3: التِّمثال يبكِي

458 57 59
                                    

صوتُ إنغلاق باب المنزل جعلها تتسمر مكَانها وتتجمد أمام المرآة. حيثُ كانت ترتدي فستان أزرق داكن للسَّهرة، وشعرها الدَّاكن قد صففته على هيئة تسريحة الكعك التقليدية. وجهها الذِي يحمل جمال آخاذ بارد زينته ببعض مستحضرات التَّجميل الخفيفة. ككحل عربي وأحمر شفاه نبيذي اللَّون يُضفي لبشرتها الحنطية تألقًا.

كل هذا وهي غدت كالتِّمثال، كهوايتها في السنوات الأخيرة مِن عمرها. صوتُ خطواته وهي تصعد الدرج بتمهل أشعرتها بأن ملك المَوت قادمٌ لأجلها. فقدت قُدرتها على الحراك وعينيها الشَّبيهتين بسماء ليل في وسطِ الصَّحراء، إستكانَت الرياح فيهما وغدوتا زجاجتَين. ثمَّ أطل طيفه.. لتنتطلق ترنيمة الموت فِي داخلها وهِي تراه يترنح بوضوح دلالةً على سكره الشَّديد.

مرر يده على شعره الأحمر كاللهب وعينيه الخضراوين كقطٍ بري يترصد بفريسته العاجزة تتفحصانها بجُوع واضح. أخفضت بصرها ليغيب جسده عن مرمى بصرها وتُعانق الأرض الخشبية المستوية.

"إلى أين؟" سألها مخمورًا، تهدَّل صوته بحشرجة ناعسة جعلت قلبها ينقبض خوفًا، رهبة!

"إلى الدَّار.. لدي حفل هذا المساء." أجابته بصوتٍ جليدي خالٍ من أي معالم للحياة، ككل الأشياء في هذا المنزل الكئيب. تعالت ضحكاته كنغمات مشمئزة تُنذر بالمقابر وهدوئها. تمشى حولها كذئبٍ يحوم حول طريدته.

"حفل؟ أوه لورينـا!" قهقه مجددًا وبان في حديثه لكنته الهولندية العريقة، رغم كونه ليس هولنديًا إطلاقًا.. إنما من طول معاشرته للبلد، لعاهراته هُناك.

"أجل." أجابته بغير إنفعال يُذكر، إنخفض رأسها يجعلها تبدو كخاضعة له.. لكنها ليست كذلك. إنما لا تريد ان تلوث بصرها بالوحش..المُدمن حد الموت على الخمر!

"لورينـا." عاد صوتُه المتحشرج عند أذنها، قريبًا منها.. أنفاسه تعصف بعنقها لتشتم رائحة الكُحوليات اللاذعة من فمه.

"أنتِ تعلمين ما يثير غضبي." عاد يهمس وراح ينقر بأنامله على كتفها يُزيح كتف الفستان جانبًا ليكشف عن جلدها الذي غدى باردًا منذ مجيئه.

"وأنا مرهق كي أتجادل معكِ في مواضيع قديمة..كلانا نعرف نهايتها التعيسة." أردف بخُمول وقد إختفت يده من على كتفها. لتشعر به يعتصر خصرها ويسحبها إليه حتى إصطدم ظهرها بصدره الصَّلب.

"سنقيم إحتفالًا على طريقتنا عزيزتي." قهقه وقد قاطعته الحازوقة ليخفت ضغط يده على خصرها وشعرت به يبتعد عنها.. ثمَّ سمعت صوت سقوطه على الفراش، مغمًى عليه من الثمالة. لم ترمش كي لا تتساقط تلك اللآلىء من عينيها الزجاجتين.. هِي تمثال مُنذ أن إبتدأ هذا الفصل التعيس من حياتها.. وهِي تعلمُ جيدًا أن التماثيل لا تبكِي أبدًا، لأنهُ لا حياة فيها.

دموع الغُيوم || N.Hحيث تعيش القصص. اكتشف الآن