البارت الخامس

98 8 0
                                    

الساعة تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل وكل شي في السفينة
المجهولة عاد كما كان ، فالبحارة راحوا يغطون في نوم ثقيل بفعل
نسيم البحر البارد والتعب والإجهاد الذي هدهم طوال رحلتهم
الشاقة الطويلة ، ولكن ثمة حركة مريبة لم يشعر بها أحد
كانت تجري داخل أحد عنابر السفينة ، فهناك مخبأ سري يبدأ
من بوابة صغيرة في المطبخ وينتهي إلى قاع السفينة . ولو
شاهد البحارة المكلفون بالحراسة ذلك الباب وهو يفتح ويخرج
منه عدد من القراصنة بثيابهم الممزقة لأغمي عليهم من هول
المنظر
لقد كان المخباً كبيراً بعض اشي، فقد خرج منه اكثر من عشرين
قرصاناً بوجوه قذرة ولحى طويلة وقد أمسك كل منهم بعصي
غليظة أو مدية وعبروا أحد الممرات إلى سطح السفينة واحداً
واحداً ، وبحذر شديد كان كل شئ مهيئاً لبدء ساعة الصفر، فما
هي إلا لحظات حتى وجد البحارة أنفسهم ممددين ، موثقي
الأيدي بالحبال .
لقد زال الآن كل غموض ، وانكشف السر الذي بقي لغزاً لدى
البحارة جميعاً ، إنها سفينة لصوص إذاً ، وإن ذلك الذي حدث
ما هو إلا فخ نصب لهم وهاهم قد وقعوا فيه .
ولكن كيف السبيل إلى إخبار القبطان «مورهوز» وهو في
السفينة الأخرى ؟ لم يبق واحد منهم كي يستطيع اخباره بقصة
السفينة المجهولة وقراصنتها الذين اختبأوا طوال الوقت في أحد
مخابئها السرية ، المظلمة .
لقد جمعهم زعيم القراصنة على سطح السفينة وراح اتباعه
يعدون لعمل آخر ، نقلوا عدداً من الألواح الخشبية العريضة
وظل كل واحد منهم ممسكاً بعصا أو مدية وعادوا يتشاورون مع
الزعيم .
«يا لهم من رجال أشداء» قالها مساعد القبطان وكأنه يتحدث
مع نفسه ، لقد وجدوا أنفسهم فجأة تحت رحمتهم ، كيف
استطاعوا في هذا الظلام أن يخرجوا من مخابئهم ويشنوا هذا
الهجوم الصامت الذي لم يشعر به حتى الحراس .
ظل مساعد القبطان يؤنب نفسه بصمت ، فقد تذكر تلك
الساعة التي كان فيها بعض البحارة يفتشون عنابر السفينة ، لقد
كان شديداً ، قاسياً معهم ، فلو تركهم وقتها لربما استطاعوا
اكتشاف السر، فلا بد أن بعضهم كان مختبئاً في عدد من
البراميل ايضاً، لابد ان التفتيش الدقيق والمستمر يؤدي إلى
نتيجة طيبة ، ولكن ماذا يعمل الآن بعد فوات الأوان ؟ ها
هو مع بحارته موثقاً، مقيداً ، وهناك القبطان مورهوز على
بعد عشرات الأمتار منهم ولكنه لا يستطيع نجدتهم ، فمن أين
له أن يعرف أن بحارته الآن في السفينة الأخرى يعانون من
الأسر ؟ وكيف يكتشف أن الخطر الآن يقترب
السفينة «دي جراسيا، بالذات ؟ كان مساعد القبطان منشغلاً في
تصوراته هذه حين رأى بعض القراصنة ينزلون عدداً من
القوارب الصغيرة إلى الماء ، ثم رأى السفينة وهي تغير إتجاهها
قليلاً قليلاً . لقد عرف الآن مقصدهم جيداً ، انهم يريدون
السفينة تلك ، وهي هدفهم الأول والأخير ، ولكن ماذا تراه
يستطيع أن يعمل ؟ أيصرخ ؟ وماذا تجدي صرخة ضائعة في
هذا الفضاء الواسع مع صخب البحر وصفير الرياح ؟
وحتى هذه الصرخة الضائعة ليس باستطاعته إطلاقها وهو مكمم
الفم ، لا شئ أمامه الآن سوى الصمت والنظر إلى ما سيجري
أمام عينيه من أحداث ..
وهكذا كان ، فبعد أقل من ساعة كانت السفينة «دي جراسيا»
تكاد تلتحم مع السفينة الغريبة دون أن يشعر بها أحد من
الحراس
إنطلقت الزوارق الصغيرة وسط الظلام حتى اقتربت من هيكل
السفينة «دي جراسيا، دون أن يشعر بها أحد، وتسلق القراصنة
بهدوء الى سطح السفينة ، وكانت لحظات صعبة وقاسية على
البحارة المقيدين في السفينة المجهولة ، فحين رأوا القوارب وهي
تنزل إلى الماء عرفوا ما الذي قرر القراصنة أن يفعلوه. وكانوا
يتمنون في أعماقهم أن يكتشف القبطان مورهوز وبحارته الخطة
قبل أن ينتهوا إلى النهاية نفسها على سطح السفينة . وراحت
الدقائق تمر وهم ينتظرون أن تنطلق المدافع باتجاه الزوارق ،
ولكن شيء من ذلك لم يحدث. في تلك الأثناء كان القراصنة قد
أخذوا أماكنهم على سطح السفينة مختبئين خلف عدد من
الحواجز ينتظرون إقتراب سفينتهم كي يبدأوا الهجوم ، وفي
اللحظة التي امتدت فيها الألواح الخشبية بين السفينتين أحس
القبطان «مورهوز» الذي كان متكئاً على كرسيه في قمرة القيادة
برجة قوية في السفينة وحين فتح عينيه ونظر من القمرة وجد
السفينتين ملتحمتين معا فقفز من مكانه صارخاً بالحراس
وبالبحار المكلف بالوقوف خلف الدفة .
لقد اعتقد القبطان مورهوز بأن هؤلاء قد غلبهم النوم فأهملوا
المراقبة وها هما السفينتان تلتحمان معا بقوة ، ولم يخطر بباله
أبدا بأن القراصنة يسيطرون الآن سيطرة تامة على السفينتين

وان بحارته جميعا قد كممت أفواههم وأوثقوا بالحبال .
وحين اقترب من وسط السفينة كان كل شئ قد انتهى فهاهم
القراصنة بثيابهم الممزقة وأسلحتهم المشرعة ينتشرون على سطح
السفينة «دي جراسيا» فيا انطرح عدد من بحارته موثقين

بالحبال غير قادرين على عمل شئ .
وحين مد يده إلى مسدسه كان زعيم القراصنة اسرع منه بحسم
الموقف ، فقد عاجله بضربة قوية على يده بعصاه جعل المسدس

يسقط على بعد عدة أمتار .
وقبل أن ينبلج الصباح كان البحارة جميعا مقيدين على سطح
السفينة «دي جراسيا» بعد أن نقل القراصنة المجموعة الأولى من
بحارة القبطان «مورهوز» من سفينتهم إلى السفينة «دي جراسيا»
وانشغل القراصنة الآخرون بنقل المؤن والملابس والأموال وكل
ما تقع عليه أيديهم إلى سفينتهم تلك وأمام نظر القبطان
«مورهرز»  . وحين نقلوا كل شئ ، فتشوهم واحدا واحدا
ولم يبقوا معهم حتى حاجاتهم الشخصية الصغيرة ، ولما بدأ
القراصنة يسلبونهم ملابسهم التي يرتدونها جن جنون القبطان
«مورهوز» وتحرك بعصبية صارخة بوجه زعيم القراصنة بحدة ،
ولكن ماذا يستطيع أن يفعل من كبلت يداه ورجلاه بالحبال؟
ثم تذكر انهم قراصنة وأن أي عمل من هذا القبيل سيزيد من
همجيتهم ولن يترددوا عن قتلهم وهم القتلة المجرمون الذين
تعرفهم البحار جيدة ، وماذا يستطيع أن يعمل لو أمرهم زعيهم
بالقائه والقاء بحارته جميعا في البحر ؟ لهذا تركهم يفعلون ما
پریدون وهو صامت ، وحين انتهى كل شئ وانتقلت كل أموالهم
ومنهم الى السفينة الأخرى كان الصباح قد بدأ بخيوطه الفضية

يغمر المكان كله .
وقف زعيم القراصنة واضعآ غليونه القذر بين أسنانه وهو
يضحك فيها رفع يده ذات الخطاف مشيرة الى القبطان
«مورهوز» :

. خذوا سفينتكم وارحلوا .. بلغوا تحياتنا لشرطة السواحل .
ثم رفعوا الألواح الخشبية وفصلوا سفينتهم عن السفينة «دي
جراسيا، وقد تجمع بحارتها وقبطانهم وهم مقيدون على السطح .
ولكي يمعن في إذلالهم صرخ بهم ساخرة ، وما زالت سفينتهم لا
تبعد سوى أمتار قليلة عن سفينة القبطان «مورهوز» .
. لا تعودوا إلى البحر مرة أخرى أيها الفتيان .
وتردد صوت آخر من أحد القراصنة فيه من الهزء والسخرية

أكثر مما فيه من التنديد والتعنيف :
. أو اجلبوا معكم حبالكم في المرة القادمة كي توفروا علينا مشقة
النزول إلى الشاطئ لشراء حبال جديدة .

وهكذا ابتعدت السفينة «دي جراسيا، وهي تتخبط في البحر
بنفس الطريقة التي كانت تتخبط بها سفينة القراصنة حين
شاهدها القبطان «مورهوز» بمنظاره اول مرة -

السفينة الغامضةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن