...هُــدّوُء...

12.4K 614 12
                                    

.
.
.
سَقطت الفتاة ارضاً واخذت تنتحب بجنون مما سبب الذعر للوافد الجديد، عندها نادى الرجل الضخم على الخادم وقال له:
-توتنيان احضر بيكاسوس الان.
-لكن، سيدي...
-الان.
امر الرجل بهدوء فخرج الاخر بعد ان انحنى له وركض مسرعاً.
لم يفعل الرجل الضخم شيئاً سوى انه قطب حاجبيه كما لو ان نحيبها يزعج اذنيه، وعندما كاد ينقطع اخر حبال صبره  دفع الباب ودخل رجل اخر، فقط عندها رفعت الفتاة عينيها المليئتان بالدموع ونظرت نحو الوافد الجديد الذي تبعه الخادم الذي تكلم لغتها قبل قليل.
كان الوافد الجديد لا يشبه البشر في اي شيء، توقفت الفتاة عن النحيب عندما رأته مباشرة، كما لو ان مظهره كان شيئاً مطمئناً، كان عكس الرجل الضخم تماماً، كان رجل ابيض البشرة والشعر، ذا عينان بلون السماء وشفاه بلون الكرز البري، كان يرتدي ثياب بألوان هادئه تميل للون السماء المخلوط بالغيوم.
*هل هذا ملاك؟*
سألت الفتاة نفسها ، كان يشبه الملاك في كل شيء حتى في انامله الرفيعة البيضاء البارده التي لامست خد الفتاة بلطف كما لو اعتادت العزف على قيثارة سماوية.
- لماذا البكاء يا صغيرتي؟
تحدث الوافد الجديد بنظرة عطف وبصوت يشبه انغام كمان حزين بينما اخذ يمسح دموعها، الا ان الفتاة لم تكن لتفهم لغته فأخذ الخادم الذي جلس على ركبتيه الى جانبهما على عاتقه تفسير ما قاله الرجل الملاك كما اطلقت عليه الفتاة في نفسها فقال:
- انه يسألكِ لماذا البكاء...
نظرت الى الخادم وامتلأت عينيها بالبكاء مجدداً وهي تهز رأسها الى الجانبين بالنفي وشعرها المبلل يتطاير عندما تذكرت بأنها لا تستطيع التحدث.
-لا اعتقد انها تستطيع التحدث سيدي...
خاطب توتنيان الوافد الجديد، الذي رقت عينيه مباشرة بعد ان سمع ذلك ثم قال بأبتسامه عذبه بينما نظر في عيني الفتاة بعطف:
- توتنيان قل لها بأني طبيب واسألها ما اذا بأمكاني ان افحصها في حال كانت مصابه...
- حسنا...
التفت الخادم الى الفتاة وقال:
* سيدي يسألك اذا كان بأمكانه فحصك في حال كنتِ مصابه، انه طبيب لا تقلقي، يجب ان تستمعي له حسناً؟*
اومأت الفتاة بسرعة عندما سمعت بذلك وحولت نظرها الى عيني الطبيب الذي ابتسم لقبولها وبدأ بفحص رقبتها بأنامله برقة بالغه وقد شعر بأرتعاشتها الخفيفه من البرد ، ثم حلقها واخيراً رأسها عندما وجد انها قد تعاني من ارتجاج اثر ضربة في جانب رأسها الخلفي، عندما لمسها ببطئ فشعرت الفتاة بوخزة الم اجفلتها.
- انا اسف...
اعتذر الطبيب بقلق ثم جال بنظره نحو الرجل الضخم وقال بنبرة قلق:
- ميكائيل انها ليست على ما يرام، يجب ان اصحبها الى العياده اذا سمحت...
لم يكن الطبيب ليأخذ هدية القرويين لسيده دون اذن، اذ ربما اراد ذلك الاخر ان يقتلها الان او يفعل بها شيء اخر، واخذها دون اذن قد يعتبرها سيده وقاحة وقلة احترام، لكن الرجل قال بكل برود وهو يخلع قميصه الاسود المبلل:
- فقط خذها بعيداً يا بيكاسوس، وعندما تنتهي عد الي، لدي امر مهم لكي نناقشه.
-حسناً .
قال الطبيب وهو ينهض ثم اخبر توتنيان الذي قد اخذ دور المترجم الان ان يقول للفتاة انه سيصحبها الى العياده لمعالجتها فوافقت الفتاة وهي فرحة لأنها ستبتعد عن ذلك الرجل المرعب.
مد بيكاسوس يده لها ليساعدها على النهوض وعندما فعلت قام بحركة خاطفه ليحملها بين ذراعيه.
اجفلت الفتاة ولو كان لديها صوت لاطلقت صرخة تعجب صغيره، لكن عندما شعرت بذراعيه حولها اجتاحها احساس بالامان المفاجئ على الرغم من برودة صدره وخوائه من اي نبض.
-توتنيان، سلها ما اسمها...لربما استطعنا ان نحزره .
قال بيكاسوس وهو يبتسم للفتاة بلطف ، فأخبرها الخادم بذلك، ولثواني بدت كما لو انها كانت تفكر ثم اشارت بيدها الى حركة تشبه الامواج فأخذ توتنيان والطبيب السير خارج غرفة ميكائيل وهما يضحكان ويحاولان ان يحزرا اسم الفتاة ويخففان خوفها في نفس الوقت ، فكان واحد يقول بأن اسمها موجه والاخر غيمه وهكذا... حتى انهما لم يسمعا ميكائيل عندما امرهما بغلق باب الغرفة خلفهما وعندما اصبحا في الممر المقابل للغرفه زمجر ميكائيل بغضب واجفل الثلاثة الذين التفتوا نحوه ليروه واقفاً في باب الغرفه ممسكاً بالباب بيديه الاثنتين وهو ينظر اليهما بغضب وقال بصوت عالٍ:
- انه ميراج!!!! (اي السراب)، واغلق الباب بعنف تارك كلاً من الطبيب والخادم في صدمة.
قهقه الطبيب وفكر في نفسه * بالتأكيد سيعرف اسمها* اذ ان مصاصي الدماء النبلاء كانوا ذي قدرات خارقة كسماع الافكار ، لا يملكها اولئك الذين كانوا بشراً واصبحوا من مصاصي الدماء في وقتٍ ما.
-ميراج... قال بيكاسوس برقة، *لديكِ اسمٍ جميل ايتها الصغيره*، لم يشعر توتنيان بالحاجه لترجمة ذلك لان الفتاة اخذت تنظر الى بيكاسوس بعينين متلئلئتين على الرغم من اختفاء الابتسامة من محياها.
بعد ان اصطحب بيكاسوس الفتاة الصغيرة الى عيادته التي كانت تقع في الجناح الغربي من القصر بصحبة الخادم، قام بمعالجتها وهو يحاول ان لا يمسها بسوء اكثر، كان شخصاً يقدر الحياة البشرية كثيراً ويفهم الامها لانه كان في يوماً ما يملكها الى ان فقدها بسبب ميكائيل...
بعد ان انتهى قام بوضع ضماده صغيره على رأسها ولفها بشكل جيد، ثم غسل يديه وتركها لترتاح وتنام قليلاً، عندما غفت، ضل يراقب حركة جسدها وهو يعلو ويهبط جراء تنفسها، حاول ان يقلدها الا ان رئتيه كانتا كالاحجار الان لا حياة فيهما.
نظر الى الارض وهمهم بسخريه، ثم اتجه نحو غرفة ميكائيل لسماع ما لديه.
عندما وقف امام الباب واراد طرقه سمع صوت يقول له بأن يدخل دون ذلك:
- لا تجفلني هكذا...
قال بيكاسوس عندما دخل ليجد صديقه مستلقي على السرير وينظر الى السقف الذي تزين بزخارف ذهبيه وسوداء وبدا كما لو انه يحكي لغة قديمه لا يفهمها الا ميكائيل الذي كان غالباً ما يستغرق في النظر اليه وقت فراغه.
- اقتلها.
قال ميكائيل بهدوء فتوقف بيكاسوس عن السير نحوه متفاجئاً من ما سمع.
- ماذا؟
قال بيكاسوس والتعجب بادٍ في صوته، فرد الاخر:
- اقتلها يا بيكاسوس، انا لا ارغب بها حولي.
- لا يمكن ان تكون جاداً ميكائيل!!!
صاح بيكاسوس بعصبيه فرد الاخر بعصبية اكبر:
- لا تصرخ!!
مما جعل بيكاسوس يجفل فجأة ويعود ليتحكم بغضبه ويقول بيأس:
- ميكائيل ارجوك انها مجرد فتاة صغيره لا يمكن ان تصدق بكلام تلك الدجالة...
- تلك الدجالة...هه...كارينا ليست مجرد دجاله يا بيكاسوس، انظر الى ما يوجد بين يدي الان، لولا كارينا هل كنت سأعلم بوجود تلك الفتاة اصلاً؟
سكت بيكاسوس وهو يحاول ان يفكر بحجة ليقنع صديقه الذي رفع يده كما لو كان ينهيه عن التفكير،
- استطيع سماعك كما تعلم...لن اغير رأيي، ستقوم بأخذها الى احد الاكواخ المهجورة في المساء برفقة توتنيان وتقتلها هناك بعيداً عن انظار اهل القرية... لا يمكنني تحمل نقيقهم المزعج كضفادع جائعة.
اراد بيكاسوس ان يتحدث الا ان ميكائيل قال:
- يكفي ذلك، ارحل الان وقل لتوتنيان ان يقوم يتحضير ما يلزم واخرج ارجوك، ان الصداع يقتلني، اشعر كما لو ان القصر بأكمله يتحدث في رأسي.
اومأ بيكاسوس بحزن وخرج دون ان يقول اي كلمه، لم يكن ليخبر توتنيان بعد بالامر... لربما استطاع ان يعدل من قرار صديقه حتى الليل.
- تباً لكِ ايتها الكاذبة!.
قال بيكاسوس وهو يسير في ممرات القصر ويتذكر تلك الساحره الغجريه التي التقاها هو وميكائيل عندما حرر اخر معقل لثوارٍ من البشر جنوب مملكته.
كانت تلك الفتاة ذات الشعر الكستنائي المموج والخصر النحيل التي تغطت بعبائة باليه قد دعت ميكائيل لتقرأ له بلورتها الكريستالية في ليلة لم يظهر فيها القمر حيث قالت ان الحظ الى جانبه يومها، فعندما يغيب القمر تختفي هالته التي تحيط بالارض فتخرج الارواح من قبورها لتحكي اقدار البشر. بالطبع لم يصدق بيكاسوس ذلك لانه كان رجل علم، يصدق فقط بما يمكنه اثباته ويبقى بعيداً عن اساليب الغجر والسحرة الخداعة.
كانت صدمته كبيره عندما ضحك ميكائيل وجلس على الارض بعيداً عن النار التي شعلتها كارينا قرب كوخها وقال لها ان تطربه بأكاذيبها فبدأت تقول له انه رجل ليس كغيره، لم يترك روحه محبوسة في الام الماضي، كانت تشير الى بيكاسوس بكلامها لكنها غلفت غايتها بالاعيب واساليب خادعة.
* ستجد السعادة ولكن ليس قريباً يا سيدي، ثم ان مستقبلك يزهو بالانتصارات والفتوح العظيمه، لن يقدر احد على خداعك* قالت كارينا وقد انعكست لمعة البلورة الزجاجية في عينيها السوداوتين ثم رفعت عينيها الى بيكاسوس كما لو كانت تقصده وخلال ثواني كانت تضحك هي والجنرال كما لو لم يحدث شيء.
كان الجنرال يتسلى بأمور البشر هذه، وما شدهُ اليها هو عدم قدرته على سماع افكار هذه المشعوذه التي يجدها الكثير جذابة الا هو.
وبعد ان انتهيا نهض ميكائيل ليرحل وتبعه بيكاسوس ولكن حالما امتطيا حصانيهما سمعا صوت زجاج يتحطم خلفهما وعندما التفتا نحو ذلك الصوت وجدا ان كريستالة كاريانا قد تناثرت الى اشلاء على الارض العشبية.
لم تبدو مصدومة او حتى تعيسة تجاه ما حل بتلك البلوره بل ان نظرتها جالت وتجمدت على معالم وجه الجنرال برعب، *اوه، يا الهي* قالت بتنهد ثم نظرت الى بيكاسوس وعادت الى الجنرال، كانت تريد ان تتحدث ولكنها هزت رأسها ودنت من الجنرال حتى لامست حصانه وقالت بصوت خافت:
* عندما يكون القمر بدراً ...سيفتح قلبك لأول مره...استعد واستمع الى حتم عليك قدراً...ولا تثق بما كسبت من خبره...
صديقٌ يرحل واخرَ يعود...موتٌ يمحي ما كاد ان يكون...احذر من كائن يحمل الليل تاجاً على رأسه والنجوم في عينيه وقطرات حبر سُكبت كدموع شيطان على ذقن ملاكٍ ...اجل ملاكٍ...ملاكٍ للموت!* كانت تمسك ذراع الجنرال عندما تلفظت بأخر الكلمات ثم تركتها ببطئ وحزن وعادت الى كوخها دون ان تلملم اشلاء البلورة او حتى تخمد النار، بالطبع لم يصدقها الجنرال ، بل اعتبرها احجية صغيره يلهي نفسه بها في الطريق حتى وقع نظره على تلك الفتاة الواقفه امام خزانته وقد غطت الشراشف جسدها بأكمله اما صديقه فكان يفكر بتلك الدجاله والسبب الذي يكمن وراء تسترها لنواياه، لقد ادرك بأنها كانت تملك القدرة على فضح خطته ولكنها تجاهلتها تماماً...
كان بيكاسوس قد وصل الى عيادته دون ان ينتبه حتى وعندما فتح الباب واخذ نظرة، وجد تلك الفتاة الصغيره لا زالت نائمه، اغلق الباب واتجه نحو حديقة القصر، كانت تلك ثاني مكان مفضل له بعد منزله القديم...منزله الذي كان يعج بضحكات اخته الصغرى وزمجرة والده المستمره الذي طالما تغلب عليه حب الطمع والسيطرة، الذي حاول ان يقود انقلاب على ميكائيل ويستفرد بالمدينة وحده، لكن ميكائيل كان اذكى منه واكثر خبرة، استطاع ان يرى خطته دون ان يستمع لأفكاره حتى، فما كانت عاقبة افعال ذلك الرجل الا الموت له ولمن كان معه، اي اخت بيكاسوس الصغرى وحياة بيكاسوس نفسه، التي سلبها الجنرال في تلك الليله دون ان يفكر مرتين، كان ميكائيل يرغب بضم الطبيب الى جانبه لأنه افنى سنوات طفولته ومراهقته ونصف شبابه في دراسة الطب ومصاصي الدماء، كان يعرف الكثير عنهم، حيث ان والده كان مهووس بهم حتى انه ارسل ولده الى ابعد المدارس واكثر الاماكن ظلمة من اجل تعلم اسرار مصاصي الدماء واستخدامها لدحرهم.
بالتأكيد كان بيكاسوس يرغب بالموت برفقته عائلته في تلك الليله، لكن شاء القدر ان يستيقظ في القصر ويجبر على قسم الولاء لميكائيل من اجل ان ينتقم لأعائلته عندما يحين الوقت المناسب.
وقف امام ازهار التوليب واللافندر القصيره الملونه. كان اغلب الخدم في القصر من البشر... *بالطبع لا يزالون يملكون حباً للالوان الزاهية والحياة* قال بيكاسوس في نفسه وهو ينظر الى تلك الازهار العبقه ويبتسم بحزن.
- اه سيدي!
قال احد عمال الاسطبل:
- طاب مسائك، ان العربة جاهزه.
قطب بيكاسوس حاجبيه بفضول وقال:
-اي عربه؟
-العربة التي طلبها سيدي الجنرال لحضرتك ولتوتنيان...
-اه، حسناً... دعها جاهزه حتى المساء.
لم يكن بيكاسوس يعلم ما اذا كان سيعدل من قرار صديقه في نهاية المطاف ام لا، كيف سيقتل فتاة صغيره... مضت اكثر من خمسةٍ وستون سنة منذ ان اصبح من ذوي الكائنات البارده ولم يطلب منه ميكائيل مهمة قذرة وقبيحه كهذه...كان ينوب عنه في جنائز الجنرالات البشريين الذين تفنى حياتهم بسرعة ذبلان الورد بعد قطفه، او يلبي دعوات حفلاتٍ لميكائيل في بداية الاعوام الميلاديه ويقضي الكثير من الوقت في النقاشات الفارغه بينما كان الجنرال في مهجعه بصحبة احد النساء التي كانت ستصبح جثة باليه عند نهاية الامسيه...
كانت الشمس قد غابت عن الافق عندما قرر بيكاسوس ان يذهب لجلب توتنيان والتوجه لمناقشة اوامر الجنرال بشكل اكثر دقه، كان يعلم ان توتنيان خادمٌ وفي وقد لا يوافق على مناقشة اوامر سيده، الا ان تلك الفتاة تنتمي لموطنه، لربما في حال بقي ميكائيل على قراره قد يستطيعا ان يعيداها خفية الى منزلها.
عندما وصلا الى غرفة الجنرال، لم يكن هناك، في الواقع لم يشعروا بوجوده في القصر، حيث ان القصر يصبح اكثر بهجة حين يغادر الجنرال ويعود الى ظلمته وكآبته عند عودته والان كان الخدم يضحكون ويقدمون العشاء لبعضهم بعض في المطبخ وقد علت اصواتهم، لذا قرر الاثنان الانضمام اليهم ومشاركتهم اطراف الحديث.
كان بيكاسوس يحب التواجد قرب البشر على الرغم من عطشه لدمائهم، اراد ان يحيط نفسه بهم قدر المستطاع حتى لا ينسى طبيعته او انسانيته في يومٍ ما وكان الخدم يرحبون به دائماً حيث كان طيباً معهم وغالباً ما يعالجهم برحابة صدر وابتسامة عذبه.
بعد انتهاء العشاء جلس الخدم في مهجعهم الخاص بعد ان اصطحبوا معهم توتنيان وبيكاسوس لاكمال الحديث والنميمة عن القصر وافراده، في معظم الاحيان كان الحديث يدور عن النبلاء الذين يزورون الجنرال وكم كانوا متعجرفين ومتطلبين، او عن المدينة والسوق وكم عانوا في التسوق للوجبات وكم اصبح العالم مكاناً للخداع والنفاق من اجل المال.
في هذه الاثناء كان ميكائيل يبحث عن الهدوء والسكينه، ان حاله يصبح اقرب للمجنون في نهاية اليوم بعد ان كان قد قضى اربع وعشرين ساعة في سماع افكار الناس واحاديثهم، غالباً ما كان يحلم بلحظة من الهدوء، حيث لا يسمع فيها سوى صوت الرياح وخرير النهر.
لذلك كان يجوب الغابة المجاوره ويسير بمحاذاة النهر ليلاً بعيداً عن اماكن تجمع البشر. 
وبينما هو يمشي سمع صوت بكاء، قطب حاجبيه بغضب وهو يودع الهدوء الذي كان يسعى له، ولكن الفضول اصابه عندما بدا الصوت مألوفاً له.
كانت خطواته تشبه خطوات القط الرشيق، خفيفة على العشب وعديمة الصوت، عندما اقترب شيئاً فشيئاً نحو مصدر البكاء وجد الفتاة الصغيره مألوفة المظهر قرب النهر، جالسة على ركبتيها وتساقط شعرها من حولها كعبائة تقيها من نسمات الليل البارده.
*تباً يا بيكاسوس!!!*
قال في نفسه، ففي هذا الوقت ظن ان صديقه قد اخذ الفتاة ورحل ليقوم بما امر، الا ها هي تقبع امام النهر كحورية حزينة تناجي المياه!
كانت هناك ضمادة بيضاء الان ملفوفة حول رأسها، *اذن، لقد كانت بالفعل مصابه...* لم يهتم كثيراً لاصابتها بل في الواقع شتم حظه الذي لم يجعل اصابة الفتاة مميته، حتى يتخلص منها دون ان يبذل اي مجهود...
قطب حاجبيه اكثر فاكثر ثم قرر ان يبتعد عن تلك الفتاة، لا خوفاً من كلام تلك العرافة بل تخلصاً من الضجة والازعاج، وبينما اغمض عينيه وسار ليعود الى ادراجه قام بسحق غصن شجرٍ يابس بقدمه مما جعل الفتاة تجفل وتتنبه لوجوده.
شعر فجأة بقلبها وهو يضطرب وينبض بسرعة كقلب ارنب بري صغير وبدا كما لو كان سينفجر، لم يتمالك غضبه وصاح:
- اوه حباً لله اهدئي!!
امتلأت عينا تلك الفتاة بالدموع مجدداً وبدأت تنهمر على خديها كالشلال، ثم ركضت بدورها بعكس اتجاه القصرهرباً منه، ولثواني نسي كم اراد ان يتخلص منها، بل ان شيئاً ما في داخله حثه على اللحاق بها خوفاً من ان يحدث لها اي مكروه وبالفعل، استخدم قوته وركض نحوها بسرعة الضوء ليمسك ذراعها ويدورها بأتجاهه مما جعلها تفتح فمها تعجباً مما حدث.
استطاع خلال ثواني قليلة ان يسمع ما يجول في خاطرها، فلقد ارادت الهرب وارادت العودة لوطنها وارادت التخلص من قبضته ثم ارادت الابتعاد عنه ثم سمع صوتاً يقول لها ان تهدأ حتى لا يقتلها وصوت اخر يتمنى وجود والديها ليحميانها.
تملكه شعور لم يختبره من قبل، هل كان يشعر بالشفقة؟
جميع ضحاياه من قبل كانوا قد توسلوا من اجل حياتهم وبكوا حتى اخر نفس يملكونه ، اما هذه الفتاة...
هذه الفتاة لم تستطع ان تفعل ذلك، كل ما استطاعت فعله هو ترك تلك الدموع التي بدت كحبات اللؤلؤ تحت ضوء القمر بالانهمار واحده تلو الاخرى وكبح شهقات الحزن.
عاد اليه ذلك الشعور ليأمره بالنظر في عينيها وكما لو تم تنويمه ميغناطيسياً لمس ذقنها المزين بقطرات الحبر ورفع وجهها نحوه، عندما وقعت عيناه في عينيها المتلآلأه اصبح في عالم اخر، كان يقف في مكان ما، بدا كما لو انها حدود غابته الشماليه البارده، لم يشعر بالبرد وجذب انتباهه شخص قادم نحوه من بعيد، كلما اقترب اكثر فأكثر تمكن من رؤية ملامحه، كانت فتاة... تشبه تلك الفتاة الصغيره، لديهما نفس قطرات الحبر لكن تلك التي امامه الان،ماهي الا امرأة.
امرأة لم يرَ من جمالها وجاذبيتها من قبل، تدلى شعرها تحت ركبتيها وكلما تقدمت نحوه خطى ورائها وطيرته نسمات الهواء العليله.
نظر اليها وشعر بكومة من المشاعر تجتاح صدره المتحجر وعندما وصلت امامه وجد نفسه يجلس على ركبتيه امامها بضعف بينما نظرت اليه بأبتسامة عذبه تملئها المحبه.
لم تتحدث بل اكتفت بملاطفة جانب وجهه بيدها برقه. لم يمانع بل على الاطلاق، كان يشعر بالهدوء والطمأمينه على الرغم من انه لم يعلم الخوف وانعدام الامان سابقاً الا انه شعر بأن رحيل او ابتعاد هذه المرأه قد يتسبب بهلاكه ، وبحركه بطيئه نظر الى عينيها ووضع يديه على خصرها بحذر وعندما ابتسمت له اكثر قام بلف ذراعيه حولها واسند وجهه على جسدها الذي بموضعه هذا كان يصل الى اعلى معدتها واغمض عينيه ليستسلم لهذا الشعور، كان قد نساه، بل لم يشعر به منذ ان احتوته والدته قبل قرون عديدة مضت.
شعر بيدها تتسلل برفق الى شعره بينما اخذت يدها الاخرى متكئً على كتفه وكما لو ان الكون بأكمله قام بألتفافة سريعة من حولهما، انسحبت لتجلس امامه بثوبها الابيض الشفاف وتبتسم اليه ثم تلمس وجهه بيديها وتضع جبهتها على جبهته لتغلق عينيها بأطمئنان وتهمهم بنغم عذب لتهدأ غضبه ويهجع كأسدً خاضع.
ترك ذقنها بسرعة ثم عاد خطوة الى الوراء كان الشعور الذي خاجله قد اختفى الان وترك ورائه فراغاً هائلاً .
لم ينتبه انها كانت قد اتكأت عليه وعندما تحرك كادت ان تسقط على الارض فهرع اليها ليحميها واسندها على ذراعه بينما تمسكت هي بثيابه بقوة، وما ان استعادت توازنها حتى شعر بخوفها يعود وبدموعها تطفو مجدداً في عينيها وبضربات قلبها التي كادت ان تمزق تلك العضله الصغيره.
*لن تقتلها...*
قال صوت في داخله :
* احتفظ بها *
قال صوت اخر بينما شجعه صوت بعيد وقال :
*انها لا حولٌ ولا قوة، اقتلها الان!*
وكان اخر صوت من اعاد له صوابه عندما قال :
* لقد رأيت ذلك بعينيك...اقتلها الان وعش حياتك تندم على ما كان سيحدث، اتركها تعيش واحتفظ بها الى جانبك، لا يمكن لبشر فانٍ ان يقتلك...تلك العرافة مجرد مخادعة دجاله تماماً مثلما قال بيكاسوس...*
كان ميكائيل يشعر بدم الفتاة وهو يسري في شريانها وهو يناديه، امر لم يحدث من قبل، حتى مع اكثر النساء جمالاً ورغبه، وها هو الان يشعر بالانجذاب نحو دم طفلة!!
اعاده صوت نبضات قلبها الى الواقع ولاحظ اختفاء جميع الاصوات من حوله ثم لمح  انها بدأت تشعر بالالم في رأسها كما ان الارض من حوله سادها السكون عندما اصبح بجانبها...
- كلا، لا يعقل ذلك...
فكر وحاول الابتعاد عنها بخطى بطيئه فسمع اصوات الطبيعة تظهر من جديد كلما اخذ خطوة ابعد.
وبينما كان مشغولاً بأكتشافه العظيم، لم تقو الفتاه على تمالك نفسها ووجدها مستلقيه فجأه على الارض، لقد شعرت بالأعياء والتعب والجوع والخوف الشديد في ان واحد ولم تستطع ان تتحمل ذلك.
نظر اليها ميكائيل مطولاً ثم قرر ان يحملها معه الى غرفته لم يكن ليتركها بعد ما حدث للتو!
اراد ان يضعها في مكان امن لكنه لم يأمر الخدم بتحضير غرفة لها، كما ان الهدوء كان حلواً جداً في اذنيه عندما تكون بجانبه لذلك قرر ان يعود بها الى غرفته لعله يحظى بقسط من الراحة ويتأكد من اكتشافه هذا، وبالفعل كان قد دخل القصر ومن ثم غرفته دون ان يسمع صوت نفس او حتى خطوات نمله.
وضعها بجانبه على السرير واستلقى ببطئ لينظر الى السقف، ولأول مره استطاع ان يغلق عينيه دون ان يسمع شيئاً سوى صفير اذنيه من السكون الحاد وانفاس تلك الصغيره كخرير القطط.
.
.
.
يتبع...

مشعوذة الجنرالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن