الفصل الأول
**********تلامست الكفوف ببعضها، وكل واحداً يرسم علي شفتيه أبتسامة مُجاملة، حتي وجدوا رجلا يحمل من الشيب أعواماً يتجه ناحيتهم قائلا ببشاشة: أهلا بولاد البلد الغالين، نورتوا البلد كلها.
فأرتسمت أبتسامة بسيطة علي شفاهم وهم يُطالعون ذلك الرجل العجوز: البلد منوره بيك ياحاج ناجي
وتقدمهم داخل بيته العتيق وهو يصيح بأولاده وأولاد أخوته: يلا ياولاد جهزوا العشا.
فنظر الثلاثة رجال لساعات أيديهم الفخمة، مُنتظرين انتهاء هذه الضيافه المدعوين إليها بفارغ الصبر فهو يوم سنوي ،يأتون فيه من أجل خدمة أهل بلدتهم التي تربوا فيها لسنوات من عمرهم
................................................................
وفي بيت قديم للغاية، تجلس فتاه بائسة مُحطمة الأمال بسبب جفاء أخ عاق ، لتسمع همسات والدتها الحنونة التي تُصبرها دوما علي مرارة الحياه: متخافيش يا بنتي
لترفع ليلي عيناها الدامعة وهي لا تعرف بماذا تُجيب ولمن تشكوا، فالخوف أصبح أساس حياتها .. لتُعاود النظر إلى أثر جروح أيديها فلمحت والدتها نظرتها البائسه ،فحاولت أن تُمد ذراعيها كي تُضمها ولكن مرضها بالشلل قد أعاق حركتها فمُنذ عامان قد أصابتها جلطه أنهت الباقي من حياتها في شلل دائم
لتواسي أبنتها : ربنا مابينساش عباده يا ليلي، اوعي في يوم تفتكري أنه ناسيكي مهما قابلتي في الحياة يابنتي.
فأحياناً كلمه واحده تُريح جروح القلب، فنهضت سريعا من أوجاعها كي ترتمي في أحضان والدتها: أنا بحبك أوي يا ماما، وهستحمل ضرب محمود ليا وهشتغل ليل ونهاروهذاكر وأنجح عشانك
...................................................................
أخذت تتطلع بيأس لوجه زوجها النائم بجوارها ..بعد ليلة لبت له رغبات جسده، لينال ما أراده، فهبطت دموعها مُتذكرة الرسائل والصور التي تُبعث إليها...
ليتململ هو فوق فراشهما قائلا: مالك ياهبه؟
فلم تتمالك هي دموعها و تنهدت بخيبه : أنا تعبت يا هاشم، تعبت حرام عليك و التقطت هاتفها الموضوع علي المنضده المجاورة لفراشهما وصرخت به: ابقي قول للي بعتت الصور إن مراتي عارفه خيانتي ليها وما فيش داعي نوجعها أكتر من كده.
ثم نهضت من جانبه والألم يعتصرها، فأجابها ببرود: معرض العربيات بتاع عمي خلص، مش فاضل غير الافتتاح .. ابقي بلغي عمي و وصليله سلامي.
و ألتف بجسده للناحية الأخرى كي يُكمل نومه، لتسقط دمعة بائسة من عينيها وهي تُتمتم بقهر: ربنا يسامحك يا بابا!
...................................................................
إلتقط صغيره بين ذراعيه وأخذ يدور به وهو يضحك: وحشتني يا حبيبي.
فأخذ الصغير يُطالعه بحب، فأبتسم أياد بحنو أبوي : قولي إبني البطل عمل إيه وأنا مسافر إوعي تكون تعبت داده حُسنيه يا مشاغب؟
لتأتي إمرأه من خلفه تحتل التجاعيد جزء من ملامح وجهها قائلة ببشاشه: سليم حبيبي طول عمره شاطر، وتابعت حديثها بدعابة للصغير: المربية الجديده طفشت زي اللي قبلها
فأخذ ينظر لطفله بيأس : ديه عاشر مُربيه يا سليم.
فتسلل سليم من بين ذراعي والده، الي أن استقرت قدماه علي الأرض .. وأخذ يُطالع والده بسواد عينيه ثم تركه وانصرف إلي غرفته حيث ألعابه ورسوماته.
فتنهد أياد قائلا: أنا تعبت أوي يا داده سليم كل ما بيكبر كل ما بيصعب عليا فهمه.
فتأملته حسنيه قائله بحنو: إبنك محتاج لأم يا بني، اتجوز يا حبيبي وانسي الماضي بقي.
فتذكر زوجته التي كان يعشقها وتنهد قائلا: و انسي سلوى يا داده؟؟
فتابعت حديثها بحزن علي حاله: الحي أبقي من الميت يا ابني، وكلنا مسيرنا هنموت... ومحدش بيفضل عايش علي الذكريات و الحياة مش بتقف علي حد.
وبعدما أنهت حديثها، صارت بعيدا عنه... ليقف هو شارداً في تلك الصورة المُعلقة علي أحد الجدران ليتوه في ملامح لم ولن ينساها.
...................................................................
أخذ يضع بعض العقود في أحد الأدراج بتمهل ،ليتوقف عند أخر عقد فيبتسم براحة.. فصاحبة أخر عقد زواج عرفي قد أنتهي منها ليلة أمس.. ليعود كما هو ذئب برئ.
فدخل في تلك اللحظة صديقه قائلا: مش هتبطل اللي أنت بتعمله ده يا حاتم؟
ليرفع حاتم وجهه الغامض بعدما أغلق دُرج مكتبه: في إيه يا طارق مالك؟
فأجابه طارق بندم: أنا إيه اللي خلاني أسمع كلامك و أرجع مصر تاني و أسيب شغلي و أجي أشاركك؟
لينهض حاتم من مجلسه يُدندن بفخر: عشان تنجح وتوصل يا طارق ولا كُنت عايز تفضل حتت موظف في شركة طول حياتك ... ورفع بأحد ذراعيه مُشيراً علي كل ركن حوله قائلا: ديما طموحاتك واقفة يا صاحبي.
فأبتسم طارق ساخراً وهو يتأمل مغزى كلامه قائلا بهدوء: خليت البنت تفسخ خطوبتها من خطيبها اللي بيحبها واتجوزتها عرفي ليه ياحاتم .. هي ده المُساعدة اللي بتقدمها للناس الغلابة؟
فأطلق حاتم ضحكة عاليه: قول كده بقي، وتمتم غاضباً وهو يُصيح : بنت الإيه مكفهاش الفلوس اللي أخدتها.
وكاد أن يُكمل بكلماته البذيئه ليقطع طارق حديثه: يا ريت توقف حملاتك في مُساعدة الغلابة، لأنك تقريبا بقيت بتجني شهواتك من وراها ... وتابع بخطواته تاركاً له المكان بأكمله.
فجلس حاتم علي كرسيه وهو يتلاعب بأحد الأقلام مُتمتماً: هتفضل محترم لحد امتى يا طارق!
..................................................................
أخذ يطوي أكمام قميصه بغضب وهو يُطالع أحد رجاله الخونة، وأنحني قليلا كي يزيل تلك العصبة السوداء عن عينيه، ليفتح الرجل عيناه بفزع ينتظر موته
وبدأ يُتمتم بهدوء: ورق مرور البضاعه من الجمارك يتمضي مفهوم.
ليتنفس الرجل بخوف وهو يُحرك رأسه: بس يا هاشم بيه أنا ماقدرش أخالف مبادئي.
فأطلق هاشم ضحكة عاليه وهو يُنفث دُخان سيجارته في وجه الرجل قائلا: وكان فين الشرف والضمير ده و انت بتقبض الفلوس؟
ليغمض الرجل عينيه بألم: والله أنا عملت كده عشان عملية أبني، وهبطت دموعه بحسره وهو يُتابع: اشتريت حياة إبني بفلوس حرام، لحد ما ضاع مني.
ونطق الرجل بصعوبة وهو يتذكر ابنه: ابني مات!
فلم تُحرك تلك الكلمه شئ فيه .. ليقترب من أذن الرجل كالأفعي قائلا ببرود: كل ده ما يخصنيش يا أستاذ حمدي سامع، و إلا هعمل تصرف مش هيعجبك ومش هحترم شيبتك ديه.
فأحنى الرجل رأسه بأسف قائلا : لله الأمر من قبل ومن بعد.
ليخرج هاشم مُشيراً إلي رجاله كي يتبعوه ... و أغلقوا الباب تاركين ذلك الرجل يتذكر دموع زوجته وابنته اللاتي لم يتبقي لهما أحداً غيره.
..................................................................
جلس بأسترخاء يُتابع نظرات ذلك الرجل الذي دوماً يتحامي خلف سطوته فهو ابن خالته وصديق طفولته وقبل كل ذلك اخ له فقد تربوا سويا في بيت واحد عندما توفت خالته وزوجها في حادث ليأتي هو ليعيش معهم وعندما مرت السنين توفي والده هو ايضا لتلحقه والدته بعد عامان ليتركوهم بمفردهما في حياه قاسيه ، فقد كان هاشم لم يبلغ العشرة أعوام اما زين فقد كان عمره اربعة عشر عاما .. فيفرقهم القدر عندما جاء اهل والده لأخذه ليعيش مهم في مسقط راسهم .. ليبقي الاخر وحيداً دون أهل .. ليُصبح بعد سنين طويلا رجلا طاغي بهيبته وامواله
فهو" زين نصار"
هاشم بفخر: ما تقلقش يا زين كله بقي تمام، والراجل هيمضي علي مرور البضاعه...وأكمل بتأفف: مكنتش صفقة ألبان ديه اللي هتجيب ليا وجع الدماغ.
فزفر زين حانقاً من سلبيته قائلا بتوعد: و مين قالك ان أنا قلقان، ده شغلك و انت حر فيه... وأنا نصحتك كتير...وصبري عليك انت عارف سببه
وأشار نحوه بأصبعه قائلا بجمود : وافتكر ياهاشم أن ديه أخر مره هداري على عمايلك الوسخه وصفقاتك المشبوها
ليبتسم هاشم قائلا بسعادة : قدرت تأخذ الأرض اللي علي طريق الساحل؟
فطالعه زين وهو يرتشف من فنجان قهوته بتمهل قائلا: قريب أوي الأرض هتكون تحت إيدي.
ثم نهض من مجلسه ليتحدث بغضب: وبحزرك لأخر مره يا هاشم من صفقاتك المضروبة اللي بتعديها بأسمي من ورا ضهري ، أول و أخر مرة هساعدك أنا مش ناقص وجع دماغ.
ومن ثم صار بجسده الشامخ ووقاره الذي يهابه أي أحد يراه
ليبتسم هاشم بأرتياح: وإيه يعني الألبان يكون تاريخ إنتاجها انتهي من سنه .. عادي هي الناس بيحصل ليها حاجه ولا بتموت حتي
وبدأ يُشعل سيجارته وهو يستنشق دُخانها بسعاده حتي رن هاتفه بأحد الأرقام ليكسو وجهه الضيق فيغلقه سريعا متأففا:شكلي مش هخلص منك ياحمايا العزيز.
...................................................................
أخذت تمسح الأرضيات بإنهاك، ونظرات أحدهم تخترقها بوقاحة دون أن تشعر .. لتقف زوجته خلفه قائلة بضيق: راجل عينه زايغة بصحيح.
فألتف إليها هو هامسا في أذنيها: شايفة الستات، يا ساتر علي خلقتك اللي تسد النفس .. ربنا يسامحك يا حاج.
ليهبط درجات السُلم وهو يُدندن ومازالت أعينه علي تلك البائسة التي تُزيل عرق وجهها المُتدفق، فأقترب منها قائلا بأبتسامة لا تعلم بخبثها: عامله إيه يا ليلي؟ و أمك و أخوكي محمود عاملين إيه؟
فأبتسمت ليلي بود وهي تمسح أيديها في عباءتها الباليه: الحمد لله بخير يا بشمهندس.
فيسمعوا صوتا من خلفهما عالياً، و تقترب منهما زينب بغضب: الله الله، ما بقاش غير الخدامين علي أخر الزمن يقفوا يتسايروا مع أسيدهم.
ثم دفعتها بيديها صائحة: يلا علي المطبخ يا بنت فاطمة.
لتخفض ليلي برأسها أرضا بعدما حملت دلو الماء ودموعها تهبط دون توقف... ليُطالع هو زوجته بحنق : يا ساتر عليكي ست، صوتك زي الغراب.
ولف عباءته علي جسده وهو يُتمتم: جوازه تقصف العمر.
...................................................................
نظرت إليه والدته بتعب: أختك لسه ما رجعتش من بيت الحاج ناجي يامحمود.
ليتأمل هو لفافة التبغ التي بين يديه مُتأففا: قولتلها تيجي بعد العزومة اللي عاملها الحاج ناجي.. عشان تاخذ الأكل اللي فاضل.
فتنهدت أمه بحسره: حرام عليك أختك يا محمود، البنت بتذاكر و بتشتغل.
ومن ثم أدمعت عيناها بألم: يا رتني كنت بصحيتي ما كنتش حوجتها أبدا لحد.
لتدخل ليلي في تلك اللحظة مُحملة ببواقي الطعام، فنهض محمود قائلا بنهم: جبتلنا إيه!
وتأمل الطعام بسعادة وهو يدفعها بعيدا ويأخذه منها : لما أكل إبقوا كلوا .. وعاد يجلس ثانية ليلتهم الطعام ونظرات أخته وأمه تحاوطه.
فأقتربت هي من والدتها لتُطمئنها بأنها بخير، وما من دقائق معدوده كان قد التهم الطعام فيها: أنا خارج .. بيت فقر مفيهوش حاجه عدله.
وتركهم وانصرف وهو ناقم علي حياته .. فجلست هي بجانب والدتها علي فراشها البالي وأخرجت من جيب عباءتها لفافة بها طعام أخر خبأته لها: خدي يا ماما كلي عشان تخدي دواكي.
لتتأمل فاطمة أعين ابنتها بأشفاق : سامحيني يا بنتي، أنا السبب خلفتلك أخ مايتسماش راجل.
فربتت ليلى علي يد والدتها بحنان وهي تبتسم: ربنا يهديه يا ست الكل.
وبدأت تُطعم والدتها بذلك الرغيف الذي يحتوي علي قطعة من اللحم قد خبأتها لوالدتها وهي تعلم بأن أخيها لن يترك لهم الطعام الذي أخذته بعد خدمتها في ذلك البيت الذي كانت تعمل به والدتها قبل أن تصيب بالشلل.
فأبتسمت أمها برضي وهي تأكل الطعام: بكره ربنا هيعوضك خير يابنتي .. بس اصبري