وفتحت فاطمة عينيها للحياة . . الحياة بكل عنفوانها وسعتها وأحداثها . . كان الأب قد عاد من رحلته المثيرة . . رحلة الاسراء والمعراج . . ورحلة الاسراء والمعراج . . رحلة في عمق السماوات والزمن . مضى عامان ) منذ أن هبط جبريل على سفوح حراء ، وقد اشتعلت شرارة الروح . هكذا ارادت السماء أن تبدأ فاطمة رحلة الحياة مع بدء الإسلام ، في ظلال الوحي الإلهي خديجة ترضع ( ۱ ) ابنتها لبناً سائغاً . . تغذيها طهراً ونقاء . . وربما سقطت دمعة على جبين فاطمة . . حزناً من اجل محمد . . محمد النبي الأمي . . ها هو يكافح من أجل النور الذي سطع على جبل النور . من اجل أن تهفو قوافل البشر الحائرة الى ينابيع السلام . . . في وادٍ غير ذي زرع عند البيت العتيق . . في واد يزخر بالعذابات وبالدموع . . كبرت فاطمة . . نمت فاطمة . . أزهر وجهها الصغير الجميل فاذا هي صورة مصفرة لوالدها محمد له ( ۲ ) ، العينان والحاجبان وذلك الضوء اللطيف الذي يحيط بالوجه ، كما تحيط الهالة بالقمر . أرأيت ضوء القمر عندما ينتصف الشهر العربي ؟ أرأيت كيف يشع البدر فيغمر الأرض نوره الهادئ ؟ هكذا قالت عائشة عن فاطمة ، وهكذا ذكر أنس عن أم أنس ( 1 ) عن . . فاطمة . وجه كالبدر ، وبياض مشوب بلون الورد . . أو كشمس يحجبها غمام ناصع ، وشعر فاحم طويل تكاد تعثر فيه . وفي ضوء وجهها تخيط نسوة النبي ويغزلن وينظمن الابرة عندما يغمر الليل المدينة . وتمر الأيام ، وتنمو فاطمة ، تتفتح للحياة ، تتشرّب آيات السماء ، آية آية ، تغتسل كل يوم في ينابيع الكلمات . . كلمات آخر النبوات في التاريخ . . هكذا نشأت فاطمة طاهرة نقية . . ولكن . . بدأت العذابات . . عذابات الأنبياء . . هاهي فاطمة تشهد زمناً يُقهر فيه المستضعفون . . ها هي تصغي بألم الى لهيب السياط تنهال على معذبي الأرض هاهي تشهد فرار المؤمنين تشرّدهم هجرتهم . . وها هي تستقبل اختيها رقية وأم كلثوم باكيتين . . طردتهما « أم لهب » مطلقتين حقداً على محمد النبي الأمي من أجل هذا نشأت فاطمة حزينة حزن سماء تنوء بالسحب وبالغيوم . . بالعذابات فاطمة . . أم حزينة . . وأب مقهور معدّب . . لا شيء في مكة سوى الآلام . . سوى سياط الجلادين . فاطمة تنصهر في بوتقة الألم المقدس . . وأعظم شيء في الروح أن يتحول الألم الى اضطرام للحقائق . . حقائق السماء المطلقة ، وعندها يولد القلب المؤمن . . القلب الأمن المطمئن . . الذي ينبض خيراً للناس كل الناس . .فاطمة فراشة من نور تبشر بالربيع . . ربيع جنات الفردوس . فاطمة تتألم من أجل أبويها . . من أجل المعذبين والمقهورين تتمنى أن يكون العالم اخضر ، والنور يغمر مكة والجزيرة والعالم كله . . من أجل هذا يتألق الحزن في عينيها الواسعتين . . من أجل هذا غادرت البسمة فمها الدقيق . . هي حزينة مادامت خديجة حزينة ، وخديجة حزينة من أجل محمد ومحمد له يتعذب من أجل أتباعه من أجل معلّبي الأرض . . يريد أن يحطم الأغلال . . أغلال اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . طفولة في مهب الأعصار ايه طفولة هي طفولة فاطمة . . وأي زمن عاشت فيه هذه البنت المرهفة الاحساس . . الحزن المقدّس يتألق في عيني طفلة دخلت ربيعها الخامس من عمر الطفولة . . فاطمة تنهض بالعبء الثقيل . . تحاول أن تخفف ولو قدراً من أحزان أمّها المقهورة . . تحاول أن تبدد ولو جزء من آلام والدها العظيم . . والدها الذي فقد أمه في مثل هذا العمر . . آه يا كوثر النبي الأخير . . أية طفولة هي طفولتك . . وأية عذابات هي عذاباتك ؟ ! | هل هي إرادة السماء من أجل أن تولد فاطمة نقية طاهرة . .هل هي مشيئة الرب لتكون فاطمة سيدة ( 1 ) عظيمة لكل أمرأة في التاريخ . . هل هي كلمة الله من أجل أن تتبلور فاطمة حورية في الأرض لأهل الأرض . . من اجل أن تكون فاطمة سيدة لكل النساء من حواء الى آخر انثى في رحم الأيام ؟