سمع الجميع دوياً عالياً تبعته طلقات متقطعة أخرى ، عرف القبطان «مورهوز» آنها رسالة استغاثة تبعثها احدى السفن طالبة النجدة . فهناك لغة يعرفها البحارة المتمرسون وكل من قضى شطراً من حياته في البحر .
والاشارة التي سمعها الجميع
تعني : إننا في مأزق كبير ، أسرعوا لانقاذنا وراح البحارة ينظرون إلى أطراف البحر بحثاً عن السفينة التي بعثت برسالتها تلك ، ولم يطل البحث كثيراً فسرعان ما ظهر في الأفق خيط دخان يرتفع عالياً، وحين رآه القبطان مورهوز» عرف لماذا أرسلت السفينة رسالتها تلك ، فصاح في بحارته قائلاً :
- إتجهوا اليها .. إنها تحترق .في نفس اللحظة كان خيط الدخان قد أصبح كتلة كثيفة مظلمة ، وبدا أن السفينة تعاني حقاً من حريق هائل يوشك أن يلتهمها بمن فيها .
ارتفعت الأشرعة على ظهر السفينة «دي جراسيا، وانطلقت بسرعة باتجاه السفينة المحترقة ، وكلما اقتربت اكثر كلما ازدادت كثافة الدخان وبان اللهب الأحمر وهو يلتهم جانباً من جوانب السفينة .
وفجأة حدث شئ لم يكن في الحسبان ، فقد ارتفعت
الاشرعة في السفينة المحترقة وانطلقت في الاتجاه المعاكس، وطار صواب القبطان «مورهوزه من هذه الأحداث الغريبة التي تقع أمام عينيه ، فالسفينة ما زالت تحترق وقد طلبت النجدة قبل قليل ، فما بالها تفر الآن من امامهم والنار تلتهب في احد جوانبها وتكاد تلتهمها كلها ؟وما إن رفع منظاره إلى عينيه حتى عرف السر . اطلق صوته هادراً مثل زئير الأسود :
- أطلقوا النار ... انه قفذ البحر القذر - وبلحظات اشتعل
الفضاء الذي يفصل بين السفينتين وراحت جميع المدافع تطلق قذائفها دفعة واحدة باتجاه سفينة القراصنة .
في تلك الأثناء سقطت كرة كبيرة من النار المشتعل في البحر .
انها خدعة اخرى من خدع هذا القرصان اللعين ، لقد أضرم النار في قطعة كبيرة من المطاط وضعها باحد جوانب السفينة ووضع تحتها قاعدة من الصفيح وقد أحاطها أحاطة تامة كي لا تتجاوز مكانها إلى جوانب السفينة الأخرى ، وحين اقتربت «دي جراسيا، ورأى مدافعها الكثيرة . وكان قد ظن أول الأمر أنها احدى السفن التجارية المحملة بالبضائع والأموال ـ عرف أنه قد وقع هذه المرة في الفخ الذي نصبه بنفسه وان السفينة التي سبق له أن سلبها قد عادت ثانية تبحث عنه ، وهي الآن مدججة بالسلاح وبالرجال الشجعان .
وهكذا فعل فعلته ورمى النار الوهمية التي أراد بها خداع القبطان وفر لائذاً بالبحر المترامي الأطراف مبتعداً عن ملاقاة عدوه اللدود .
ولكن أين سيهرب والقبطان «مورهوز» يلاحقه ؟ كيف سينجو وهناك ثلاثون بحاراً يملأهم الغيظ مما فعل بهم في أحابيله وخدعه السابقة ، وأمنيتهم الوحيدة أن يظفروا به ويثأروا لأنفسهم وأموالهم التي سلبت ؟
وهكذا بدأت المطاردة .. سفينة القراصنة المفككة ، المجهدة ، التي لم ترس على بر منذ اشهر والسفينة «دي جراسيا، التي اعيد بناؤها وجددت اشرعتها ومجاذيفها اكثر من مرة ، وبدا بعد دقائق أن الصراع غير متكافئ ، وان النسر لابد من أن ينقض
على الطائر الصغير الذي يحاول يائساً الخلاص من مطاردته .
وتوقفت سفينة القراصنة وارتفع العلم الأبيض على ساريتها معلناً الاستسلام .
ونظر القبطان «مورهوز» إلى سفينة القراصنة وهي في حالتها تلك وراح يضحك عالياً ، فماذا ترى سيفعل هذه المرة ؟ هل يترك القرصان يرسم له خطة جديدة للايقاع به أم يظل يطلق النار عليه وعلى بحارته القذرين ويخلص البحر من شروره وآثامه ؟
كان رأي مساعديه ان يغرقوا السفينة بالمدافع ولا يدعوا للقرصان فرصة أخيرة لوضع فخ جديد في طريقهم ، فربما كان الذي فعلوه جزء من خطتهم تلك، وما ذاك الحريق الكاذب والفرار في عرض البحر ثم الوقوف فجاة ورفع الراية البيضاء إلا شرك وخدعة جديدة قد توقعهم ثانية في أسر هذا القرصان
الشرس ، بعدها لن ينفع اللوم ولن يجدي الندم .
ولكن القبطان «مورهوز» كان واثقاً ثقة كبيرة بنفسه ومطمئناً اطمئناناً كاملاً من أن قنفذ البحر، قد وقع هذه المرة في يده ولن تنفعه حيله والاعيبه بشئ ، فأوعز الى بحارته بعدم إطلاق النار ، واللحاق به ثم القبض عليه وعلى بحارته وهم أحياء .
ولكنه لم ينس أن يعطي تعليماته إلى رماة المدافع بالبقاء خلف مدافعهم على أهبة الاستعداد لاطلاق النار عند الضرورة .