عُصفور !*

150 4 0
                                        

#سردة

"الله لا ينسى أرزاقنا !*"

"﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [العنكبوت: 60 - 62].

في صباح هذا اليوم المبارك . .
حقّا تجسّدتْ معاني هذه الآيات أمام عينيّ . .
ولا أدري لم شعرتُ أنّها رسالةٌ من الله، تلقّفتها وتلّهفتُ فهمها، وقد غمرني لطفٌ كبيرٌ مريح . .

ومثلما كلّ أيّام العيد، بين تجهيزاتٍ وتحضيراتٍ . .
وكوني الابنة الكُبرى ببيتنا؛
وقع عليّ حظّ تنظيفٌ وترتيبٌ لا ينتهيان . .
تذمّرتُ أجل، وطفح كيلي كثيراً . . ولكن رغم كلّ ذلك شعرتُ بأنّ الله يهوّن علينا أينما كنًا وأيّما فعلنا . .

كانت هناكَ غرفةٌ ربّما يليق بها وصفُ المهجورة بعليّة المنزل . . وقد كان ولابدّ أن أمنحها حقّا من التّنظيف والتّهوية، بعد سنواتٍ من التّهرب . .
هذه المرّة لم أنجُ منها ولا من أوامر والدتي بشأنها . .

صعدتُ عازمةً على إنهاءها سريعاً، لكن منظرها كان مخيّباً للآمال، غبارٌ منتشرٌ يحتلّ السّقف والجدران . . ومنظرٌ غير لطيفٍ لأغطيةٍ وكنباتٍ أكل عليها الدّهر وشرِب، متكتّلة في صورة تثير كمّا كبيراً من الاشمئزاز . .

لديّ حساسيّة غبار، لذلك التجأتُ إلى كمّامة، ولم يهن عليّ شعري أن يواجه خيوط العنكبوت فغطّيته أيضا . .

كنتُ أسير ببطءٍ وفي حذرٍ شديد، فبالطّبع هناك من الصّراصير كثير ولربّما فئران . . بل وحتـى أتيقّن أنه سيكون هناك دوابّ من فرط الإهمال المتلحّف بالغرفة . .

بعد شدّ وجذبٍ مع أطنان من الأوساخ، وصراخٍ ملأ الدّنيا . . تمكّنتُ أخيراً من إخلاء طريقي نحو النّافذة . .

لكن وأنا أقترب منها، ولكونها ذات زجاجٍ غامق . . كان هناك ظلٌ أسود متوارٍ خلفها يتقافزُ بشكلٍ مفرطٍ . . وقد شكّل على النّافذة سيلاً من الصّراع ومجابهة الزّجاج بضرباتٍ لا تكادُ تُسمع . .

بادئ الأمر تملّكني الخوف، أو لنقل الاكتفاء من التّقزز . .
فقد كانت حربي ضروساً مع قطيع صراصير . . ولستُ أتحمّل واحداً أكثر . .

اقتربتُ وفي يدي عصاً متوسّطة الطّول . . كنتُ على أهبة الاستعداد للقتال . .
مددتُ يدي وفتحتها، وبعد صريرٍ مزعجٍ انفتحتْ، وقد واكبَ كلّ ذلك حركة عنيفة من ذلك الظّل . . لربّما خوفاً أو عزيمة على المواجهة . .

كنتُ في داخلي أردّد أن تراجعي . . لكن كلّ مافيّ أصابه فضول معرفة ماذا يكون !

بكل قوّة جررتُ باب النّافذة وأنا أتنحّى جانباً، وقد وجهتُ العصا أمامي في محاولة لتقليد السّاموراي الشّجاع . .

اندلعتْ الجلبةُ والظلّ يتقافز بعنف ينشدُ الهروب، إلاّ أنّه لم يستطع . .
اقتربتُ وإذ بي ألمح خيطاً رقيقاً قد لفّ ساقيْ عصفورٍ صغير، وقد علّقه بشبّاكٍ النّافذة، كان مقلوباً وقد أدركتُ لوهلةٍ مدى الخوف الّذي يشعرُ به وهو هكذا معلّق، حيث كانت الغرفة فوق ثلاث طوابق . .
بدى خائفاً ومتوجّساً وقليل حيلة . .
شعرتُ بحزنٍ ورأفةٍ لحاله . . بدى من لفّة الحبل أنّه قد طال سجنهُ هناك . . بدون دفءٍ أو طعام !*

أمسكتُ الحبل بحذرٍ وأنا أسحبه داخل الغرفة، كان يرفرفُ بجناحيه مستنجداً، وبكلّ ما أملكُ من حنانٍ أمسكتُه بين يديّ، كان ضعيفاً جدّا وأنا أشعر بأنفاسه الخائفة . .

حاولتُ فتح ساقيه لكنْ بدى أنه قد لفّهما الحبل معاً ولا يتمكّن حتّى من المشي . .

عزمتُ على مساعدته، فعدتُ أدراجي نحو والدتي، أمسكتْ مقصّا وحاولتُ بحذرٍ أن أفتح ساقيه قليلاً وأنا أحوّطه بأصابعي . .
بلطفٍ قطعتْ أمّي الحبل، وكان حظّه كبيراً أن لم يمسسهُ ألم من المقصّ إثر حركته المفرطة . . !

فتحهما حدّ اتّساعهما وكأنّه يجرّب طعم الرّاحة أخيراً، ولَم أدرِ لِم شعرتُ بالسّعادة وقد عادتْ إليه حرّيته . .

طبطتُ فوق جناحيه، وقد قرّرتُ دعوتهُ لوجبة فطورٍ بسيطة، أخذتُ فتات الخبز، وشربة ماء . .
ثمّ بين يديّ بدأتُ أطعمه . .

تبيّن أنّه حقًا كان محروماً وهو يلتقطُ الفتات بنهمٍ، ومن ثمّ بللّ منقاره الصّغير بقطراتٍ من الماء . .

كان يتحرّكُ بين يديّ بحركةٍ تنمّ عن اطمئنانه لي، لكنّي شعرتُ أنّه اشتاق الحريّة . .

حقّا تذكّرتُ الأغنيّة المفضّلة لدي، وبالذّات عند هذه الكلمات :

"نزلت عخدّه دمعه وجناحاته متكِيه . .
واتهدّى بالأرض وقال: بدّي أمشي ومافيّي . .
ضمّيته عقلبي وصار يتوجّع على جروحاته . .
قبل مايكسّر الحبس، كسّر صوته وجناحاته . . "

باغتني شعورٌ من البكاء فرحاً . . ومن ثمّ صعدتُ إلى السّطح ثمّ حنيتُ أتفحّصه وأتفقّد ساقيه وقد اطمأننتُ أنّهما بخير . .

ثمّ فتحتُ يديّ، وبقي يتوسّد راحتيها قليلاً . . ثمّ بعد لحظات انطلق يطير ممتطياً الحريّة . .
لوّحتُ له مودّعة وعلى وجهي ارتسمت ابتسامة رضاً . .

بقيتُ أتّتبعه بعينيّ إلى أن اختفى . .
ثمّ بقيتُ أتطلّع نحو السّماء . .
راودتني تلك الآيات لحظتها، ورأيتُ رسالة الله حينها . .
وكأنّما بعثني الله إليه لأساعده . .
بعثني لأمنحه رزقه . .

ردّدتُ في داخلي حمداً كثيراً على كلّ النّعم . . !*

تلك الغرفة لطالما تقاعستُ عن تنظيفها . .
لكنّي هذه المرّة نظّفتها . .
نحنُ فعلاً لا نستفيدُ منها . .
قد نظّفتها . . لا لشيء . .
فقط لأنّها رسالة الله . .

حقّا إنّه لا ينسى مخلوقاً صغيراً بحجم الكفّ . .
فكيف له أن ينساكَ وأنتَ أفضلُ كائناته . . !
حاشاه أن ينسى . .

سُبحانه ما أعظمه . . 💙

خواطر طويلة العنق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن