. .
يسمّونه تجاوُز بينما ما حَدث
أنكَ خلعتَ روحكَ وتركتها خلفكَ
و بقيتَ عاريًا من العاطِفة و الجدوىٰ .. .
.
.
قد لا يكُون لأيّ إنسانٍ فرصةً يزُور فيها المِشرحة إلًّا عندما يمُوتُ في لُبسٍ أو غُموض .. فالتّحقيق في وعن سبب موتِه عندها يتطلّبُ التّشريح والكشفَ عن المُسبّباتِ الّتي أودَت بحَيـاته!
لكن .. لظُروفٍ معيًنة هناكَ من يَزُور المِشرحة بشكلٍ متكرّر، وقبل يوم موته بكثيرٍ جدّا .. ولا يكُون بالميّت أبداً يكُون حيّاً، يسمعُ ويرىٰ ويشعرُ ويتألّم .. ولأسبابٍ مّا يُوضعُ تحت ذلك الضّوء السّاطع والقاتلِ جدّا ويُشرّح .. يُشرّحُ كثيراً حتىٰ لا يبقىٰ منه مكانٌ واحدٌ سليمٌ لم يتمّ نبشُه، قطعهُ، أو تحلِيلُه .. وفي أحيانٍ أخرىٰ بترهُ تماماً!
وهذا كلّه وهو حيّ!
ومن دون تخديرٍ يُؤخذُ إلىٰ المِشرحة، وبكلّ مافي هذا العالمِ من قسوةٍ يُستباحُ .. يُستباحُ جدّا ولا يعودُ يملكُ نفسه!. .
إلىٰ المشرَحة ساقَتني الخُطُوب، وجرّني إليها كلّ الّذين بذلتُ فيهِم مابمقدُور الإنسان من حبّ ..
نحوهَـا ذهبتُ مراراً وتِكـراراً، دونمَـا أيّة شفقَـة أو رَحمة ... .
وأنا أصرخُ رفضاً، توسّلًا، قهراً .. مثلَ طفلٍ ضُرب بشدةٍ من معلّمتِـه يذهبُ شاكياً لوالدته علّها تعتِـقُه، لكنّـها تمسكُه من يده وتعيدُه مجروحَ الأمـَان إليـها ..
هكذَا عُدت نحو المشرحَةِ دوماً، مسحُـوبة، مجرُورة، وكلّها كانت أيادٍ لطَالمَا أحببتُها بل قبّلـتها بشدّة، سحَبتني، جرّتني، رضّختني .. بكلّ عنفٍ وبكلّ قسوة!
لم تكفِـي صرخَـاتي، لم تكفِـي دُموعي، لم يكفِـي ألمِـي ..
بل كلّ كلّـي لم أكفِـي كي لا أُبـَاح ....
شرّحُوني وأنا بأعينٍ مفتُـوحة، ودُون موت، ودون أيّ خدر .. وبكلّ الشّعور كنتُ أراهُـم كيف يجرحُون جسَدِي، ويقيّدون كلّ أطرَافي، يطعِمونَني العجزَ مِلء فمِـي ..
وكنتُ أحدّق بصدمةٍ عنيفةٍ لآذانهم الصّمّاء عن صرخَـاتي، وألمِـي ..
والألمُ!
آهٍ أيّـما ألم ..ألَـمي كلّّه ليس في الجُروح النّـازفة لحظةَ التّشريـح بل في رؤيةِ تِلك اليَد، يدٌ لطالمَـا فزعتُ لشوكةٍ تشَـاكُها، هي الآن تغرزُنِـي غرزاً دونمَـا أيّ رَحمة؛ رحمةٍ نمنحُـها للغريبِ عنّا، فكيفَ بالّذي وضعَ روحَـهُ بين أيدِيـنَا ..
ألَـمي كلّه ليس بانغرَاز الآلة الحادّة بلحمِـي والّتي تشرخُه شرخاً، إنما الألم كلّـه في الشّرخ الّذي يُغرز في رُوحـي من ذاكَ الّذي أعطيتهُ إيّـاها بكلّ فداءٍ، فقط لأجل ابتسامةٍ واحدةٍ منه، وشرَخهَـا ..
ألَمـي كلّه ليسَ في الدّم المهدُور منّي إثر طعناتٍ وطَعنات، بل ألَـمي كلّه في انهـدَارِ كلّ مشَـاعري، كلّ خوفِـي، كلّ توسّـلي كلّ حُبّي، كشيءٍ لا داعي له ..
ألَـمي كلّه في أنّـني وأنا مليئةٌ بالنّـدوب والجُروح والآلام لم أجرُح قطّ، ولم أؤلِم قطّ ..
ألَـمي كلّه أنّـني وبيدٍ دامية منحتُ الحُبّ، الكثيرُ من الحب ..
الحب الذي منحَـني الألم بالمقابل!
ألماً يفوقُ المشرحة،
يفُوقُ برودتهَـا، موتَـها، جمُودهـا، وجُروحَها ..
ألماً جعل المشرحة لا شيء أمامـه،
ألَماً فاق رهبتها ورُعبَـها،
ألَـماً جعلهـا مألوفَـةً جدّا ..
. .وإليهَـا سأُسَـاقُ دومـاً ..
حتّىٰ أسَـاقُ إليهَا بلا روحٍ وأخيراً كما يجبُ ..
ولن يحتاجُوا تشريـحِي أبداً ..
سيكُون موتـِي منتظراً، عاديّـا، كشيء انتهت صَلاحيّته، وسقط كستارةٍ مهترئةٍ حان هوانُهَـا ... .
طويلة العُنق.
![](https://img.wattpad.com/cover/124169483-288-k682720.jpg)
أنت تقرأ
خواطر طويلة العنق
Conto-أكتب، كما لو أن لا أحد يرى، لذلك لا أهتم لمظهر الخدوش على واجهة كلمآتي. -لا أكتبُ عنّي أنا أكتبُ عن شخصٍ يشبهني شخصٌ وحيد.. يشعرُ بالهواءِ الباردِ الذي يدخلُ قلبَهُ ويخرج ولا يعرفُ كيفَ يقولُ لكم ما يشعرُ بهِ حينها ليس الألم، لا يستطيعُ أن يقولَ...