Ch22 ⇜

323 28 262
                                    


بِروحــي فَــــتاة...
...
...
...
-
-

٢٢-

نحنُ بَشرٌ خُلقنا من وَحلِ الحياة، ذاكَ الذي يُدعى بالطِّين
جُبلنا وعُجنّا بماء الأحاسيس وقطراتٍ من المَشاعر المُلوّنة كلمسةٍ تُضفي إلى هيئتنا نكهتها المُمَيَّزة، لنتشكّلَ في نهاية المطاف على هيئة إنسان، يُعلَّق على أرفُفٍ الزمن، ليأتي القدر ويشتريه بأبخَسِ الأثمان..
ويا فرحة مَن كانت سُلعته لا تُقدّر بثمن

أنا فتىً.. لم يشتريَني القدر، بل استأجرني ليُعيدني بعد أن يتسلى باللعب بي، وبعد أن يستهلكني ويهلكني حتى لا أعودَ صالحًا للعَرض،
أجولُ في متجر البؤس كتجوالِ بائع الخردوات، مهما جَدَّ في عمله ستَظَلُّ رزقته البقايا المُتكسّرة والأشياء المنتهية صلاحيتها،.. وهذا أنــــا!... مهما بحثتُ عن مكانٍ ألجأ إليه كَي يُنجيني من دوامة القهر التي لا تهدأ، سينتهي بي المَطافُ  مُستأجرًا للتسلية
لقد تعِبت، أقسمُ لكم أني لم أعُد أملكُ طاقةً للمقاومةِ أكثر

لم تنخفض حرارتهُ منذُ البارحة، ووعيه لم يستيقظ بعد، وأنا لم يُدَفَّأ صقيعُ أطرافي خوفًا عليه، يغوصُ جسدهُ الذي هَزُلَ إرهاقًا في منتصفَ أغطية السرير الحريرية وفوقه قد ثَقُلَت سماكةُ الملاءات الصوفية تَحفَظُ جسده من الارتعاش، بينما الفراشُ أسفله قد غَرِقَ بعَرَقِه

أراقبهُ عن كثَب طوال الساعات المنصرمة، وأبَدِّلُ له كيسَ الأملاح المعدنية الموصول بإبرة المُغذي بيده كُلّما فَرِغَ، بواحدٍ آخر مملوء، أُجففُ له زخّات العرق التي تُرطِّبُ جبينه وجسده بأكمله، أُغيّرُ له ملابسه كل ساعتين بشكلٍ مُستمر، لقد استهلكَ خزانة ملابسه بأكملها، وما زال غائبًا عن الوعي ولا يصدر منه سوى أنينًا خافتًا، ومعه يهذي بأشياء عشوائية، منها ما يجعلني أبتسم بخفة رغمَ قلقي عليه كهذيانه بجملٍ مملوءة بالشتائم المنحرفة والتي تجعل من وجهي يحمَرُّ خجلًا، ومنها ما يُصيبُ قلبي قهرًا ويجعلني أرطمُ رأسي وآكل أصابعي ندمًا كهذيانه بلا وعي ببكاءٍ أخرس وهو يتوسلني أن أرحمه وألّا أؤذيه

"ليتَ ذراعي مَن قُطعت قبل أن أمَسّ هذه اليد بسوء يا أخي، هذه اليد التي كنتُ أحتمي أسفلها كجناحٍ يدرئ عني أي مكروهٍ يصيبني، أخي... أرجوكَ سامِح أخيك الذي سبَّبَ لكَ كل هذا الألم! فليصفو قلبك تُجاهَ غبيٍّ مثلي أرهقكَ"

أرمقُ ذراعه المُضمّدة بطبقاتٍ تحتضن بعضها بعناية، أمسحُ عليها برفق، وأطبعُ قبلةً عليها، واثنتين وثلاثة علّها تُشفى، وأعود إلى تمسيدها بحذر وقهر،
أحاولُ مُحادثة صاحبها النائم والذي ما زالَ صوتُ أنينه المُتألم ينخزُ لي قلبي ويوجعه
لقد انهكتهُ، أعلم بهذا، لقد تحمّلَ فوضاي بصبرٍ لا يحتملهُ جبل، احتوى شراراتَ غضبي التي تلسعه بهدوئه الذي لم أعلم أنه يمتلكه أصلًا نسبةً إلى غضبه الذي يتحلى به، أعتقد أن معاناته طوال حياته قد صقَلت مشاعره ليُصبحَ خبيرًا في التحكم بها وإخفائها متى شاء..

الشيء المفقود 3 حيث تعيش القصص. اكتشف الآن