2: أشبَاحُ الذِّكريات

639 72 60
                                    

إستكانت الأورَاق الطِّبية على الطَّاولة الزُجاجية الفَخمة. نظراتها وهِي تُعاود قِراءة تلك الحُروف المَيتة كانت خَاوية. فَارغة مِن أية أحَاسيس. لم تُحرك ساكنًا طِيلة اللَّحظات التِي تلت حركتهَا العفوِية فِي إفلات الأورَاق من قبْضةِ يدها.

بَدت فِي سُكونها كتمثال مِن الرُّخام. والغُرفة مِن حولها كَانت خاليَة من الحيَاة. قَاطع ذلك السُّكون رنين هاتفها العَنيد، رمشَت مرتَيْن وإنحنت لتمسِك الهاتِف الذِي يهتز بمكَانه كمخلُوق يعُود للحيَاة. مررت إصبعها على زر إجابة المُكالمة.

"لُورينا! يا فتاة. لا أصدقك! لن تحضري لحفل اللَّيلة!" هتف صوتٌ أنثوي من الطَّرف الآخر. لمعت عينا لُورينا وهِي تتحرر مِن سُكونها الذِي دَام لبضعَة دقائق. إلتقطت بيدهَا الحُرَّة الأوراق الطِّبية ورمتها فِي سلة المُهملات التِي تستقر بالقُرب من الطَّاولة الزُّجاجية.

نهَضت من كُرسيها الدَّوار وعينيها تُعانقا النَّتيجة التي طُبعت فِي نهاية الوَرقة الطِّبية وباللَّون الأحمر 'سَالب' للمرة الأخيرة.سَارت فِي أرجاء الغُرفة الفسِيحة.

"أهلًا باربرا. أعتذر، لا أرى داعي مِن حُضور الحفل." تحدَّثت وهِي تقترب من المَطبخ. سمعَت على الطَّرف تذمر مكتُوم.

"هيَّا لولو! إنهُ الحفل الخيري للدَّار!" شجعتها باربرا. لتبتسم لوريِنا وهِي تفتح المُبرد لتُخرج مِنه صِينية مُغطاة بورق الألمينيُوم. وتضعها على المِنضدة الرُّخامية.

"بارب، لا نِية لدِيَّ في أن أتجهز طِيلة المسَاء مِن أجل حفل." أجابتها وقد وضعت هاتفها بَين أذنها وكتفها ورَاحت تنزع الورَق من عَلى الصِينية الزُجاجية وتضعها فِي جهاز التَّسخين.

"لورينا! إنهُ حفل فِي الأربعين عَام! تعلمين.. هارِي لا يُقيم الحفلات دومًا! ذلك البَارد المَغرور." تذمرت باربرا بوُضوح. لتقهقه لورينا بخفة وهِي تُخرج صِينية المعكرُونة بعد تسخِينها وتضعها عَلى الطَّبق لتحمله نحْوَ طاولة الطَّعام.

"تعلمين؟ ذلك البَارد المَغرور الذِي أنتِ مُعجبة به صحيح؟" إستفزتها لورينَا وهِي تَغمس الملعقة فِي المعكُرونة.

"لورينا!" هتفت باربرا. لتضحك لورينا وقد أراحت الملعقة على الطَّبقِ. أرجعت بأناملها بخفَة خصلات تدَّلت على جبينها تلَّونت بالبيَاض.

"حسنًا حسنًا.. لن أقول شيئًا." قهقهت لورينَا مِن جديد. ليتامل إلى مسامعها ضحكة باربرا المكتُومة التِي إمتزجَت بالخجَل الأُنثوي.

"جيِّد. أستأتين إذًا؟" سألتها برجاء. لتُميل لورينا رأسهَا جانبًا بإستسلام.

"لن تتوقفي حتَى أوافق؟" سألتها بتنهيدة. هتفت باربرا.

"بالطَّبع! هذا الحفل مُهمٌ جدًا، وأنتِ مُديرة العلاقات العامَة عليكِ أن تحضري أكيد!" أجابتها باربرا بحماس واضح. لتبتلع لورينا قطعة مِن المعكرونة التِي مالت حرارتها للبُرودة.

"إلهي، حسنًا سآتي." أجابتها بيأس. لتبتسم وهِي تسمع هتاف باربرا وقد أبعدت الهاتف قليلًا عنها.

"رفاق! ستأتي!" هتفت باربرا للموظفين. لتومىء لورينا بإستسلام.

"إسمعي. تمنِّي لي الحظ." أردفت وهِي تعبث بالملعقة بين أصابعها وقد إختفت شهيتها.

"إنهُ ريَّان صحيح؟" سألتها باربرا بتفهُم. لتفلت لورينا تنهيدة مريرَة وقد قبضت على يدهَا بيأس تام.

"نعَم، سيعُود من أمستردام اللَّيلة." أجابتها وقد تلاشت علامات البَهجة مِن وجهها سريعًا.

"أتمنى أن تسري الأُمور على خيرٍ ما يكُون لولو. لا تقلقي، رُبَّما سيكُون مزاجه حسنًا اللَّيلة." طمأنتها باربرا. لترتسم إبتسامة ساخرة على شفتيَّ لورينا.

"أو رُبَّما يكُون مخمورًا أو مُستاءً من إحدى عشيقاته الهولنديات!" سخرت بألَم وقد إبيَّض وجهها وهِي تتذكر أيامٍ سودَاء مرَّت عليها.

"لا تقلقي، الرِّفاق سيكُونون هُناك لأجلكِ إن حصل شيء. فقط تفائلي وتجهزي للحفل حسنًا؟" تمتمت باربرا وصوتُها لم يخلُ من التَّشجيع. أومأت لورينا مُوافقة.

"حسنًا. أراكِ الليلة." أجابتها وقد عادت ألوان الحياة لملامح وجهها المُهدَّل بالتَّعب والأسى.

"اراكِ يا حُلوة." تغزلت باربرا بإبتسامة قبل أن تنتهِي المُكالمة. وضعت لورينا هاتفها على الطَّاولة وتطلعت بجُمود نحو المعكرُونة التِي بردت. لتسبح فِي ذكرياتها

"لورينا حُلوتي! إنها ألذ معكرونة فِي حياتي كلَّها!" صوتُه اللَّطيف المُبتهج دَوى فِي مسامعها وقد رمتها ذاكرتها فِي ذلك الزَّمن الجمِيل الذِي إنتهى عهْده.

"حبيبتي.. تبدين جميلة بهذا الفُستان." عَاد صوتُه الجسُور يتراقص فِي أذنيها. لتسمع قهقهتها الخجُولة التِي فقدتها مُنذ أمد.

"حتى لو لم تتزينِي أو ترتدي شيئًا غاليًا، ستبقين أجمل مَا رأت عينايَّ."هذه المَرة كَان صوتُه همسًا عذبًا في أذنها اليُسرى وهُو يُحاوط خصرها بذراعَه ويقرِّبُها إليه.

رمشَت بعينيها وقد تساقطت حبَات لُؤلؤ على سطح الطَّاولة. عادَت إلى واقعها وقد تلاشَت تلك الذِكريات كأشباح ماضٍ تقتنص مِنْها بَين حِين لآخر. غادَرت المطبخ وقد إستقرت المعكرُونة في كيس القُمامة الأسوَد والصِينية في المَغسلة.

وفي زوايا المَطبخ الفَسِيح الخالِ من الألوان البَاهِرة عَدا الأبيض والرَّمادي البَاردَيْنِ. وقفَ طَيفُه مُبتسمًا، يتطلع إليها بحُبور. حيث كَانت مُنهمكة فِي إعداد الغذاء قَبل أن يدنُو منها ليُحاصرها بَين ذراعيه القوِيَتين ويطبَع قُبلاتٍ حُلوة على وجنتِيها وقد عانقت ضحكاتها أرجَاء المكَان. وإنْهمكَا فِي حديثٍ عذبٍ باتَ سرابًا من المَاضي الآن.

دموع الغُيوم || N.Hحيث تعيش القصص. اكتشف الآن