في قلب الظلمات حاكت العناكب خيوط المؤامرة ، تفتق الذهن الوثني عن خطة دنيئة . . عن مقاطعة شاملة لبني هاشم . . كباراً وصغاراً . . نساء ورجالاً . . ويشهر الوثنيون سلاح الجوع والحرمان ؛ وتتضاعف آلام فاطمة ، وهي ترافق امها وأباها الى واد قاحل شجاعة الأب وصبر الأم وعنفوان التحدي ، وقوّة المواجهة تتجلى في عينيها الواسعتين وفي أيام الحصار أو قبلها اكتشفت فاطمة فتئ اسمه على . لم تكتشف اسمه ولا رسمه فقط ، لأن فاطمة لاتعنيها الأسماء ولا الألقاب . . تعنيها الروح الإنسانية فحسب . من أجل هذا وجدت فاطمة في علي المثل الأعلى للإنسان بعد أبيها العظيم . . وجدت فيه التضحية ، الايثار وملاحم الفداء . . اكتشفت فيه حبّه العظيم لمحمد . كفصيل يتبع أمّه ( ۱ ) بلهفة كان علي يتبع أباها يلازمه كظله يتشرّب خلقه الكريم ونبله العظيم . وتمرّ ثلاثة أعوام . . سنوات من جمر . . سنون مريرة كستي يوسف أو اشد قسوة . سلبها الحصار اشياء ووهبها اشياء . . سلبها نضارة العيش . . رغد الحياة . . سلبها نضرة الجسد . | ووهبها توهج الروح ، سلبها الشبع ومنحها قوّة الارداة . . سلبها طفولتها ، وحولها الى فتاة متوقدة الذهن ، فياضة الحب . فجرت سنوات الحصار في اعماقها كل القيم الخيّرة ، التخرج فاطمة ثابتة كالجبل . . قوية كالعاصفة طاهرة كقطرات الندى . . ورقيقة كوردة بنفسج . فاطمة تخطو في طريقها القويم لتتبلور فيها صورة الأنوثة الكاملة بكل فضائلها ومكنوناتها التي أودعها الله في ( 1 ) المرأة يوم خلق حواء ليس هناك من يدرك اسرار فاطمة . . روحها العظيمة . . ليس هناك من يسبر عمق الصفاء في عينيها النجلاوين ، وليس هناك من يسبر المديات البعيدة ، حيث يسيح ذهن فاطمة في رحلته عبر الوجود ، الى حيث تولد النجوم في أغوارها السحيقة . كبرت فاطمة وكبرت في أعماقها أمنيات الأنبياء . . اصبحت عيناها أكثر تألقاً ووجهها أكثر نوراً وشعرها أكثر طولاً واعمق سواداً من ليل الصحراء وهو يغمر كثبان الرمال . انصرمت اعوام القهر ، ومضت أيام الجوع والحرمان ، وقد أفنت الأرضة بنود الصحيفة الظالمة فلم تُبق منها سوى باسمك اللهم » . خرجت فاطمة كأقوى ما تكون ، تزخر في قلبها كل معاني الصبر والاستقامة والمقاومة . عاد بنو هاشم الى منازلهم في مكة ، عادوا الى ذكريات الطفولة وملاعب الصبا . -وعادت فاطمة ، وفي قلبها فرحة ، وفي عينيها تتألق معاني الايمان بمستقبل أفضل . وتدور الأيام ، دوران الرحي ، تهرس وتطحن ، واذا بخديجة الأم الرؤوم ، والزوج الوفية المخلصة تسقط اعياء . . لقد هدّها الزمن ، وأضناها الدهر وفاطمة ماتزال صغيرة . . ربما ناهزت الثامنة من عمر الربيع . وتدمع عينا خديجة . . وتتساءل « أسماء » عن سرّ البكاء فتقول الأم وهي على وشك الرحيل : أبكي من أجل فاطمة . . ابكي لحظة الزفاف . . العروس تحتاج الى من تفضي بسرّها اليه . فتقول اسماء : لك عهد الله يا سيدتي ان بقيت الى ذلك أن أقوم مقامك في هذا الأمر . وتغمض الأم عينيها لتغفو بسلام . . وينهدّ قلب محمد لقد فقد من صدّقه ونصره ووقف الى جانبه في صراعه المرير . ويُوارى الجثمان الطاهر لسيدة نساء عصرها في أرض الحجون ـ اين كانت فاطمة في تلك اللحظات ؟ . تبحث عن امها عن القلب الدافئ والصدر الحاني فلا تجده . . تتساءل عنها فيقول الأب وعيناه تهملان : امك في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب ) . وتكر الأيام ويُسدد القدر ضربته الأخرى لقد بلغ أبو طالب الثمانين ، وأن له أن يستريح . ها هو يغمض عينيه ، فتنهد برحيله قلاع المقاومة ويهب الاعصار الوثني المجنون كأعنف ما يكون . ويعاني النبي الأمي شتى صنوف العذاب . . لم يعد هناك من يدفع الأذى والعذاب عن وجه محمد . هاهو أبو جهل يعربد ويهدد . . لم يعد هناك من ناصر لقد رحلت خديجة ورحل أبو طالب والعام عام حزن . فاطمة تسمع وعيد الذين كفروا . . تآمرهم لقتل آخر الأنبياء فتعود الى المنزل تذرف الدموع حزناً على أبيها العظيم شحب الوجه المضيء تضاعف الألم في القلب المؤمن ، وتكسّرت أمواج الحزن في العينين الواسعتين . آه يا أمي الحبيبة ليتك تحضرين . . تشهدين ما يجري على أبي ؟ وفي ضحى يوم كئيب تستقبل فاطمة أباها ، وتفجر غضب في قلبها الطاهر يا لهول ما ترى . . كيف يجرؤ هؤلاء الوثنيون على نثر التراب على وجه أعظم الأنبياء ؟ على وجه من اضاءت كلماته قلوب معذبي الأرض ؟ ! مثلما تهطل أمطار الشتاء . . مثلما تتجمع الغيوم في السماء بدت عينا فاطمة تموجان بالدموع . بكت فاطمة من أجل ابيها المعذب . من أجل الإنسان المقهور . راحت تصبّ الماء على رأسه فتمتزج الدموع بالمياه وهي تنثال على وجه أبيها . قال الأب مواسياً : لا تبكي يا بنية فان الله مانع أباك ۱ ماذا بوسع صبية في التاسعة أو في العاشرة من عمرها أن تفعل . . أتى لها أن تصدّ عنف الزوبعة المجنونة ؟ ! وكيف لها أن توقف مسلسل العذاب ؟ ! | هاهي تتبع أباها تمضي خلفه الى الكعبة بيت الله العتيق . . ويستغرق النبي في صلاته خاشعاً لله . . وينهض وثني أحمق غاظه ما يشهد ، فيحمل بيديه القذرتين فرثاً ودماً فيلقيه على وجه أزهر بنور الله . وتغضب فاطمة ، يتفجر بركان الحزن المقدس ، فتتقدم الى أبيها العظيم فتميط عن الوجه النبوي الأذى . ويتفجر في قلب محمد ال نبع الحب اكثر فاكثر لهذه الفتاة . . لكل هذا الحنان والرحمة فيدعوها : بأم أبيها ، ويقول لها : فداك أبوك ) . فاذا تضاعفت الآلام وتكالبت قوى الشر تريد أن تطفئ (سنن الأنبياء ، عاد النبي الى منزله ليجد فاطمة في انتظاره . فاذا رآها انكشفت عنه الهموم واذا قبلها شعر بأنه يلج جنات الفردوس ) ، فيملأ روحه وصدره من شذى رياحين الجنان