الشابتر الخمسين- ~ أكـاذيب أم حـقيقةّ ؟ ~

1.9K 102 6
                                    

لنـدن المـعروفة بمـدينة الضباب غـشتها الثـلوج هذه الأمسيةّ معطيةّ إيـاها غـطاءا أبيـض جدا بتـلك الغـرفة حيث كـانت ستائر الشـرفة تروح
و تجيء مع نسمـاتّ الريـاح الخافتة قدّ تساقطت حباتّ رقيقةّ من الثلجّ بداخلها حيث وسطّ هذه الغـرفةّ يوجد مكتـب من ذلك الخشبّ المترفّ جلس
خلفـه ذلكّ الرجل ذو خصـلات شعرّ سوداء حريـرية تساقطتّ على جبينه عـينين حادتين ناعستين تـحللان بيانات الأوراق التي أمامه مـرتّ فترة
طـويلة و هو على حـاله هذّه لما نـزع نظارتيه الطبيتين لكي يفركّ عينه بنوع من التعـب ثم تنـهد بكسل يعود لوضعهما مجددا ..
من تـلك المكتـبة الصغيرة سقط كتـاب ما مما استرعى انتباهه فـنظر نحوه بـهدوء و هو يسند رأسه على خـده ثم وقفّ و بخطـوات بـطيئة كسـولة
أتجه إليه رفـعه لكي يقلب بين صفحـاته بقليل من الاهتمام لقدّ كان الكتـاب لروايـة عنوانها الـجريمة و العـقابّ قد كانت للكاتب المشهور تنهـدّ ببرودّ
و هو يجلس مستنـدا على المكتبة خلفّه يمسك الكتـاب بيد و يعدلّ نظاراته بيده الأخرى بينما أسند ذراعه على ركبتـهّ ..
تتـحدث الـرواية عن نـظرة رجـل اعتـبر من حثـالة للمجتـمع الذي حوله قد كان يحـاول أن يصبح بطلا بـطريقته الخـاصةّ و بتفـكيره الغـريبّ لكي
يصير في النهـاية مجرد مـجرمّ فـار من العـدالةّ لأنه أراد فقط أن ينفذ تـلك العـدالة بنفسه ، ابتسـم نايت بـهدوء لطالما نال إعجـابه شخصيـةّ الـبطل
قد كان غـريباّ هادئا و يفـعل ما يريد دون أن يـأبه للغيرّ ذكي بطريـقة مخيفةّ ..
قـلبّ صفـحةّ الأولى ثـم الثـانيةّ بعد ذلكّ وجد نفـسه فيّ المائة يقـرأ الفـصل السادس المسمى بالمصير بإهتـمام شديد حيثّ قـرر راسكولينكوف حينهـا
الاعتراف بجريمته لم يـرغبّ فيّ ذلك بالبدايةّ لم يحبذّ أن يراه المجتمعّ كمـجرمّ ففي نـظره كان بـطلّ لكن ضميره لم يتـركه و شـأنه فأتجه إلى وسط
الشـارعّ لكي يجلس على ركبتيه راكـعاّ و هو يبكـيّ ألما لأنه أنهى حـياة شخصين لم يكن من حقـهّ قتلهما فـحتى لو أن من قتله كان يستـحق الموتّ
و بـأشنع طريقة إلا أنها تـبقى إمرأة تستحق الـعيشّ أيضا ..
نـظرّ إلى تـلك الكلمـاتّ تـلك الأسطرّ كيفّ اعـترف بـجريمته نـادما ثمّ تنهد بـهدوء و هو يـرفع رأسه نـظر بعينينّ باردتين باهتتين إلىّ الـسقفّ لولهة
من الزمن بدى له أن ما حدث كان مجرد حلماّ لاّ بل كابوساّ قد انتهـى لكنّ تـوابعه لا زالت تـطارده حتىّ الآن ، أجل لا شكّ من ذلك إن ما حـدثّ تـلك
الليلةّ و نـظرته المفـعمةّ بالحقدّ و الكـرهّ هو يوجـه المسدسّ نحـو نيـكولاسّ نبـرةّ صوته الحادةّ و المجـنونةّ ، همسّ نايت لنفـسهّ متحدثاّ بنبرةّ هادئةّ
ـ ديـميتري
وضع الكتـابّ على وجـهه مانعـاّ الضوء من التسربّ إليه قبلّ أن يعـود ليفكر مجددا لو أن بيده .. لوّ أن الأحداث تـعودّ للـوراءّ هل كان سيمنـعه ؟ ربـما
لاّ فحتى الآن بعد مرور كل هذه السنينّ هو لا يزال يكـره نيـكولاسّ و حتىّ لو عـاد الوقت إلى الوراءّ و رأى تـلك الجريمة مـجددا تـحدثّ أمام عينيه لماّ
أوقفها ، ما فـعله والده بـه و بـوالدته بـهمّ جميـعاّ يستحقّ المـوتّ لأجله أفـعاله و خطـآياه التيّ حتىّ فيّ آخر لحظاته رفـضّ الاعتـرافّ بها ، همسّ نايت
لنفسه بـنبرةّ شـاردةّ
ـ أيّ إنسـان هذا ؟
صـورةّ سكـارليت المنتـحرةّ تـمرّ أمام عينيهّ ، كـذلكّ أحـداثّ موت نيـكولاسّ أمـامهّ كمـآ لو كـأنه يعيشّ تلك الأحـداث مجدداّ ثـم مـوتّ السيدّ بيتر جـدّه
أول شخص رعـاه و أحبـه لما كان عـليه بعد والدتـه أخفضّ رأسه للأسفـلّ لكي يمسك الكتـاب بيدهّ ، خيـانة إليـزابيث لـه مع أقـرب صديق له و خيـانة
ديميتري له مجـددا و مـجددا أهو مخـطئ إن قـرر عدم الثـقة بشخص بعد الآن ؟ عـدم حب أيّ شخص بعد الآن ؟ تـنهد بقلة حيـلةّ و نـظر إلى الشـرفةّ
لما رنّ هـاتفه دون أن يضطر لـكي يرى من المتصل فقد كان يعلم مسبـقا بهويته ، لكيّ يضغط على زر الرفـعّ ابـتسم بهدوءّ قد انتقلت إلى مسامعه
صوتّه ..
ـ يـا لها من استجـابة سريـعةّ نـاي ، لم أكن واثقـا أنه سترفع السـماعةّ لكنّك تستمر بمفاجأتي إذن أخبرنـيّ .. ما الذي تـفعله ؟
وقف نـايت بهدوءّ ثـم أغـلق الإنـارةّ لكي يسود الظلام فيّ الغـرفةّ ثمّ اتـجه بخـطواتّ كسولةّ إلى الـشرفةّ جلس على الكـرسيّ الموجود هنـاكّ قد كان خشبياّ
يهز مجيئاّ و إيـابا كان لسيد بيتر ، بينما و في الـجهةّ الأخرى للهاتفّ كان يـجلس ديميتري هـناك فيّ أحد المقـاعد المنتـشرةّ بكثرّة فيّ الـحديقةّ يضع
وشـاحاّ حول رقبته مـرتدياّ معـطفه الأسودّ و أمـامه رجلّ ثـلجّ كان قد صنعه تـواّ ، أجـابه نايت بنبرةّ مبـحوحةّ بـاردةّ
ـ إن صـحّ القـولّ فـأنا أقـرأ روايــةّ قـديمةّ ..
ابتسـمّ ديميتري فـوراّ و هو يعـتدل فيّ جلسته لكيّ يـربع قدميه بـنوعّ من الـراحةّ فيّ حين أخذ نايت ينـظرّ إلى غـطاءّ ذلك الكـتابّ الذيّ رسم عليه شـخصيةّ
البـطلّ قد التـزم الاثنين الصمتّ حينما قطـعهّ نايت بـهدوءّ
ـ أزرتّ قـبره ؟
لم يتـحدث ديميتري لوهلة من الـزمنّ فـأدرك نايت فـورا الإجـابةّ إذ ديميتري لم يكـن فيّ لنـدنّ بل بروسيـا مقـرّ عـائلة ماكاروف و أين يقبـعّ قبـر
نيـكولاسّ مـاكاروف الـرجل الأسطورةّ الذيّ خلف خلفه سـراباّ من الـفساد فـتنهد نايت بـهدوءّ لكيّ يجيبـه ديميتري بـضحكةّ
ـ يقـال أن القـاتل يعود دوما إلى مسـرح الجريمة ..
مـا قـاله بالرغم من أنه بدى كمـزحةّ خفـيفةّ إلاّ أنها كانتّ مليّئة بالمرارةّ التـعبّ و الإرهاقّ كـماّ لو كأنه يحمـلّ جبـالاّ بين كتفـيه قدّ جعل ذلك نايت يقطـبّ
حاجبيه لوهلة من الزمنّ سرعانّ ما عادت ابتسامته الـباردة تكسوّا شفـتيه فيّ حين تحدث ديميتري مجددا بـمرح
ـ عـجيبّ أمرك دومـا تـعلم ما أفـعلّ و ما أفـكر بـه ..
تمتـمّ نايت بشيءّ ما بـدى فيه كمـا لو كأنه يشتـمه و فعلاّ فعل بـلكنتـه الـروسيةّ الـباردةّ لكيّ يبتسم ديميتري فـوراّ كم مضى على سمـاعه نايت يتـحدث
بلغـتهم الأمّ ؟ منذّ وفـاة نيكولاسّ أجلّ ، فـضحكّ بخفةّ لكيّ يـتنهد نايت بقلةّ حيلةّ حكّ جبينه بـكسلّ ثمّ قـال بنبرةّ مبحـوحةّ
ـ لمـا عدت إلى هناك ؟ لا يوجد سوى بقـايا فقطّ ..
بالفـعلّ وقفّ ديميتري فجـأة ثمّ عـاد بخطواتّ سريـعةّ للوراّء كي يقفّ بجـانب رجل الثلجّ بعد ذلك وجه نـظره نـحوّ ذلك المنـزلّ كـآن كبيراّ جداّ يحتوي
على عـدةّ طبقاتّ و قـديمّا مصممّ على أسلوبّ الارستقراطي النبيـلّ قدّ دمرّ مـعظمه فـالجزء الأيمن منّ الـمنزل حرق كلياّ بينما بقيّ الجزء الأخر صـامدا
نوعاّ ما بينما كان ديميتريّ يقف فيّ حـديقته بجـانبه نـافورةّ قـديمةّ بها تمثـالّ ما رسم عليه حرفّ لاتينيّ يرمزّ لـسلالةّ العـريقةّ لعائلة ماكاروف ..
تـحدث ديميتري بـخفةّ
ـ أعتـقد أنه الحـنينّ ، أتعـلم لا يزال المكان تـماما مثلما تـركناه و حتى و أنا أقف هـنا بعد مرور كل هذه السنين لا زالت قدمايّ ترتجفان ، قـلبيّ يخفقّ
بقوةّ كما لو كـأنني سأراه مجدداّ فيّ أي لحـظةّ لاّ أزال أعـتقد أنه على قيد الحيـاةّ نايت يـريد قـتليّ لاّ بل تـعذيبيّ مراراّ و تكراراّ .. ربمـا هيّ مجرد عـادةّ
فقطّ لكنّ حتىّ و أنا أعـلم أن لا شيء من هذا سيحدثّ إلا أنني أرتجف خـوفاّ
اتسـعتّ عينا نـايت بدهشـةّ قد ظهر لونهماّ الأزرق الداكنّ وقفّ على قدميـهّ لكيّ يتقدم نحو الـشرفةّ مسندا ذراعيه علىّ حافتهاّ يضـعّ هاتفه بـجانبهّ التـزم
الصمتّ انتـقلتّ إلى مسامعه صوتّ تنفس ديميتري المضـطربّ لكيّ يغلقّ عينيهّ و يعـيدّ فتحهماّ ، تـحدث بنبرةّ هـادئةّ
ـ لقد مـاتّ نيكولاس ، أنـا و أنت .. كلانـا شهد مـوته ،
حالمـاّ قـال ذلكّ ارتخت قـليلاّ ملامح ديميتري المضطربة القـلقةّ قد كانّ شـاحبّ الوجـه جـسدّه بأكمله يرتجفّ لما انتقـلّ صوت نايت الهادئّ إليه زالّ خوفه
قـليلاّ ثمّ جلسّ بـكلّ إرهاق علىّ الثـلجّ حينهاّ عـادتّ نـبرةّ نايت الـمبحوحةّ تـسربّ من الهاتفّ
ـ عـد إلى لنـدن و دعـك من المـاضي ، فنيكولاس ليس على قيد الحيـاةّ هو لن يـعود لن ينتقـمّ منكّ حتىّ لو أنه عـاد فـلن يستطيـعّ فعل شيءّ لنـا بعد
الآن كل ما كنا نـملكه قد فقـدناه ، أولائك الأشخـاصّ الذين سعينـا جاهدينّ لحمـايتهمّ كل مـا كنـا نـملكه يوما ما قدّ خسرناه ..
لمـا قـال ذلك أصدر ديميتري آهة خفيـفةّ و هو يشيحّ وجهه بـعيداّ عن الهاتفّ ليعيد النـظرّ إلىّ المنزلّ أجل هو يـعلمّ هـذا و يدركّه لقدّ تـخلى عن كلّ شيء
يـملكه من أجل الانتقـام فـعل جلّ ما يستطيـعّ لهزيمته لكنّ و بالرغم من عـلمه لهذاّ فلا ينفك شبح نيكولاس مطـاردتهّ فيتخيل له أن ذلكّ المنـزل قدّ عـاد إلى
مـا كان عليه سـابقا مليئاّ بالـخدم الجـدّ يـجلسّ على كرسيهّ بـفخرّ بجانبه نيكولاسّ مبتسم بتـهكمّ و هوّ ينـظر نحوهمـاّ فـهز رأسه نفيـاّ لكي يتحدث
بنبرةّ مرتجـفةّ
ـ سأقتـل جميعّ أفـراد ماكاروف ، سآخذ حياتكّ بيديّ هاتين نايتّ
حينهـا نـظر إلى يديه المرتجفـتين من الغـضبّ و نـار الانتقـامّ فتنهد نايت بقلةّ حيلةّ لكي يبتسـمّ بكلّ سخريـة ها قد عـاد ديميتري إلى نفسه القـديمة مجدداّ
بتصميمّ أكبر على قـتله و هو من سـاعده على استعـادةّ ذلك التصـميمّ الغـريبّ ، تـحدث بنبرةّ باردةّ
ـ لسـت أبالي بما تـريد لكنّ دعني أخبرك شيئاّ واحد ، أنـا لست بالخصم السـهل
ضحكّ ديميتريّ بّكل سخريةّ أقـال أنه سيخسرّ مجددا ؟ لاّ هـذا مستحيلّ يذكرّ مقـولة لأحد الفـلاسفةّ إن كنت تـخاف من عـدوك فـاهزمه اهزمه بقـوةّ تـجعلك
لاّ تخاف أبدا منه أجل كانت يرتعبّ من سيرةّ نيكولاس يـكرهه يحبـهّ و يهابه فيّ نفسّ الوقت لكنّ و لأنه يـخافه فهل منـعه ذلك من تنفيذ انتقامه ؟ لا علىّ
الإطلاقّ بلّ جعـله أكثر تصميماّ فيّ القضاء على نقطةّ الضعفّ هذهّ ، ارتجفّ جسده مجدداّ فـوضع يديه فيّ جيبه و هو ينظرّ إلى المنزلّ حينما تـحدثّ ديميتري
بنبرته المـرتجفةّ مجدداّ
ـ كـذلك أنـا سـأحرقك و أنت حي .. تـماما مثلما فـعلت قـبلاّ،
أغـلق ديميتري السماعة فـورا بينما نـظر نايت إلى هاتفه لوهلة من الزمن قد كانت ملامح وجهه بـاردةّ شديـدةّ الهدوء
ياله من مصيـر يلحق كل فـرد من أفراد ماكاروف كمـا لو كأنها لعنـةّ قدّيمة ألقيت عليهّم
من قبـل لاّ شيء سوى ضمائرهم النائمة تلاحقهمّ واحدا تلو الآخر و لن تنتهي هـذّه الـتعويذةّ إلا بموتهم جميـعا ،
أغلق عينيـهّ ثم فتحهماّ كانتـا داكنـتينّ شديدتاّ الـحدةّ و خطيـرتينّ قدّ رسم على شفتيه ابتسامـةّ بـاردةّ متهكمـةّ استـدار متـجها نحو مكتـبه حينما توقفّ حالما
لمح ذلك الكتـابّ جريمـة والعقاب في النهـايةّ صحو ضميـر القـاتلّ بفعل الأشخاصّ الذين حوله يحثونه للعودةّ إلى طـريقّ الصحيحّ متخليا عن عـدالته الخيـاليةّ
لكنّ ماذا عن ديميتري ؟ ألن يصـحو من كـابوسه ؟ ألن يعترف أبدا بجـرائمه ؟ تنهدّ بهدوءّ قـائلاّ ببحةّ
ـ تـبقى دوما مجرد روايـةّ ..
هـذاّ ما قـاله و هوّ يتـرك الكـتابّ على ذلك الـكرسيّ الخشبيّ لكي يتـجه نحو مكتـبهّ عاد يجلسّ خلفه واضعاّ نظارتيه أخـذّ ملفّ الذيّ كان يدرسه منذّ مدةّ
بعدّ ذلك وقـعّ عليه معلناّ عن موافقته ،

لا يجب القول لا لفخامته(منـقولة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن