ثلاثة أيام بلياليها والسفينة «دي جراسيا، تشق الأمواج بصدرها
الشامخ كأنها تعرف مهمتها بالضبط، فقد إجتازت مكانها
السابق ثم اتجهت يساراً في الطريق الذي يُحتمل أن يسلكه
قنفذ البحر، تماماً ، ففي مثل هذه الأيام يتهيأ لاستقبال السفن
العائدة من الشواطئ الأفريقية حيث تكون محملة بالجلود
والعاج والبهار وجوز الهند وسلع أخرى يسيل لهالعاب
القراصنة وقطاع الطرق .
في تلك المنطقة الممتدة عشرات الكيلومترات كانت السفينة «ديجراسيا» تروح وتجي ولاهم لبحارتها وقبطانها غير مراقبة البحر والنظر الى السفن المبحرة فيه .
. «إنها منطقته المفضلة، قال القبطان مورهوز، ذلك لمساعده وهو يرفع المنظار الى عينيه ويدير رأسه متأملاً أطراف البحر البعيدة ، باحثاً عن أي أثر لسفينة القرصان . مرت لحظات سكون طويلة كان فيها القبطان منهمكاً في بحثه بينما أخذ مساعده يتأمله بهدوء عله يجد علامة في وجهه تنبئه عما يرى في منظاره المقرب ..
ولما طالت فترة السكون ولم يجد المساعد أية علامة في وجه القبطان تدل على انه قد رأى سفينة في البحر ، قطع ذلك السكون موجهاً كلامه إلى سيدهـ انه قناص مخادع، ولا يرمي شباكه في مناطق مرور السفن»
في تلك اللحظة بالذات جاءه رد القبطان «مورهوز هادئاً
بطيئاً وكأنه يحدث نفسه : لقد وقع القناص في الفخ ، هذه سفينة مقبلة .
أصيب المساعد بالذهول ولم يستطع أن يفعل شيئاً غير أن يمد يده ويخطف المنظار من يدي القبطان وقد نسي أصول البحارة في التعامل مع قباطنتهم ، فقد كان فرحه طاغياً ولم يصدق ما قاله القبطان «مورهوز» من أن سفينة مقبلة عليهم .
وحين نظر الى الجهة التي كان القبطان ينظر اليها رأى بعينيه سفينة غير واضحة المعالم ورأى ايضاً علماً كبيراً يرفرف فوق ساريتها لم يستطع أن يتبين معالمه وهو على هذا البعد الكبير عنها .وبلحظات وقف القبطان «مورهوز» في منتصف السطح وأطلق بصوته الجهوري تعليماته إلى البحارة المنتشرين في أرجاء السفينة ، وسرعان ما أصبح الجميع على أهبة الاستعداد ، فقد كان البحارة ينتظرون بفارغ الصبر تلك اللحظة التي يواجهون فيها عدوهم اللدود «قنفذ البحر، وها هو الآن أمامهم وجهاً لوجه ، يتحداهم أن يقفوا في طريقه، وربما سيحاول معهم لعبة جديدة
فهو لا يغامر ويتقدم نحو أية سفينة الآ وتكون النتيجة محسومة لصالحه .ولكن من يدري ؟ فربما وقع «قنفذ البحر في الفخ هذه المرة؟
وربما سيكون صيداً دسماً بعد أن كانت السفن الأخرى صيداً دسماً له ولقراصنته الأوغاد ؟
راحت السفينة «دي جراسياه تشق الماء متجهة نحو سفينة القراصنة ، وقد تهيأ الجميع لمعركة فاصلة يستعيدون فيها كرامتهم التي هدرت بخديعة شائنه في
عرض البحر . وقف القبطان مورهوز قرب مساعديه كما لو كان قائداً عسكرياً يقود جيوشه نحو النصر وليس قبطاناً لسفينة صغيرة تجوب البحار بحثاً عن الحيتان .في تلك اللحظة التفت إلى مساعده وكأنه يوجه اليه آخر تعليماته بشأن المعركة
المرتقبة قائلاً :
ـ «لن ندعه يفلت ، هذا القنفذ الرطب ، وليبق طاقم الرماة قرب مدافعهم طوال الوقت» •في تلك اللحظة بالذات ، وقبل أن ينهي عبارته تلك إنحرفت سفينة القراصنة إلى جهة اخرى وانطلقت هاربة في عرض البحر جن جنون القبطان «مورهوز» وراح يصدر أوامره بالانطلاق خلفها بسرعة ، فها هي اللحظة المناسبة تقفز من بين يديه كما تقفز سمكة صغيرة وتغوص في الأعماق .
لقد هرب القرصان من أمامه .. وراءها بسرعة ، هذه فرصتنا الوحيدة •
صرخ القبطان «مورهوزه بوجه مساعديه وقد تملكه الغضب وبان عليه هياج شديد لم يشهده بحارته منذ أن بدأوا العمل تحت إمرته . وعاد يقفز هنا وهناك صائحاً :
. أيها الشجعان ، لا تدعوها تفلت ، وراءها بسرعة.
وبلحظات سري هياج القبطان وحماسته في نفوس البحارة فانطلقت «دي جراسيا، كالمجنونة تشق مياه البحر باتجاه السفينة الهاربة ، ورفع القبطان مورهوز منظاره من جديد وألقى نظرة خاطفة على سفينة القراصنة ، وبنفس السرعة رفع المنظار عن عينيه ووقف أمام مساعديه وقد تغيرت ملاحه تغيراً كاملاً
لقد زال عنه الغضب والهياج وعاد كما عرفه بحارته هادئا وقوراً يصدر تعليماته بلا صراخ ولا ضوضاء.. «لقد عادت فغيرت اتجاهها نحونا .
قال القبطان ذلك بهدوء تام وكأنه أصيب بصدمة من هذا التصرف المتناقض الذي أبداه نحوهم «قنفذ البحر، وصمت مساعدوه مندهشين أيضاً وراح أحدهم يتتم بصوت مسموع :
- أنا أعرف قنفذ البحر ... هذا القذر لا يهرب.
. بل هو مخادع ولا يقابلنا وجهاً لوجه أبداً .
أجابه مساعد آخر .لم يكن حديثهم هذا أمام القبطان «مورهوزه عبثاً ، فقد عرف الجميع أن «قنفذ البحر» يخطط للايقاع بهم بطرق خبيثة تبدو في الظاهر متناقضة وغريبة إلا أنها سرعان ما تنجلي عن ذكاء خارق وحيل بارعة في المراوغة والتضليل .
فماذا ترى يقصد من وراء هروبه في البداية ؟ ثم ماذا دبر لهم فغير إتجاهه ثانية نحوهم ؟
هذه الأسئلة لم يجد لها القبطان «مورهوز، ولا مساعدوه أي تفسير .وعلى أية حال لن يجديه كل ذلك نفعاً ، فهم الآن على أهبة الاستعداد للقتال ، وليطرح كل حيله وألاعيبه في ساحة القتال فلن تكون أوسع من سطحي سفينتين طافيتين في هذا البحر الواسع ، العريض.
إنها بلا شك ساحة ضيقة للقتال وستضيق عليه وعلى بحارته الأوغاد بعد قليل ولن تتسع لخدع اخرى بعد
الآن .
في تلك الأثناء رفع القبطان منظاره إلى عينيه ، فقد
أصبحت سفينة الأعداء قريبة من سفينته ، واصبح التلاحم الدامي بينها قريباً أيضاً . وفجأة صرخ القبطان وهو يرى شيئاً لم يكن يتوقعه :
ـ لا أصدق عيني .. انهم يعملون معهم .. ماذا .. ماذا قلت . سيدي القبطان . ؟
أجابه أحد مساعديه- أنهم بحارتنا الثلاثة المفقودون ... يعملون مع القراصنة. قال ذلك القبطان «مورهوز» وقد بدأ الاستياء واضحاً على ملامحه .