساعدته في الزواج من تاج لكنِّي كسرتُ الوَعد
تنهد أيهم بحزنٍ وهو يُشدِّدُ مِن احتضانه لها قائلًا بأسف: ”تعلمين أنه لن يتحمل رؤية تاج مع خيّال زوجها“
خفضت رودين رأسها بحزن قائلة والدموعُ تتلألأ في عينيها: ”يَشهدُ ربِّي أنِّي حاولتُ الجَمع بينهما بكل ما أملُك لكنني فشلت، أنا آسفةٌ بصدق لقد خذلته“
ربَّت أيهم على ظهرها بحنانٍ يُحاوِل تهدِئتها كأنها ابنته الصغيرةَ قائلًا: ”لا ذنب لكِ حبيبتي، نصيبُ تاج كان مع خيّال لذلك اختارته وأدهم لم يكن له نصيبٌ معها، عليه إدراكُ هذا يومًا ما“
رغم أن انكسار أخيه يؤلمه ويُمزِّقه لكن لا حيلةَ بيده، لا يستطيعُ فعل شيءٍ بعدما اختارت تاج خيّال واصرت على اتمام زواجها به!
أخيه الذي حكم على نفسه بالإعدام فمات قلبه وصار جسدًا جامدًا لا روح فيه ولا حياة، آلةَ عملٍ مُتنقلة من دولةٍ لأخرى، لا يعود للوطن إلّا لمامًا.
أغلق عينيه ببؤسٍ وهو يُتمتمُ بداخلهِ: ”يا ربِّي دبِّر لنا الأمرَ كله فنحنُ لا نُحسِنُ التدبير“
استندت رودين براسها على صدره وهي ترمقُ تاج وخيّال المُتناغمين معًا بأسفٍ وألم، أما أيهم فشعرَ بالسَكينةِ تزوره أخيرًا منذُ سنواتٍ طويلة ليبتسم بشرودٍ وهو يُزيدُ مِن احتضانه لها شاعرًا بشيءٍ مِن التَمَلُّكِ نحوها، التَمَلُّكِ لشيءٍ يخصَّه وينتمي له.
توتر قليلًا شاعرًا ببعض الخوف.. زوجته السابقة خنقها ذاك التمَلُّكَ فَفَرَّت منه وطلبت الطلاق!
هل ستكرهُ رودين تملكه أيضًا وتنفر منه؟ تملكه هذا ما هو إلّا حبُّ كبير يكنه لهم ومَنزلةٌ عظيمة يضعُ بها نِساءه فيستحيلُ على أحدٍ الوصول إليهنَّ أو الاقتراب منهنَّ لأنهنَّ ليسنَّ للعرض وإنما لهما حق الصون والعفاف، لطالما كانت نسائه تاج رأسه الذي يفتخر بهنَّ دائمًا ويستوصي بهنَّ حبًا وغزلًا ودلالًا واهتمامًا فلا يحتجنَّ لغيره أبدًا ويكتفينَ به ما عدا زوجته السابقة التي استحالت الحياةُ بينهما.
تنهد مُجددًا وهو يدعوا الله أن يُلهمه ويُرشده للطريق الصحيح الذي سيستطيعُ به اسعادهنَّ وحمايتهنَّ مِن كل مكروهٍ وسوء.
عم الهدوء للحظات قبل أن تقطعه تلك التي دخلت بزوبعةٍ شديدة وهي تنفخ وجنتيها وتجِزُّ على أسنانها قائلةً بغضبٍ عارِم: ”تخونُني يا أوما!“
فما كان منه إلّا أن ابتعد بهدوءٍ عن رودين وهو يهتِفُ بصدمةٍ فاقت كل توقُّعاته: ”ريتاج!“
❀•❀•❀

شكرًا جدًا على تعليقاتكم اللطيفة ربنا يسعدكم زي ما أسعدتوني بجد 😍❤❤
الفصول هتنزل على طول بإذن الله بس شوية تشجيع كدا علشان الحماس 🥺💛

حابة أشكر كل قارِئ أو قارِئة وضع الرواية في قائمة الروايات بتاعته بجد ببقى سعيدة جدًا فوق ما تتخيلوا، شكرًا لوجودكم اللطيف في حياتي 🙈❤
متنسوش التصويت للرواية والكومنت علشان نوصل الرواية للـ 1K قريب 😍🔥

منى علاء شاهين
الجيش الأزرق Blue army 🌍💙

استوصوا بالحبيب غزلًا "للكاتبة منى علاء شاهين"حيث تعيش القصص. اكتشف الآن