...بيكاسوسّ...

7.2K 466 3
                                    

.
.
.
.
.
رحل بيكاسوس والفتاة عن القصر ليلاً كما لو كانوا هاربين عنه بلا عوده، وكان الطريق طويلاً شاقاً ومليئاً بالمطبات التي ابقت ميراج مستيقظه طوال الرحله. كانت تنظر الى الرجل الذي ستقضي معه الله يعلم كم من المده وربما حياتها كلها او هذا ما اعتقدته، لأن توتنيان لم يخبرها بشيء ، فقط ان تنصاع الى ما يقوله بيكاسوس وان لا تحاول الهرب لأن المكان الذي سيرحلون اليه يعد خطراً للغاية.
لم تكن ميراج لتستمع لأوامر كهذه من قبل ولكنها وجدت نفسها خائفه من الهرب، فعندما فعلت ذلك اخر مره، وجدت نفسها تتناقل بين الامواج الى مكان غريب وفقدت اخاها والطاقم بأكمله، واذا هربت الان ربما سيحدث لها الاسوء كما ان رفقة بيكاسوس ليست بالسيئه او هذا ما شعرت بِه، وهو بدوره ارسل لها ابتسامات حزينه بين الحين والاخر ليشعرها بالاطمئنان ويخبرها بأنه لا يتجاهل وجودها حتى عندما قضى معظم وقته ينظر من النافذه الى القمر والاشجار التي اخذت تخطف من نافذة العربه.
فكرت ميراج في والديها وقريتها، هل افتقدوها ياترى؟ ...
بالطبع ، لأنها كلفتهم مقداراً كبيراً من المال كان سيدفعه ذلك الرجل الكهل الذي تقدم لطلب يدها وجعل والديها يوافقان بسرعة مما دفعها للهرب على متن سفينة أخيها ولم تندم على ذلك، حتى بعد الذي حصل، كانت تفضل الموت على العودة الى هناك، وفي كل الاحوال لم تشعر بالانتماء اساساً.
ارادت ان تتركهم في وقت اسرع لولا صغر سنها، ولم يكن لديها اي وجهة محدده...
غفت الفتاة الصغيرة بعد ان استهلكت جميع طاقتها واخذت تترنح على جانبي المقعد حتى كادت ان تسقط لولا جلوس بيكاسوس امامها، الذي بادر بأمساكها بسرعه وجلس الى جانبها ليضع رأسها على كتفه حتى تستند ويدعها ترتاح ثم عاد للنظر الى خارج النافذة وترك افكاره تجول في عقله.
لم يكادوا يصلوا بعد وها هو يشعر بالحنين الى المملكة ولكن لا بأس... لقد تحمل الكثير من قبل، وعدة سنوات كانت لا شيء مقارنةً مع عمره.
- ميراج...
قال بيكاسوس وهو يربت على وجه الفتاة بلطف لتستيقظ ، فلقد وصلوا وحان وقت النزول، حان وقت مواجهة حكم ميكائيل ورؤية بيتهم الجديد.
فتحت الفتاة عينيها ببطئ ونظرت الى بيكاسوس الذي ابتسم بدوره وقال وهو يشير الى الكوخ الذي قبع خارجاً:
- لقد وصلنا...
نظرت ميراج الى المنزل الجديد وهي تتأمل كل تفاصيله. كان كوخ كبير نسبياً ذا نوافذ زجاجيه عديده غطى معظمها قماش اسود يحجب نور الشمس من الدخول الى الداخل، واحاطته الغابه من جميع الجهات بالرغم من وجود انارة من حوله مما دل على وجود بيوت اخرى في الارجاء.
عندما ارادت الترجل من العربه وجدت ان بيكاسوس قد نزل بالفعل ومد يده اليها ليساعدها على النزول فأخذتها بأمتنان لأنها وجدت العربه مرتفعه قليلاً عن سطح الارض. وبعد ان نزلا، وجدت من الصعب التخلي عن يد بيكاسوس في هذا المكان الجديد، ولم يبدو بأنه يمانع، بل ضغط على يدها ونظر الى الامام ثم سار ليفتح الباب وهو يقول :
- هيا بنا...
شدت ميراج على يده اكثر عندما فتح الباب وكان المنزل معتماً للغاية ، لم يكن هناك اي ذرة للنور فيه، ولو لم تكن قد رأت بأم عينها ما كان خارجاً لظنت انها اصيبت بالعمى:
- لا بأس...
سمعت بيكاسوس يقول بنبرة هادئة ولم تفهم ماذا يعني، ولكنها شعرت بالاطمئنان قليلاً لوجوده بجانبها.
تقدم بيكاسوس بخطوات سلسة في العتمة بفضل نظره الليلي ليتجه لأقرب مشعل زيتي ويقوم بفتحه، فقط حينها ابتسمت الفتاة، لأنها رأت الضوء وفرح هو عندما سمع دقات قلبها تتباطئ لتصبح اعتيادية مجدداً ثم تركها ليفتح بقية المصابيح حتى اصبحت معالم المنزل كلها مرئية وواضحة لها.
غرفة جلوس صغيره مع مدفأة خشبية وسجادة من الفرو امامها والى الامام ممر يؤدي الى اتجاهين، عند جهة اليمين كان هناك المطبخ والى اليسار باب يؤدي الى غرفة نوم وسلالم. عندما توجها الى الاعلى ليستكشفان معاً وجدا بآنها غرفة نوم اخرى تحتوي على نافذه مدورة سقطت عنها الستاره السوداء لتدع ضوء القمر يتسلل الى الداخل.
- هذه ستكون غرفتكِ.
قال بيكاسوس وهو يشير الى الغرفة واليها، وبطريقة ما تمكنت من حزر ما كان يقصد. لقد اختار لها هذه الغرفة لأنها معزوله عن بقية البيت وبأمكانها ان تتمتع بأشعة الشمس دون ان تصل اليه.
قام بيكاسوس بتحضير الفراش للفتاة لكي تتجه الى النوم وحالما فعلت عاد الى الطابق الارضي ليقيم ما حوله ويكتب لائحة بما سيحتاجونه في الايام القادمه، وبالطبع لم يتمكن من الذهاب الى السوق في النهار، لذلك قرر عند هبوط الليل وخلود الفتاة الى النوم سيتوجه نحو سوق القريه ويشتري كل ما هما بحاجته.
بعد ان اكمل اللائحه جلس عند احد النوافذ وقام بأبعاد الستارة قليلاً لينظر الى القمر والسماء، ثم دعى ان يكون قوياً كفاية للنهاية، ليس من اجله، لا بل من اجل الفتاة التي ليس لها ذنب بما يجري، ووعد نفسه ان يساعدها قدر المستطاع، فأذا كانت شارلوت لا تزال على قيد الحياة وسقطت في موقف كهذا، كان يريد لأحدٍ ما ان يساعدها ويمد لها يد العون...
.
.
.
كانت الايام الاولى هي الاصعب بالنسبة للأثنين، فعندما كان يذهب بيكاسوس الى السوق ليلاً ، كانت الفتاة تستيقظ مرتعبه وهي تظن بأنه تركها ورحل، لذا في كل مره كانت تنزل لتنتظره قرب الباب، وفي مرات عده وجدها نائمه على الارض.
كان بيكاسوس يرغب ان يطمأنها كثيراً ويخبرها بأنه ذاهب الى السوق لا اكثر ولكنها لم تكن لتفهمه، لذا قرر ان يحاول تعليمها بعض كلمات لغته الضرورية.
وفي كل صباح عندما كان يقوم بتحضير الفطور لها ، ردد اسماء المكونات والادوات والاثاث وكل ما رأه امامه، بالرغم من انه شعر بالغباء قليلاً الا ان ضحكاتها وتعابير وجهها التي عبرت عن المتعه والسعادة قليلاً جعلته يرغب بالاستمرار.
اصبح الامر بالنسبة لها لعبة اكثر من دروس تعليم، وفي كل مرة جلسا بصمت كانت هي من تقترب الى بيكاسوس وتشير الى الاشياء ليسميها لها ورغم هذا كله، لم يغب عنها تعابير الحزن التي تكسو ملامح الرجل بين الحين والاخر، حتى عندما كان يجلس الى جانبها ليطالع او يقرأ لها او يعلمها الكتابه، كان يبدو شارد الذهن وارادت ان تسأله عن السبب، ارادت ان تتحدث معه وان تخبره بأن كل شيء على ما يرام...ولكن مهما حاولت وبذلت جهدها لم تستطع اخراج صوتها، كما لو كان هناك حائطاً عالقاً في حنجرتها يمنعها من ذلك.
.
.
.
شعر بيكاسوس بوخزة القلم على ظهره، وعندما استدار وجد ميراج تقف خلفه وهي تمسك ورقة كتب عليها شيئاً ما، فأخذها ليقرأ ، وحالما وطأت عينيه على الورقه اتسعتا وبدا عليه التوتر:
"من هي شارلوت؟"
- من... من اين لكِ هذا الاسم؟...
سألها بتعجب، فحسب ما يتذكر، لم ينطق احد بهذا الاسم امامها ولا مره.
اخذت الورقه من يده ووضعتها على المنضدة لتكتب مجدداً وبعد ان انتهت قربتها له وهي تنظر اليه بقلق. " تردده انت دائماً في النوم عند الصباح "...
تصلب بيكاسوس في مكانه، لم يهتم للقواعد الغير مرتبه ولا حتى للأملاء، لقد بدأت تتقن لغته وهذا شيء لا غبار عليه ولكن، كم مقدار الاشياء التي تفوه بها وهو نائم؟
- فقط هذا الاسم؟
سألها بحذر فأومأت وحمد ربه على ذلك، لم يرغب لها ان تعلم شيئاً عن ماضيه او حتى دوافعه تجاه ميكائيل، فربما يسمع افكارها عندما يعودون، او اسوء، قد تتحدث وتخبره بما سمعت...
" هي حبيبتك؟..."
كتبت له بعيون متلئلئة تملئها الفضول ، فأبتسم بحزن واجاب:
- اختي الصغرى.
وعندما سكت اشارت له ان يكمل الا انه لم يفعل...
...شارلوت...
لم يعتد بيكاسوس على التحدث عنها، ولم يعرفها احد سوى ميكائيل...لا يزال يتذكر ذلك اليوم جيداً....
ملئ صراخ الطفله قصرهم وهي تنادي على بيكاسوس لنجدتها بعد ان وضعت احد اعوان ميكائيل يديها عليها بينما كان الاخر يضحك ببرود وهو يرمي جثة والده من الطابق العلوي للقصر.
ركض بيكاسوس نحو اخته وجنرال ميكائيل التي تدعى عدن ليخصلها ولكنه لم يتمكن من ذلك فقبل ان يصل اليهما بخطوات قليلة شعر بقوة ما تحمله وتسقطه ارضاً على ظهره لتتركه مكسراً خائر القوى... لقد كان ميكائيل... الذي وقف فوق جسده ونظر اليه ببرود ثم قال وهو ينظر في عينيه "عدن، اقتليها"، جفلت الجنرال من هذا الامر القبيح خاصةً بعد ان بدأ بيكاسوس بالصراخ رافضاً ذلك ويترجاها ان لا تستمع له وان تظهر بعض الرحمه ، الا ان ميكائيل قام بوضع قدمه على قفصه الصدري وضغط بقوه حتى بدأت عظامه بالتفطر والتكسر واحده تلو الاخرى.
"الخونه...لا يطلبون الرحمه"، كان ما قاله ميكائيل عندما ازداد صراخ بيكاسوس والطفله التي حاولت التخلص من قبضة الجنرال.
" هل ارى التردد في عينيكِ يا عدن؟..."، فجفلت الجنرال مجدداً ثم اغمضت عينيها الحمراوتين واومأت بالنفي بعد ذلك رفعت عينيها لتلاقي عينا بيكاسوس اللتين اعمتهما الدموع كما لو كانت تعتذر له وتطلب السماح، ثم غرست انيابها في رقبة الطفلة لتنهي حياتها وترسلها في سكون خلال لحظات.
ضل بيكاسوس يصيح بأسم الفتاة الصغيره حتى بعدما وضعتها عدن على الارض بلطف وهي تشعر بالتقزز من نفسها. "والان...لديك دين لتعيد تسديده الي ايها الشاب..."، قال ميكائيل ثم سحق بقية العظام والاعضاء تحت قدمه ولم يتذكر اي شيء بعدها... كل ما علمه انه مات في تلك اللحظه ، وعندما استيقظ مجدداً وجد نفسه ما هو عليه الان، وحش خاضع لميكائيل كبقية الحاشية أجبر على الانصياع للحصول على انتقامه.
جفل بيكاسوس عندما شعر بيد دافئه تلمس يده وعاد الى ارض الواقع ليرى ميراج امامه وهي تطالعه بنظرة قلق:
- انا بخير...
قال لها وهو يبتسم ويسير مبتعداً ليحضر احد كتبه للفتاة حتى تتسلى بها بينما يخرج للصيد والسوق.
.
.
.
عزيزتي يومياتي:
" كان بيكاسوس شارداً مجدداً اليوم، وفي كل مرة احاول ان اسأله عن ذلك يتملص من الاجابة بحججه المعتاده. في بعض الاوقات، اعتقد بأنه حزين بسببي، لأنه اجبر على البقاء معي هنا حتى اشعار اخر، ولكن اليوم...اعتقد ان شارلوت هي السبب، لقد ردد اسمها مجدداً هذا الصباح عندما كان نائماً، هذا لا يعني بأني دخلت غرفته...كلا، فلقد كانت صوت بكائه مسموعاً، ربما لان غرفتي تقع فوق خاصته؟
انه شخص طيب، وارغب بمساعدته، لقد مرت سنتان حتى الان ولم يتذمر ولو لمرة واحده وبالرغم من تقدمي قليلاً في العمر وتغير شكلي بعض الشيء، الا انه بقي على حاله، في بعض الاحيان اتسائل ما اذا كان آلهه؟، لقد اخبرني ان الرجل الذي ارسلني الى هنا يدعى ميكائيل...اليس ذلك بأسم ملاك؟، لا اعتقد بأنه يلائمه...لا يبدو كالملاك،على عكس بيكاسوس...
سيصطحبني الى القريه غداً لشراء الثياب، لا يمكنني القول بأني متحمسه لذلك، لقد مر وقت طويل منذ ان قابلت احدهم، وماذا لو ضللت طريقي او ابتعدت عنه؟
اشعر بالخوف لمجرد التفكير في الامر ولكنه شر لابد منه، لا يمكن للمسكين ان يشتري لي جميع الحاجيات بعد الان دون ان اجربها...
تمني لي الحظ السعيد...
.
.
.
يتبع...

مشعوذة الجنرالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن