الفصل الرابع

8.5K 214 4
                                    

ما قيمة الحوار؟..
ما قيمة الحوار؟..
ما دمت.. يا صديقتي, قانعةً بأنني وريث شهريار!
أذبح كالدجاج كل ليلةٍ ألفاً من الجواري..
أدحرج النهود كالثمار..
أذيب في الأحماض.. كل امراةٍ تنام في جواري..
لا أحد يفهمني..

لا أحدٌ يفهم ما مأساة شهريار..
نزار قباني
رغم أن هيرونيموس بوس كان لديه شغف تصوير الخطيئة في شكلها الإنساني
المتعدد إلا أنه ربما لم يتوقع عندما خط مرسومه أن لوحته سيوصمها البعض
مع أكثر البقع انحدا ا رً..
غابات بولونيا التي تبعد ببضعة كيلومت ا رت عن الشانزليزيه ويحفها من الناحية
الشرقية نهر السين..
تعتبر ملاذاً مشمساً لأصحاب ذوق التنزه الصباحي ونفقاً مظلماً لهؤلاء من
يتجنبون نقاء الضوء.
أطلقوا عليها المسرات الدنيوية!
فكل شهوة.. دنيا..
وكل تيه.. دنيا.
وكل رخيص.. دنيا..
وكل متاح.. دنيا..
والمتاح هنا مباح, وأقصى أفكارنا انحرافاً هي واقع متجسد ومُعلِن عن نفسه
بمبالغة لا تقبل الجدال..

تراجعت خطوتين للخلف في اشمئزاز وهلع بنفس الوقت, ولكن مقبض باب
السيارة كان قد اختفى كما السيارة ذاتها!!..
ووجدت نفسها وحيدة معه في وسط أشباه بشر جاءوا لعرض بضاعتهم ظناً
منهم أنها طالبة لمتعة رخيصة..
مثله!
كفاية..
كانت زعقة صارمة منه بعدها ابتعدت الأجساد, اختفت في بقعة ظلام مجاورة
كظل جائع فقد معنى الحياة..
الآن نوعاً ما عادت لها أنفاسها وعادت تلك الثقة الواهية التي تغلف بها
نفسها لتعود كارمن كما كانت..
قبل أن تنطق..
تصرخ..
تسب..
أم ربما تلعن..
عادت لتتأمل ملامحه, كان مبتسماً بل أنها لمحت قواطعه الصف ا رء!.. ليست
صف ا رء بحسب, بل أسنان شديدة الصفرة..
مدمن تبغ ربما أم هو متعاطي لما هو أقسى!..

مريض..
مجنون..
يضحك!!
كانت ضحكته عالية ثم تحولت لضحكة متحركة تصاحب تجوال صاحبها من هنا
لهناك!..
يظن نفسه زوربا بعرض ا رقص مسرحي!..
أم ربما قرر أن ينقش بطولة سادية فوق أجساد النساء!..
ضحكاته أولدت لديها ذعر..
وكلمات كتلك التي تصب الرعب في نفوس الأسوياء بدأت تقتحم عقلها دون
تحكم منها, قبل أن تدمرها الأفكار توقف واستدار نحوها في شبه بقعة ضوء
مشي ا رً لمنصة بدت أقرب إلى صخرة قاتمة..
من بين ابتسامة نطق بانتصار:
مسرحك.. شهر ا زد!!..
لم تستوعب.. ولم تفهم أي مقصد هاذر يرمي إليه..
حتى سلطت الأجساد حولهما أضواء ضعيفة لمكانٍ ما, أشار فلمحت مسطحاً
منتصباً تحت الإنشاء يبدو كمنصة عرض.

تلجلجت ثم عاد صوتها مبحوحاً:
مسرح مين؟!.. أنت مجنون!!
التفاتة هستيرية صدرت منه ثم هرع نحوها بخطوات مسرعة أرعبتها فسمرت
قدميها دون ح ا رك..
جذب ذ ا رعها فضمها إليه ولكن في هدوء متناقض مع بريق الحماسة بوجهه..
أ ا زح خصلة من فوق أذنها ليهمس:
ده أكثر مكان يليق بشهر ا زد.. عارفة ليه؟
لم تنطق..
أغمضت عينيها لتنفي بحركة صامتة ا رفضة لكل ما حولها وأولهم هو, ابتعد
عنها ولكن لم يتركها.. وضع ذ ا رعه على كتفيها وبيده الأخرى ثبت وجهها على
ام أ رة..
أجبرها على فتح عينيها لتبصر فرنسية بعمر ربما يناهز الثلاثين عاماً.. كانت
ملامح وجهها جميلة يوماً ولكن المساحيق آلت ببشرة كانت حية نحو
تشققات..
الجسد لم يكن أفضل حالاً ورغم ذلك هي بفخر لجأت لتزيين مواطن الرغبة
بوشوم متعددة أثارت اشمئ ا ززها على الفور..
أيمكن أن يكون العُري قبيحاً لتلك الدرجة!

أدارت وجهها فتركها ليضحك بشماتة متابعاً:
إيه أول مرة تشوفي مومس؟!!.. ولا علشان دي درجة عاشرة ما بتقدمش
بضاعتها بشكل شيك على مسرح أو في قصر!..
بغضب دفين باغتته لتريه الزرقة التي ظل لأشهر ي ا رقبها احتقا ا رً يستحقه قبل
أن تقذف بكلمة لترحل:
حقير..
قولتِ إيه..
أنت مش مجنون.. أنت إنسان حقير..
أنا كنت أفضل مجنون.. دلوقتِ شعرت بالإهانة!!
كان يرددها وهو يمسك بصدره في سخرية بائنة, استدارت لتهرب ولكنه لحقها..
أغلب العباقرة قالوا عليهم مجانين.. جاليليو.. داروين.. سق ا رط.. دافنشي..
لم تستدر..
كانت تسارع في خطواتها نحو أقرب ضوء سيارة, كلها دقائق وستصبح في
الطريق العام وستتخلص من هذا الكابوس الذي ورطت به نفسها بحماقة ومن
جانبه كان يلحقها بخطوات ثابتة, يتكلم وكأن شيئاً لا يحدث وكأنها لا تهرول
هروباً..

إحنا قدامنا نختار نبقى عاقلين وننتهي زي كل حاجة عادية ما بتخلص ولا
نتجنن ونعيش للأبد!
كانت قد اقتربت..
الوجهة تبدو أكثر وضوحاً الآن بل أنها على بعد خطوات من استقلال سيارة
أجرة..
أوقفها بنبرة أخيرة بدت آمرة:
شهر ا زد كانت مجنونة.. كانت مومس.. بس عاشت في ألف كتاب!
لا تعلم هل جذب انتباهها أم أغضبها..
تركت سيارة أجرة تمر بعد أن كانت قد وصلت نحوها بالفعل لتستدير نحوه
متحدية:
شهر ا زد لو مومس يبقى شهريار قواد!!
اقترب منها وقد لمعت نشوة الإنتصار بعينيه ليتابع:
سيبك من شهريار.. شهر ا زد هي البطلة.
وأنت طبعاً مكتشف البطولة دي؟!
أنا اللي هارسمها!
ترسم إيه!.. إنت لسه مصدق اللعبة؟!
صمت الجياد 70

ها رسم نهايتها.. شهرزاد لازم تموت!
شهر ا زد كل يوم بتموت.
وبإيدك تخلصي عليها وتحيي كارمن.
كارمن!!
كانت تنتقطها بتعجب.. شرود.. غفوة في تلك الهاوية التي سحبها نحوها..
وقف خلفها ليدير جسدها ونظرها هناك..
نحو مسرحه المزعوم..
وأ ا زح خصلة ثانية ليهمس بالأذن الأخرى تلك المرة وبصوت دافئ.. متطلب..
لن يتوانى عن تحقيق هدفه..
على المسرح ده أنا وأنتِ حنقتل شهر ا زد علشان نخلد لوحة تانية..
لوحة.. كارمن!!
***************************
بيلعب وحش.
ربما تلك هي المرة ال ا ربعة التي تأتي فيها تميمة متذمرة بشأن محمود, هدأتها
إيناس وطلبت منها أن تلعب بدميتها تاركة لعب الصبيان ولكن تميمة أردفت
بغضب طفولي:

بس ده بيضرب..
ضرب مين؟
كانت نبرة رقية قلقة عالية الصوت, مهرولة من مطبخها في قلق لم تشفع له
العشرة أيام الفائتة بصحبة محمود..
وما يغذيه الآن هو صمت خالد..
فالطفل الشاكي تبدل ولم يعد ينطق بحديث يخص أخيه, بل وصل الأمر برؤية
جرح سطحي بذ ا رعه وعندما سألته أنكر سببه, لتُلقي تميمة بدلوها كالعادة
بعدها وتخبرها أن محمود خدشه!!..
**********
قولتيلهم ليه؟!!
قطبت تميمة حاجبيها وهي تراقب تذمر رفيقها الأحمق الذي يصر على أن
يتغلب على محم ود بنفسه ودون مساعدة..
جلست بجانبه لتتابع ببديهية تليق بأبيها:
هيضربك.. لازم تقول لمامتك.
ويقول عليا عيل إني بشتكي لمامتي؟
كان خالد يجيبها بحزن..

محمود يصر أنه هو الأكبر منه والأكثر قوة والآن والده يفضله هو!
ألم يزعق فيه منذ يومين, ألم يخبره أن يكتفي بحنان أمه!
ألا ندرك أن حماقة أفكارنا يجب ألا تتعدى العقول, يجب ألا تدق آذان الصغار..
الحزن بقسمات خالد جعل تميمة تصمت لوهلة..
ماذا يحدث؟!
هذا ال "محمود" غاضب على الدوام والآن أصبح مثله خالد..
ستلعب مع مَن الآن؟!!
ابتسمت لنفسها وكأنها توصلت لحل سحري لتكلك المشكلة وربتت فوق كتف
خالد لتضيف بابتسامة عاقلة:
لازم تقول لمامتك يا خالد.. علشان إحنا أطفال, الأطفال ما يحبوش الضرب
رمقها خالد بشرود ليضيف دون اكت ا رث لما قالته:
تميمة.. لو قولتِ لماما تاني مش حخليكي تلعبي معانا.. فاهمة.
لم تجبه, فقط كتفت ذ ا رعيها ورحلت..
فاللعب لم يعد ممتعاً كما كان..
**********************
الحي أبقى من الميت.

دلوه الذي يأتي ويعود به..
مر أسبوعان حتى الآن وقل توافد المتشحين بالسواد وبدأ الجميع يعتاد!!
حتى أن الطفلين طلبا حلوى الآيس كريم بالأمس, وأقاما الدنيا طمعاً في
مشاهدة التلفاز..
انتبهت مرة أخرى إليه..
وجدي..
قامة قصيرة نوعاً ما وخصلات دهنية تبدو لناظريها ملتصقة بجبهة أ رسه,
والجبهة بدورها عريضة يبدو أن ورثها عن أمه كما ورث أيضاً قلة الصبر..
كان يرتشف كوب الشاي بعَجَلَة وي ا رقب التوأمين الضاحكين أمام أحد الب ا رمج
الكرتونية..
ابتسم بثقة بعد ما اضجع في جلسته في أريحية أكثر:
والله عيال جدعة!.. الحزن في القلب.
عايز إيه يا وجدي؟
باستدارة صارمة نحوه وجهت السؤال, يغدو ويجئ ويتردد ويشدو باسقاطات
حمقاء.. فلتنهي الأمر والآن.
تلعثم قليلاً وتناثرت حبات العرق فوق جبهته الع ريضة, هكذا هو دائماً عندما
يتوتر..

لم تنسَ ليلة خطبتها والعرق البيّن كالشمس والغضب والتذمر والقلق و.. و..
وعندما تج أ رت وسألته صبيحة اليوم التالي أجاب بآخر ما قد تتوقعه
"البوفيه كان مش أد كده!!.. بص ا رحة أنا اتكسفت قدام عيلتي."
وأيضاً بنفس الصباح خلعت الدبلة وولولت الأم..
فضيحة لا شك وشجعها الأب وعاد هو باعتذا ا رت وتوسلات وتحت الضغط
رضخت..
للعريس "اللقطة"!!
واللقطة يهذي الآن عن مبلغ مالي ودفعة أولى لنجار ما..
والحزن في القلب.. والحي أبقى من الميت..
وهو لا يملك أن يدفع النقود من ماله الآن لأنه أنفقها بالفعل في بضع
بلاطات!!
سحب منديلاً ورقياً عاش ا رً قبل أن يُتِّمها على أحسن حال:
قولي لأمك ده حقك وفلوسك موجودة بس تروحي تسحبي من الدفتر..
الدفتر!
يحدثها الآن عن دفتر؟!!..
هل يندرج الإفت راس تحت جرائم القتل, وألا يجوز في من مثله..

بديناميكية صامته توجهت نحو غرفتها..
كان الصندوق هناك..
وهناك أخبرها منصور أنه قد وفر لها مبلغاً بسيطاً من أجل الزواج, لم يكن
بثروة تكفي فهي..
بضعة آلاف كان يضيف عليها شهريا من الصحة والقوت حتى يتم الستر..
ابتسمت عندما استشعرت رخومة صوته في أذنيها وهو يكرر برضى مبهج..
"ستر البنات ده الجنة يا ليلى.. الجنة"
زفرت بأسى وهي ترمق الخمسمائة جنيه المتبقية في دفترها الذي يبني عليه
الأحمق آمالاً..
وربما المبلغ الموازي لهما الذي تتقاضاه شهرياً نظير إدخال البيانات بأحد
المكاتب المتواضعة بحي قريب..
المئات التي يعتمد عليها وجدي منذ الآن ويبنى فوقها آمالاً من المشاركة!
رمقت التوأمين.. أمها..
وجدي الملتهم لباقي إفطارها..
وخرجت بثقة وابتسامة مطمئنة للغاية.
وحلقة لامعة توازنها بإبهامها وسباباتها أمام عينيه..

"مع السلامة يا وجدي"
*********************
ألا يمِّل الشيطان من خطط النساء!!
وكيد النساء..
ومكر النساء..
كانت تجلس بمواجهة المرآة..
اختارت ثوباً أزرق اللون بفتحة صدر طولية تبرز نهديها بطريقة فاتنة..
واستعوضت عن أحمر الشفاه بلمعة وردية اللون أعطتها مظه ا رً أكثر إش ا رقاً..
جعدت خصلاتها و ا زدت من دجنتها بمستحضرٍ لامع وتفننت في رسم عينيها
بكل درجات الأسود..
الأسود فقط..
هي تريد الليلة أن تبدو غجرية, فهو رجل تليق به غجرية متمردة مثلها,
وليست مجرد صف ا رء بخصلات بنية باهتة ربما تخجل منه حتى الآن!!..
*****
كانت إيناس تجلس بجوار النافذة عندما استشعرت خطواته بالغرفة, رجفة
أصابتها ليس لقربه, ولكن لتذكرها تلك الليلة عندما عاد بتميمة نائمة..

وضعتها في الف ا رش وأخذ هو حماماً دافئاً ليتخلص من أتربة السفر وعندما
انتهى وجدها نائمة..
منكمشة تحت الغطاء وقميص نوم بأكمام طويلة وخصلات معقوصة تخبر كل
رجل ألا يقترب..
بعد تلك اللحظة وتلك المواجهة التي كادت أن تذيب أحجار الجليد أخبرته
بصمت ألا يقترب, بل وأتقنت دور النائمة حتى عندما تحسس خصلاتها
المكبوتة بغموض ثم استدار وببساطة نعس!..
وهكذا كل ليلة..
وكأنها عودة من جديد لروتين يعاقب به كل منهما الآخر ولا يدرك أنه يعاقب
نفسه..
كلمات رقية عادت لتدق في أذنيها..
"خالد عنيد يا إيناس.. بطلي سلبية بقى.. وخودي ناحيته خطوة واتنين
وعشرة.. اعملي زي ما الستات بتعمل"
الآن عليها أن تتفنن في دلع النساء..
وعذوبة النساء..
ولُطف النساء..
بالأمس كان يكفيه أن تكون هي..

والآن يكفيها فقط أن يكون هو..
بغضبه..
بسطوته..
بصمته..
بعشقه البادي بعينيه رغماً عنه وبهجره الذي طال.
صوت باب الغرفة أنبأ عن رحيله..
هكذا دخل وبدل ملابسه وخرج ولم يتحدثا ولم تسأل عن وجهته..
احتضنت وسادتها في شوق وهمست بصوت ربما لو سمعه لاختلف العالم..
"بحبك"
****************
بحبك!!...
كانت هيئتها تكفيه بالفعل..
فلم يكن في حسبانه أن تتحول جلسة العمل لسهرة خاصة ترتدي فيها هذا
الثوب الفاضح..

ضيق ملامحه لم يحيدها فتركت مقعدها المواجه له على المكتب وسحبت آخ ا رً
مجاورًا.. وكان يبدو أنها اختارت عطرها بعناية كما اختارت كل ما يخص
مظهرها..
ومع كل هذا تتصرف بحرفية تامة..
تجذب الأو ا رق وتوضح خانة المصاريف وم ا رسلات شركات السياحة بالخارج..
تخبره عن التغيير القادم بالأسعار وتأخذ توقيعه على عقود التجديد لبعض
العمال والفصل لآخرين.
ولكن فجأة دون مقدمات خرج صوتها هادئاً:
بحبك!
ترك قلمه وأطال النظر نحوها بثبات فابتسمت بمكر متابعة:
في حاجة؟!
استند على مقعده بثقة ليتابع:
أنتِ قولتِ حاجة؟
أنا!!.. قلت إيه؟
لوهلة استفزته..
ولكنه عاد ليكرر بهدوء لا يخلو من بعض الغضب:

إيه يا آنسة شيرين أنتِ مش مركزة أنتِ بتقولي إيه؟..
ابتسمت بثقة ثم رفعت يدها لتدلك رقبتها ببطء دون اعتبار لم ا رقبته قبل أن
تتابع:
أنا شكلي سرحت.. وأنا لما بسرح مش بركز أنا بقول ايه.. ممكن نريح شوية؟
ترك مقعده وتوجه نحو النافذة ثم تابع دون أن يستدير:
هو كفاية شغل النهارده.. نكمل بكره.
أصابها الإحباط وشعرت أن خطتها لم تسر كما يجب, بنبرة متلهفة أجابته:
لا خلاص.. أنا بقيت كويسة!.
استدار ليرمقها بسخرية ولكن على العكس لم تغضبها بل أثارت لمعة التحدي
بعينيها..
تابع وهو يقترب منها حتى أصبح بمواجهتها تماماً وقبل أن تقف أسند قبضتيه
فوق مقعدها فأصبحت فعليا محاصرة بين ذ ا رعيه بلذة!!
أنتِ شكلك تعبانة يا شيرين.. نامي بدري علشان بكره تبقي مركزة بدل ما
تخرفي!
لا تعلم هل ضربات قلبها عشق..
أم خوف؟!.

لا يهم فكلاهما شعور جيد خاصة معه, رسمت فوق شفتيها ابتسامة واثقة
و ا رقبت رحيله..
لم يغضب..
ولم يرفض..
وحتماً الخطوة القادمة ستكون منه...
**********************
واحد.. اثنان.. ثلاثة..
فقدت مهارتك يا أمين!
قالها حمزه ضاحكاً بعد أن قذف بحجره للمرة العاشرة على التوالي بمسافة أبعد
كثي ا رً من تلك التي أحرزها صديقه..
جلس أمين على رصيف الميناء شارداً وعاد لم ا رقبة تلك الوحيدة الطافية فوق
سطح المياة دون صاحبها..
تنهد بح ا ر رة قبل أن يتابع:
الرجالة نفسهم أهل الريس منصور ما يبيعوش بس مش عارف كيف!..
صمت حمزه وشرد بدوره..
منصور العجوز الذي صمد كشجرة معمرة أمام طوفان صبري..

ولم تبقَ سوى عروسه الأصيل "ليلى"..
وبعض الم ا ركب مثلها ولولا أصالة أصحابهن لاستأثر صبري بما تبقى واحتكر
السوق بمنطق الكبار..
وكأن أمين قرا أفكاره فهمس من بين دخان سيجارته:
صبري وراه مختار علي.. هو اللي سانده.
وهو اللي زي ده ناقص فلوس!
ضحك أمين بسخرية:
ناقص يا صاحبي.. ناقص!.
صمت حمزه قليلاً ثم فكر بجدية:
يبقى الحل إن المركب ما تتباعش.. مركب منصور لو اتباعت الخيط الباقي
هيكر و ا رها وما حدش هيقف قصاد صبري.
دهس أمين باقي سيجارته مومئاً بدوره:
صح.. إحنا هنتكلم مع الست أم ليلى ويشغلها أي حد فينا وتاخد نصيبها كل
شهر.. صحيح مش زي وقت الريس منصور بس أحسن من بيعها.
ربت حمزه فوق كتف صديقه:
المهم توافق.. روح نام بقى أنا حاسهر شوية.

ضحك أمين بخبث:
بتوزعني يا صاحبي؟!
ضربه حمزه برقة فوق ظهره ثم تابع بنبرة حماسية:
صاروخ روسي أرض جو!.. شعر بني وعينين لبني يا أمين.. لبني!!.. لون
مش موجود في الوجود!
تنهد أمين بقلة حيلة:
ما فيش فايدة فيك.
استدار ليرحل ثم عاد خطوتين للخلف ليهمس بمكر:
تحب أبعتلك إلجا!
قالها أمين وهرع مسرعاً بضحك قبل أن يلحق به حمزه..
كان قد جهز اللانش وعشاء مميز لجولة ساحرة تحت أضواء القمر, ولكنه تذكر
في اللحظة الأخيرة أنه لم يُحضر أغطية إضافية في حال إذا ما شعرت صديقته
بالبرد, خاصة أنها لا تستغنى عن هذا السروال القصير المسمى..
"الهوت شورت"!
تنهد هامساً:
سامحني يا ريس منصور!.. هرجعهم بكره.

فقز حمزه لقارب الريس منصور ونزل لكابينة النوم عله يجد بعض الأغطية
النظيفة..
كان المكان هادئاً..
مظلماً وساكناً مما أولد بداخله رهبة..
فابتسم ساخ ا رً من حاله وهو يبحث عن مكان تلك الأغطية التي بدت لامرئية:
والله سهرة بريئة!.. اظهري بقى.
كانت لحظة قبل أن يلمح خيالاً مسرعاً في بقعة الضوء الخفيفة التي أشعلها
لنفسه..
انتفض مذعورا لوهلة قبل أن يردد مُطمئناً حاله:
بسم الله الرحمن الرحيم.. هو منصور رجع ولا إيه!!
ارتاح قليلاً وسخر من نفسه, ولكنه ما لبث أن سمع وقع خطوات..
فانتفض بجدية أكبر تلك المرة ظناً منه أن هناك لص بالقارب أو أحد أتباع
صبري.
كان جسداً ضعيفاً يرتدي سروالاً من خامة الجينز وقميصاً أبيض اللون ويخفي
ملامحه خلف قبعة أشبه بتلك التي يرتديها الصيادون..
حاول صاحب الجسد أن يهرب ولكن لياقة حمزه كانت أسرع منه فوثب فوق أحد
الحواجز ليقفز خلفه ويقيده بإحكام وهو يزعق:

إنت مين وبتعمل إيه هنا؟
لم يجب وكان يبدو عليه أنه مذعور, فبدأ يركل بقدميه في شكل عشوائي.. بدا
ضعيفاً للغاية مما أثار دهشة حمزه..
وتبعت الدهشة الحفيظة, عندما استشعر ط ا روة الجسد بين ذ ا رعيه!..
لم يكن يطحن بعظام رجل حتماً, فالرجل لا يمتلك سوى صدر قاسي يحطمه في
عراك وليس...!!
أبعد يديه في ذعر توازى مع سحب القبعة ليفاجئ بشعيرات قصيرة تتناثر أمامه
وجسد رقيق يقفز مبتعداً عنه تحمل صاحبته..
عينين سوداويتين بغموض البحر وجنونه في آن واحد..
تسارعت أنفاس كلاهما..
هي مذعورة..
وهو مصدوم..
ولكنه حوار لابد أن يبدأه أحد..
أنتِ مين؟
لم تجبه..
عادت إلى الوراء وتبدل الذعر بثقة وان كانت مهزوزة..

اقترب منها ليجذبها من ذ ا رعها بقسوة تلك المرة وكرر س ؤاله:
بقولك أنتِ مين؟.. وبتعملي إيه هنا؟..
أغضبها..
الآن تبدلت الثقة لغضب..
فبعد مشقة سفر غير محسوب ووصول بسواد ليلٍ لم تعمل حسابه يأتِ هذا
ليحاسبها!..
وفي الشيء الوحيد الذي تمتلكه..
خلصت ذ ا رعها من قبضته بعنف لتنطق أخي ا رً وبتحدي أوجع صوتها:
أنت اللي مين؟.. وا ا زي تدخل هنا من غير استئذان؟..
ضحك ساخرا:
نعم يا ختي!.. ليه داخل شقة الأستاذ محمود جاد الله في الدور الخامس
!! عمارة 9
زمت شفتيها لترمقه بغيظ:
أنت جاي تهزر هنا!!
اقترب منها فارتدت للخلف دون تخطيط وعندها أيقن أنها ما ا زلت خائفة منه,
تنفس ببطء حتى يهدأ ثم تابع:
بهدوء باسألك.. أنتِ بتعملي هنا إيه؟
شعرت أنه لا مناص لديها من الجواب..
لم تكن تنوي أن تتحدث مع غريب وخاصة بين سكون ليل لا يحمل سواهما..
ارتجفت شفتاها قبل أن تتابع بقلة حيلة:
ده مركب بابا.. ارتحت!
تجمد بمكانه لوهلة حتى استدرك أنها هي بالفعل ولم تسمع منه سوى همسة
بدت أكثر رقة:
أنتِ ليلى!

صمت الجياد بقلم /مروه جمالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن