صدمة قوية

376 21 6
                                    

( من وجهة نظر أسيل)

أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
بلا انتهاء-كالدم المراق ،كالجياع،
كالحب ،كالأطفال،كالموتى - هو المطر !

بدر شاكر السياب

مطر مطر مطر...يطرق النافذة بقسوة، تسمرت قربها لأرى زخات المطر تنهمر على الزجاج، وتظهر خطوطا من الماء، تتسابق في الانسياب رويداً رويداً.

للمطر رونق خاص بداخلي، بقطراته العذبة، ورائحته الندية، توقظ في روحي الحنين إلى الماضي، وتردني الى حضن أمي الحنون الدافئ. أتذكر طفولتي فجأة، تلك السنوات التي مضت من عمري، أحن إلى قلوب افتقدتها وأحاسيس نسيتها منذ زمن.

أنا من قائمة الأشخاص الذين يحبون المطر بجنون، ويهللون لقدومه أية تهليل. فصوت المطر بالنسبة لي، هو الحب والسكينة والفرح. تختفي أحزاني عند مراقبة المطر، كأنه يغسلني قطعة بعد قطعة، حتى لا يعود هناك أي مكان للحزن والوجع.

كانت هذه أول أمطار فصل الخريف، قفزت عن الأريكة، فتحت الباب، وانطلقت إلى الخارج كالمجنونة. لامس الهواء البارد وجهي، واستنشقت رائحة الأرض الندية، هذه الرائحة لو تسنّى لها أن تكون في قوارير لكانت أثمن من أي عطر.

مشيت وكان المطر ينهمر على وجهي وجسدي ويخترق ثيابي ليلامس قلبي. فأرقص وأتمايل كفراشة على أوراق الشجر ، وكأني التربة التي حييت، وكأني البذرة التي نمت، وكأني الشفاه التي تبسمت، لا أعلم لم بكيت وقتها وكأنه الفرج، هذا المطر وما يفعله بقلوب البشر.

فجأة لاح إلى سمعي صوت تصفيق ،تلفّتتُ حولي، رأيت أيمن يقف على شرفة البيت الخشبي، وينظر إليّ مبتسماً ثم قال:

- رقصة رائعة.

ابتسمت له ابتسامة عريضة، وقلت له:

- أتقول عنّي أني مجنونة؟

ضحك قليلاً وقال : نعم، قليلاً .

نزل أيمن عن الشرفة  وتقدم نحوي وقال: أتسمحين لي برقصة؟ فلم نرقص سوية البارحة.

ضحكت ضحكة استهزاء وأجبته: نعم  فقد كنت مشغولاً بالرقص مع تلك الفتاة الجميلة.

- حقاً، لم ألحظ أنها جميلة. كنت أراقبك طول الوقت. أنسيتي أنني مرافقك وعليّ دائماً حمايتك؟!

-ضحكت قليلاً وأجبته: بالطبع.

توجّه أيمن نحوي، وكان المطر ينهمر عليه بغزارة ويبلّل شعره الكستنائي و قميصه الرمادي. أمسك بيدي وشدني إليه بشغف، وبدأنا نتمايل سوية على أنغام قلبينا. سرت قشعريرة باردة في جسدي، وكم تمنيت أن يتوقف الزمن في تلك اللحظة الجميلة.

سادَ الصمت طويلاً بيننا، كنت أردد في أعماقي أغنية ماجدة الرومي:

🎶أحبك جداً، جداً، جداً
وأعرف أني تورطت جداً
وأحرقت خلفي جميع المراكب
وأعرف أني سأهزم جداً
برغم الدموع ورغم الجراح ورغم التجارب
وأعرف أني في غابات
حبك وحدي أحارب
وأني ككل المجانين
حاولت صيد الكواكب
وأبقى أحبك رغم يقيني
أن الوصول إليك محال
أن الوصول إليك محال محال محال...🎶

بعد دقائق ،قال لي: إنك ترتجفين من البرد. تعالي نشرب القهوة سوية أمام المدفاة. سأقوم بتحضيرها وأعود مسرعاً.

وافقت على ذلك ،ودخلنا البيت الخشبي، جلست جنب المدفأة محاولة تدفئة جسدي المبلل. عاد بعد قليل وبيده فنجانا قهوة.

قلت له: شكراً لك. رائحتها زكية جداً.

ابتسم وقال : بالطبع.أنا ماهر جداً بصنع القهوة. تفضلي !

كانت القهوة لذيذة جداً ، تماماً كما كان عناقه لي. لم أستطع أن أنسى هذا الشعور الرائع. شردت قليلاً وأنا أنظر إلى ألسنة النار في الموقدة، وأتساءل إن كان أيمن يحبني كما أحبه أنا. لماذا لا يعترف لي بذلك ؟! أيعقل لأنني مرتبطة بمارك؟ آه يا إلهي !! ليتني أستطيع أن أنفصل عن مارك.

قاطع تفكيري صوت أيمن يسألني إن أعجبتني القهوة،فأجبته : بالطبع ،مذاقها رائع. شكراً لك. عليّ الذهاب الآن. فلا يمكنني أن أبقى مبللة لوقت أطول.

- حسناً، كما تريدين .

- إلى اللقاء.

عدت الى المنزل ،بدّلت ثيابي، وتمددت جنب المدفأة، فاليوم ليس لديّ عمل لأنني أقفلت الشركة، لكي نرتاح من عناء الخطبة، ليل أمس. فتحت هاتفي ،فرأيت هناك مكالمتين(من مارك) لم أرد عليهما. توقعت أنه يريد جواباً لسؤال البارحة. يا إلهي!! ماذا أقول له؟! أحسست أنني بين نارين! كلاهما أصعب من الآخر. هذا الصراع الدائر دائما بين العقل والقلب، متى سوف ينتهي؟ كان عقلي يصرخ :مارك ،مارك... أما قلبي فكان ينبض :أيمن، أيمن.

توقفت عن التفكير، حينما رنّ هاتف المنزل لدقائق ،قبل أن تجيب أمي عليه.

-ألو.

ثم توقفت أمي عن الكلام ،ووقفت مصدومة لا تحرك ساكناً.
هرعت إليها وقلت :أمي، ما بك؟ من المتكلم؟

لم تتفوّه بأيّة كلمة.

أسرعت وقدمت لها كأساً من الماء ،شربت قليلاً، ثم نظرت إليّ نظرة شاردة وقالت: والدك....قد تمّ اغتياله!

أسيل (مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن