البارت السادس

100 8 0
                                    

حين إبتعدت سفينة القراصنة عنهم كان الصباح قد اكتمل،
والشمس بدأت ترسل خيوطها الذهبية فيتكسر الضياء على
أمواج البحر ، إلا أن ذلك لم يكن صباحا طيبآ للقبطان

مورهوز» وبحارته ، فالمأزق الكبير الذي وجدوا أنفسهم فيه ليس مأزق سهلا ، وستبقى آثاره النفسية حية ما داموا في البحر ، فلم تكن العودة إلى الميناء بخفي حنين ولا فقدانهم أموالهم ومؤونتهم هي التي تؤلمهم ، إنما الوضع المزري الذي هم
عليه الآن والخدعة الكبيرة التي انطلت عليهم كل ذلك لا يمكن احتماله ولا يمكن السكوت عليه. فماذا سيقولون لأصدقائهم وللناس هناك حين يطالعونهم نصف عراة ، موثقين على سفينتهم ؟
وكيف سيبررون الهزيمة التي أصابتهم وهم البحارة
الشجعان المدججون بالسلاح ؟
على أية حال ، لابد من التفكير جيداً في الأمر، فهم الآن على سطح السفينة «دي جراسياه
يحيطون بقبطانهم ، لا حول لهم ولا قوة .

كان الصمت يخيم على الجميع وكانوا ينظرون إلى القبطان
مورهوز، ليقول شيئاً ، فهو القبطان على اية حال وعليه أن يجد منفذاً للخلاص من المأزق الذي هم فيه الآن ، وعليه أن يرد كرامتهم ، فالهزيمة في معركة لا تعني خسارة نهائية ، وبعد صمت طويل بدأ القبطان حديثه قائلاً : .
- لن ألوم أحدا غيري ، كان علي أن أعرف اللعبة.

وساد الصمت ثانية ، انتظر الجميع أن يقول القبطان شيئاً آخر ، فهم لا يريدون أن يتحمل هو وحده تبعة الحالة تلك . ولكن ماذا تراهم يقولون ؟
وأي حديث يمكن أن يخفف من ألم القبطان
مورهوز» واحساسه بالفجيعة ؟ ومن ذلك الصمت القاتل انبرى
أحد البحارة قائلاً :
- لم يكن التفتيش دقيقاً سيدي القبطان .

همهم القبطان بكلمات غير واضحة وعيناه إلى الأرض مما شجع الآخرين على الحديث .

ـ إذا بقينا هكذا فلن نصل بعد سنة .
. بل لن نصل إلى الأبد .
أجاب القبطان «مورهوز» ثم أضاف :
. ليقترب أحدكم ويفك وثاقي بأسنانه.

واقترب أكثر من بحار ليفك وثاق القبطان ، وبعد دقائق كان القبطان طليقاً فقام بنفسه وبدأ يفك وثاق بحارته واحداً واحداً ، ثم بدأ الأخرون بفك الحبال عن رفاقهم حتى تحرروا جميعاً . وبعد أن تخلصوا من قيودهم رفعوا أشرعة السفينة وانطلقوا عائدين إلى الساحل ، وقد عادت اليهم تدريجياً روحهم المرحة وكانهم نسوا كل ما حل بهم منذ قليل، إلا القبطان «مورهوز، فقد بقي صامتاً ، شاحباً ، ينبئ صمته عن غضب شديد .
وحين اقترب منه مساعده لم يلتفت اليه أو يحدثه، فقد بقي ينظر الى جهة الميناء وكأنه ينظر الى ميدان معركة سوف يحتدم
أوارها بعد قليل -
.ماذا سنقول لأصدقائنا سيدي القبطان ؟ هل سنقول لهم
سلبنا قراصنة أوباش ؟
. وماذا تقول غير ذلك ؟
أجاب القبطان مساعده دون أن تتحرك عضلة من عضلات وجهه المتشنج ، ودون أن يلتفت إلى مساعده ثم تمتم كأنه يحدث نفسه :
. لن أهدأ قبل أن أستعيد كل ما سرقه ذلك اللص اللعين وأعلمه درساً قاسياً في الأخلاق .
وبعد مدة وصلوا إلى الميناء وكانوا قد أبطأوا قليلاً كي يصلوا في منتصف الليل حيث اكثر اصحابهم نيام ، وهم في حالة لا توصف من الجوع والظمأ والأنهاك ، فقد سلبهم القراصنة الماء والطعام والملابس مما جعلهم يلبسون الملابس البالية التي تركها القراصنة أنفسهم ولم يأخذوها لرتدائها .
وبعد أيام شاع خبر سلب القراصنة للسفينة «دي جراسيا، ولم
يكن ذلك الأمر سراً إذ أن القبطان نفسه تحدث به إلى أصدقائه .
. ومن أول ساعة وضع القبطان فيها قدمه في الميناء راح يعد العدّة لرحلة جديدة لا علاقة لها بالتجارة أو بصيد الحيتان ..

لم يهدأ القبطان «مورهوز» بعد وصوله إلى الميناء لحظة واحدة ،
ولم يسترح من عناء تلك الرحلة البائسة يوماً واحداً ، بل بدأ منذ وصوله بجمع عدد من البحارة لمهمة أخرى جديدة .
كان عدد كبير من البحارة في الميناء قد وقعوا في الفخ قبله ، وان الكثيرين منهم ما زال يريد أن يثأر لكرامته وللذي سلبه منه ذلك القرصان البشع . فقد عاث فساداً في كل مكان ، يقطع الطرق أمام السفن ويهاجم بعضها ليلاً ، وينصب الشراك بطرق جهنمية غريبة للكثيرين ، حتى ضجت منه الموانئ فصاروا يبتعدون عن طريقه تجنباً لشروره ، كان يهاجمهم في طرقهم ويفاجئهم حيث يعتقدون أنه بعيد عنهم . وها هو القبطان «مورهوز، يقع في شراكه أيضاً ، ولكنه كما يبدو قد
أخطأ هذه المرة ، فالقبطان «مورهوز ليس من صنف الرجال الذين يسهل ابتلاعهم دون أن يغرسوا سكين حادة في منتصف الحلق . إذ بدأ القبطان مورهوزه يهيئ نفسه لمطاردة هذا القرصان الشرس ، الشرير. كان يجلس في الحانات من الصباح ، إلى المساء يلتقي بالعائدين من البحر ويعرض عليهم مشروعه
هذا .
ـ انك قد لا تكسب من ورائه مالاً وذهباً ولكنك قد تكسب أسماً ، وهذا هو المهم لدى البحار .
- البحار الحقيقي هو الذي يقاتل في البحر لا على اليابسة أو في المقاهي والحانات .
. الرجل هو الذي يقف بوجه الأوغاد والقتلة لا الذي يهاجم المسالمين والضعفاء •
هكذا كان القبطان «موروز، يحدث من يلتقي بهم في الحانات
، وكان هـاذا الأسلوب يحرك دماء الشبان الشجعان فيلتفون حوله ، حتى استطاع في مدة وجيزة أن يجمع عدداً كافياً لمطاردة هذا القرصان ، اضافهم إلى عدد من بحارته السابقين ممن فضل البقاء والعمل معه . ثم بدأوا يتتبعون أخباره ويتعرفون على اساليبه الخادعة وطرقه في الايقاع بالسفن التي تقابله.
وقبل أن ينطلقوا لمطاردته بأيام كانوا مجتمعين في إحدى الحانات الكبيرة ، حيث قال أحدهم :
ـ إن أصحابه يسمونه «قنفذ البحر» وهو كما قيل لم ينزل في ميناء قط .

أجاب القبطان :
. انني كما ترى لن أنتظره في ميناء بل سألاحقه في أعالي البحار .
وراح بحارة القبطان «مورهوز» يتحدثون فيما بينهم وهم يشربون النبيذ حتى اكتملوا في دائرة كبيرة ، بعضهم دفعه إحساسه بالواجب إلى المشاركة في هذه الحملة ، وبعضهم كان قد تعرض للسلب من هذا القرصان في يوم من الأيام ، والبعض كان طامعاً باسم
وسمعه تنفعه في أيامه القادمة. وهكذا اجتمعت نخبة كبيرة لديها الرغبة والقدرة على مطاردة «قنفذ البحر» في أي مكان من البحر .
في تلك الأثناء كان ثمة بحار قذر يجلس في ركن منعزل من الحانة ، ويفتح أذنيه لما يدور حول مائدة القبطان «مورهون وجارته وهم يضحكون ويثرثرون بصوت عال .
كان ذلك البحار يشرب بهدوء ويدخن من غليون معقوف إلى الأسفل ، وكان يسمع كل ما يدور من أحاديث اولئك الذين يجلسون عن يساره ، وحين سمعهم يهددون ويتندرون بـ «قنفذ البحر: ردد مع نفسه بصوت مسموع :
ـ هنا تتحدثون عنه بوقاحة ، وفي عرض البحر يسلبكم حتى سراويلكم !!
ثم سمع ضحكة مجلجلة من البحارة تبعها أحدهم وهو يقول :
. أما أنا في حاجة ماسة إلى خطافة القذر لصيد الدلافين .
ولما أصبحت السخرية بقنفذ البحر مريرة لم يستطع ذلك البحار البقاء في مكانه فقام وغادر الحانه مسرعاً دون أن يعرفه احد .
و في صباح أحد الأيام كان كل شئ قد اكتمل ، المؤن والأسلحة وعتادها قد نقلت جميعها إلى السفينة ، والسفينة نفسها أعدت إعداداً حسناً اذ ان القبطان «مورهوزه كان يتابع بنفسه كل التفاصيل ، حتى تجهيز البحارة بعتادهم الخاص ، فقد أمر بتسليم
كل بحار مائة إطلاقة مسدس . وانطلقوا في صباح أحد الأيام الرائقة ولديهم من المعلومات عن سفينة القرصان «قنفذ البحر» أكثر مما لدى القرصان نفسه ، واتجهوا مباشرة لمناطق نفوذه في البحر

السفينة الغامضةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن