قبل قرن من الزمان او يزيد بدأت تفاصيل هاذه الحكاية الغريبة و ربما لم يبقى على قيد الحياة واحد ممن شهد احداثها او سمع بها من افواه اولئك البحارة الذين صنعوها و نسجو خيوطها في عرض البحر حتى صارت مغامره غريبة كأنها من صنع الخيال.
كان ذالك على وجه التحديد في شتاء عام 1872 و البحر في مثل هاذا الفصل في الجهة المقابلة للسواحل الأسبانية يبدو رماديآ داكنآ, لا اثر للجمال فيه. في هاذا الوقت تنسحب السفن الشراعية الصغيرةو قوارب النزهة لتقبع في الخلجان الضيقة و الموانئ الهادئه البعيده عن الامواج بأنتضار الربيع و الصيف. و تبقى السفن التجارية الكبيرة و سفن الصيد غير مكترثة بشحوب البحر و الضباب و تلاطم الأمواج فكأنها تؤدي وظيفه ازليه كلفت بها, فتزخر الموانئ الكبيرة بهذه السفن و تنشط حركة العمال و نقل البضائع من الرصيف الى السفن و بالعكس.
في هذا الجو المتميز بالحركة و النشاط غادرت السفينة الاسبانية(دي جراسيا) الميناء متجهة الى اعماق المحيط الاطلسي و على ظهرها عدد من البحارة لا يزيد على الثلاثين, و في رأس قبطانها (مورهورز) خطط كبيرة و احلام لا حدود لها, فقد غادر نفس الميناء قبل ثمانية اشهر في رحله طويلة لصيد الحيتان, أعد لها أعدادآ كبيرآ و اختار بنفسه عدد من البحارة الشجعان. لكن الحظ لم يحالفه في تلك الرحله و كادت ان تكون نهاية له و لسفينتة لولا ان تدخل القدر في اللحظة الاخيره و بعث لهم من يساعدهم في تخطي ذالك المأزق الكبير فقد اختلف بحارته فيما بينهم ولم يستطع بقوته و حزمه ان يعيد الهدوء و الانسجام فيما بينهم فراح البعض يخطط للأيقاع بالبعض الاخر حتى وصل الخلاف الى حد محاولة احراق السفينة, و حينها قطع الرحلة و عاد من دون ان يكسب شيئآ يذكر بل لم يستطع وقتها ان يسدد ديون الرحلة إلا بعد اشهر, حيث ساعده أصدقاؤه من اهل السفن.
و ظل في الأيام التالية من هاذه الرحلة يهيئ نفسه من جديد فأصلح ما عطب من سفينته, ولم شمل بحارته و استغنى عن المشاكسين منهم و اختار اخرين لا يقلون كفائه و مقدره عنهم, و ها هوه الان يغادر الميناء و في رأسه أحلام كبيرة في مطاردة الحيتان و العوده بربح وفير يستطيع بواسطته ان يفي ديونه و يدخل ما يزيد منه لرحلاته القادمة.
نضر القبطان مورهوز الى البحر و هوه على سطح سفينته فرئاه كأنه صديق حميم على عكس ما يبدو عليه من جبروت و طغيان, و البحار الاصيل هوه الذي يرى الهيبة و الرحمه و الجمال حتى لو كان صاخبآ, تتكسر على امواجه اكبر السفن و ينهار في دواره اشجع الرجال, فهو هكذا منذ ان تعرف عليه قبل ثلاثين عامآ حين كان فتى يافعآ يعمل لا ضهر زوارق الصيد الصغيرة قرب السواحل و الخلجان يساعدهم في نشر الشباك و في نقل السمك من الزوارق الى السوق. و من ذلك الوقت لم يغير رأيه فيه فهو يعشقة و يثق به حتى و هوه يبتلع السفن الكبيرة و يضرب زوارق الصيادين فيحيلها الى هشيم,غير مكترث بالصيادين البائسين و هم يصارعون امواجه العاتية في نزال رهيب لا تكافؤ فيه.
سرح القبطان مورهوز في احلامه حتى غاب الميناء عن عينيه ولم يعد يرى غير المياه الزرقاء الداكنة و غير النوارس التي تطير مع صفحة الماء ثم ترتفع قليلآ حين يفاجئها الزبد المتناثر بفعل الامواج.
في تلك اللحظه فقط عاد الى نفسة, و حين ألقى نظرة خاطفة على السفينة وجد كل واحد منشغل في عمله بجد و نشاط فالرحلة في اولها و البحارة عادة في الايام الاولى يكونون نشطين في حين لم يتسرب اليهم الضجر بعد ولم يغمرهم الملل بفعل منظر البحر الذي لا يتغير. امتداد المياه الزرقاء و الزبد و صخب الامواج و رائحة خشب السفينة, كل ذالك يفرض على القبطان ان يكون مرنآ و حكيمآ في سلوكه معهم فالبحار في البحر مثل الضواري في البرية لا تنفع معها سياسة التدجين ابدآ, فهو في الميناء شيء و في عرض البحر شيء اخر مختلف تمامآ.و القبطان مورهوز شأنه شأن كل قبطان خبر البحر و خبر التوغل فيه في رحلات طويله قاسية يعرف ذالك جيدآ, و لهاذا تراه يقضي معهم كل وقته يستمع الى نكاتهم البذيئة و يأكل معهم و يسهر احيانآ سهرات صاخبة لم تخلو من مشاكسات و مخاصمات غالبآ ما تنتهي بجروح و رضوض بسيطة.مضا يوم و يومان و ثلاثة و السفينة تشق طريقها دون توقف و البحر كما يعرفونه ما ان يهدأ حتى يعود فيزأر ثانية ولاكنهم اعتادو و اعتادو حالته تلك حتى السفينه (دي جراسيا) كأنها تعرف شيئآ من اسرار البحر و تقلباته فهي تندفع مسرعة حين يهدأ و تبطيئ قليلآ و تسير بحذر و خوف حين يثور و يطغى.
و في نهاية اليوم الثالث كانو قد وصلو الى المكان الذي يقصدوه و بدأو بانتظار الصيد.
كل سفينة لها حدودها و مياهها الأقليمية الخاصة بها فالبحر شاسع مترامي الاطراف و يستطيع اي صياد ان يبتعد بسفينتة الى حيث يتربع على عرش بقعة من المياه تزيد حدودها على حدود دولة صغيره على اليابسة و يستطيع ايضآ ان يفرض سلطته عليها حتى الاعماق فلا احد يمنعه ولا احد يصده هناك.و هكذا فعل مورهوز فقد قطع في الايام الثلاثه الطريق الى دولتة هاذه و ترك سفينتة تمرح وحيده في عرض المحيط بأنتضار خروج الحيتان كي تطاردها و تدخل معها في صراع دامي مرير لا يتدخل به طرف ثالث.
نام القبطان مورهوز و نام بحارته تلك الليلة و هم يحلمون بمهرجانات الصيد هاذة فليس هناك عند الصياد منضر اجمل من رؤية عدد من الحيتان من بعيد و ليس هناك منظر كمنظر استسلام الحوت بعد مطاردة قاسية تتخللها طعنات بالرماح و اصطباغ المياه الصافية بالدماء. بذالك المنظر ينتهي عادة مهرجان الصيد,
بعده يتم رفع الحوت الى ضهر السفينة حيث تعمل فيه السكاكين الحادة الطويلة تقطيعآ و تهشيمآ.استيقظ البحاره على صباح رائق فالبحر كان هادئآ ودودآ و الشمس ترسل اشعتها من بعيد عبر سماء صافية زرقاء فتلتمع صفحت الماء كأنها ارض من البلور. في مثل هاذا الطقس يحلو للبحاره ان يخرجو من اقبيتهم و يشهدو هاذا الجمال الاخاذ انها الساعة التي تسبق العمل بعدها يمضي كل واحد الى مكانه و ينهمك في عمله و راح كل واحد منهم يطلق نضراته بعيدآ في البحر عله يكون اول من يشاهد الحوت حتى القبطان مورهوز كان قد ترك المنظار جانبآ و راح يتأمل البحر بعينين طافحتين بالسعادة و الزهو فقد خيل له هو الاخر ان بأمكانه ان يرى الحوت حتى لو كان على بعد عشرات الاميال دون حاجة الى منظار فالسماء صافية و الشمس قد طردة كل اثر للضباب في ذالك الصباح ولاكن الاحلام لا تتحقق دائمآ و الصورة التي رسمها البحارة في مخيلتهم و انتظرها القبطان مورهوز بفارغ الصبر سرعان ما اختفت و حلت محلها صورة اخرى ،
فقد ضهرة من بعيد سفينة كبيرة في المكان الذي كان يتوقع فيه الجميع ان تضهر منه الحيتان ،
و من النظره الأولى عرف القبطان مورهوز ان السفينة التي ضهرت بالأفق ليست سفينة بضائع إنما هي سفينة صيد كسفينتهم ولابد انها رابطة في مكانها منذ أيام فقد لاحظ انها ثابتة لا تتحرك ولهاذا فأن حظهم في الصيد قد اختفى و كان لا بد لهم من تغيير إتجاه السفينة و الابحار الى مكان اخر بعيد عن هاذا المكان.وحين وضع القبطان منظاره قرب عينية اصيب بالدهشة فثمة شيء استوقفه و تركه فاغر الفم!
لم يكن القبطان مورهوز من الرجال الذين يدهشون لأبسط الاشياء ولا من أولئك الذين تثيرهم الامور الغريبة و الحالات الشاذة ،
ولاكنه في هاذه الحاله مستغربآ متعجبآ، او هكذا بدا لمساعديه و بعض البحاره من الذين كانو الى جواره حتى انهم انتضرو بفارغ الصبر حتى يرفع المنظار و يقول شيئآ فأن منظره ليثير الاستغراب و يؤكد بما لا يدع مجالآ للشك ان هناك حدثآ مفزعآ يقع في اقاصي البحر.