الفصل السادس

7.9K 204 4
                                    

يا سيِّدتي:
أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ..
ووردةُ كلِّ الحرياتْ.
يكفي أن أتهجى اسمَكِ..
حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ..
وفرعون الكلماتْ..

يكفي أن تعشقني امراةٌ مثلكِ..
حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ..
وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..
نزار قباني
أماريليس
كانت هناك فتاة رقيقة اسمها أماريليس وفي أحد الأيام بينما كانت تتنزه بين
الزهور رات راعي أغنام شاب وقعت في حبه من أول نظرة.
كان اسمه أتيو ولم يكن يهتم يوماً بالنساء..
حياته هي الزهور والزهور فقط وعندما حدثوه عن الحب قال
"سأحب فقط مَن تأتيني بزهرة لم أرى جمالاً يماثلها!"..
غابت أماريليس تبحث عن الزهرة وربما النصيحة لعلها تظفر بحب أتيو..
وأخبرها كاهن بوصفة سحرية..
تتلخص في سهمٍ ذهبي تجرح به قلبها أمام منزل أتيو لكي تعلن صراحة
عشقها نحوه.
ثلاثون ليلة تمر أماريليس من أمام منزل أتيو, تجرح قلبها لتتقطر دماؤها أمام
بابه دون بادرة أمل.
حتى حدثت المعجزة ومن موقع دمائها تفتحت زهرة ساحرة تحمل بين أوراقها
حُمرة جنون العشق ونقاء أبيض لعروس خجول.
كانت تصرخ بفرح مرددة اسمه وحين فتح الباب لمح أجمل فتاة وقعت عيناه
عليها..
كانت تبدو هشة كأفرع الزهور وتحمل بين يديها زهرة أوقظت بقلبه شعور لا
يقاوم.
شعور اختصره بقبلة..
وقلب عاد للحياة..
وزهرة أصبحت أماريليس.
*******************
لحظة..
عندها تلكأت فوق طرف لسانه كلمة..
"أحبك"
لم يكن في حاجة سوى لجنون..

ألم يختبر وجودها مع رجلٍ سواه؟!
لم يحتَج سوى لانعكاس الظلام فوق وجهها ليمتلكها بقبلة كانت أقصى ما
يترجم غضب عاشق.
رشفة قهوة, فتبغ, فشرود, فخيالها من خلف النافذة تراقبه على استحياء في
خشية غير مبررة من الإقتراب!.
ولما غير مبررة!
ابحث عن الكبرياء..
ضحكة ساخرة مرت فوق شفتيه..
هل يتذكر الآن زهور الكبرياء؟!.
لا!
ليست هناك للكبرياء زهور..
كانت هناك أمامه تُشع ببريق غامض في الظلام, زهرة أماريليس بوريقاتها
حُمرة ساحرة تلهب القلب وفي وسطها شعاعٍ أبيضٍراقٍ يشبهها!
تتشبث هي بخجل.. كبرياء.. هروب..
وكأنها ستطوي أماريليس لتضيع حمرتها للأبد!
لما هي تبدو بعيدة إلى الأبد؟!!..

عندما عاد بنظره نحو النافذة كانت قد غابت..
ابتعدت وابتعد هو..
لا يمتلك هو تعويذة كاهن..
ولا هي تبحث عن سهم لأجله!..
*****
هل بهت بريق البندق؟!!
كانت تمشط خصلاتها وتنظر للمرآة بحاجب مقتضب..
لا ترى نفسها بل تراه ينظر لامراة سواها.
منذ البداية وهي ترفض شعور الغيرة بكل معانيه وان اختبرته فلن يكون مع
متسلقة تسعى خلف زوجها منذ أشهر..
ولكن هذا الصباح..
كانت تلك المتسلقة تحمل في خصلاتها الفحمية بريق.. بريق افتقدته هي
بعينيه.
تنهدت ببطء وهي تفتح أزرار قميصها البيتي بتلكؤ..
هناك ببقعة قرب أحد نهديها علامة جرح بات الآن عمره ست سنوات. ابتسمت
وهي تتذكر خجلها منه عندما أصر على رؤيته بصباح ليلة الزفاف..

تهرب ويصر وترضخ بأعين مغمضة ويحتوي هو الجرح وصاحبته بين ذراعيه.
ألم تضحي أماريليس بالفعل؟
ألم تقدم جرح قلب يشهد ندبها عليه حتى الآن؟..
أليس بكافٍ أن يجرحها السهم لمرة واحدة!
*********************
على بعد شارعين من محطة جار دي ليون وبمسافة سير تقدر بثلاثمائة متر
نحو نهر السين هناك مبنى مستقل بحي هادئ به بضعة مطاعم متفرقة..
كانا قد استقلا سيارته ليتخذا الطريق الشمالي المجاور للنهر..
البناية كانت بسيطة مما أجفلها للحظة بسؤال, فقد كانت تظن أنه يعيش
بمكان أكثر قيمة, أجاب حيرتها بثقة وازت مروره من بوابة البناية:
ده الاستديو بتاعي.
رددت عبارته بشرود وهي تتبعه:
استديو!
ابتسم بثقة قبل أن يصعد الدرج الضيق مشيرًا أن تتبعه وهو يهمس:
مش كل الناس تعرف مين هو فعلاً مراد الغازي!.
الشقة لم تكن كبيرة الحجم..

مجرد غرفة معيشة صغيرة تحتوي على أريكة واسعة ومقعد طويل أشبه
بالشيزلونج الخاص بالطبيب النفسي..
في مواجهتهما ركن يشبه المطبخ, لا يحتوي سوى على ثلاجة صغيرة وماكينة
للقهوة..
رغم بساطة المكان إلا أنه ذكرها بشقتها التي رحلت عنها منتقمة.. وهاربة..
دون وعي أرجفتها ابتسامة ساخرة فترددت على مدخل المكان..
ابتسم هو بمكر قبل أن يقيمها من أخمص قدميها لراسها بنظرة..
كانت ضعيفة الوزن..
رغم فتنتها يجزم أنها أقل بريقاً من ذي قبل, شعرها مرفوع بعشوائية وترتدي
حلة رسمية بلون باهت ولكن حمرة شعرها تكفي!..
قدميها تبدو مجهدتان من حذاء أنثوي شاهق..
والأكثر تعباً عيناها وكأنها لا تنام.
قال بعفوية وهو يتجه نحو ماكينة صنع القهوة:
أتصور قهوتك من غير سكر؟
صمتت لوهلة قبل أن تدخل وتتابع بنبرة تحمل ذكرى تأبى الرحيل:
مُرَّة!

من خلفها وبعد وقت قضته في تأمل المكان ناولها القهوة ليسبقها نحو غرفة
مغلقة بباب مزدوج قبل أن يدعوها:
اتفضلي..
رغم عملية الشقة إلا أن تلك الغرفة بدا بها دفء من نوع خاص, جنون فنان
يترك العالم ليرقص فوق لوحة ألوانه..
مر بعقلها ذكرى ام أ رة بأمل وشاب صغير اتخذته وسيلة..
ألم يكن من الأفضل أن تستمع لزه ور حمزه؟..
أم تدرك كم هو غبي حمزه؟!.
كانت مساحة الغرفة مقسمة بشكل طولي ويبدو أنه لم يبخل على تفردها
بشيء, فمع كل خطوة كانت الإضاءة تعمل تلقائياً ليوازي الضوء خطواته
ولوحاته..
مرت بأربع لوحات, لم يتوقف هو عندهم ولكن تعلقت بهم عيناها خاصة بتلك
التي تحمل خيال امراة تتجول بحرية في سوق نخاسة!
ترتدي الأزرق وتزين سرة بطنها بخاتم فيروزي اللون, والفيروز أيضاً يتدلى في
شكل بلوري من فوق جبهتها..
بدت الأجساد حولها كظلال فم ا رد لم يركز سوى على ملامحها وبدت هي وكأنها
وجدت الطريق ليس إلي السوق بل هرباً منه ولكن بخطوات واثقة..

موهوب..
حقيقة لا تنكرها..
هذا الغازي يبدو أنه يحمل موهبة من نوع خاص..
أخيرًا وقف أمام لوحة واسعة الأبعاد وأشار لها أن تقترب..
همست وهي تتأملها:
علشان كده اخترت بولوني
كانت نسخة مقلدة لنقش هيرونيموس..
"حديقة المباهج الأرضية أو المسرات الدنيوية"..
ولكن تلك كانت تحمل اختلافاً مقصوداً, فاللوحة الأصلية مقسمة لثلاث أقسام
أيسرها يمثل الجنة وخلق حواء وآدم, وأيمنها يصور جهنم, أما وسطها فهو
حالة رمزية لإنجراف الجنس البشري نحو المعاصي..
لوحة مراد كانت قسماً واحداً يحوي الكثير من الأجساد على ما يبدو لنساء
استدركت فيما بعد أنهن جميعاً عاريات إلا من غطاء حديدي يخفي وجوههن,
وعلى بعد أمتار منهن رجل يرتدي ملابس تجعله أشبه بجلاد ولكنه يخفي وجهه
خلف نفس الساتر الحديدي!

كلوحة هيرونيموس لم تكن تفاصيل الأجساد واضحة ولكن مراد اختصر كل ما
يريد في ملامح امراة واحدة بدت شاردة عن الجمع لتتخذ قرارها المنفرد بخلع
القناع فبدا فوق ملامحها هلع غامض وكأنها أدركت ما يهابه الجميع..
نظرت كارمن نحوه في حيرة فتقدم ليجوارها متمعناً النظر للوحة في نشوة ثم
قال:
الخطيئة لعنة مكررة عمرنا ما هنقدر نتخلص منها فاخترعنا ماسك.. قناع
نضحك بيه على عيوننا وعلى نفسنا والجلاد هنا مش مثال ذكوري لو ركزتِ
حتلاقي بنية جسمه زيهم بالضبط!
اقتربت أكثر لتدرك أن الجلاد بدوره أنثى تشبههن جميعاً وترتدي نفس القناع..
بدا الجلاد كالضمير الأعمى يقف منتصباً في وضع استعداد والتنفيذ سيكون
لتلك التي تجرات وخلعت القناع..
تراجعت خطوتين للوراء وبدت غاضبة بشكل واضح..
ابتسم فأدركت أنه يعلم ما بداخلها..
رفعت أحد حاجبيها بكبرياء قبل أن تقول:
والخطيئة أنثى!

كان قد خلع سترته وشمر عن ذراعيّ قميصه متخلصاً من قيد زريه الأعلى
ليكون أكثر أريحية, استند فوق مقعد عالٍ يبدو أنه ونيسه بالرسم ثم بلل شفتيه
بلسانه ببطء متعمداً التفكير وربما اللعب بغرورها قبل أن يجيب:
والجلاد هنا أنثى!
كان محقاً ولكنه كان يحمل غموضاً لا تدركه, فالفن لها كان حالة تنفجر
بألوانها فوق ورقة بيضاء..
أما هو فيحمل سوداوية غامضة وربما هو مجرد مقلد يتباهي بفلسفة ما..
كان التحليل الأخير هو الأكثر ارضاءً لعقلها, ولكنه لم يعطها الفرصة لكي تُكمل
التوقعات..
جذبها من يدها لتقترب من اللوحة أكثر..
بل أكثر..
وكأنها يصرخ بأفكاره
"لا تهتمي بالرتوش توغلي بالتفاصيل"
أدركت أنه يدفع أ رسها دفعاً خفيفاً لتواجه ملامح المراة المذعورة..
كانت عيناها تحمل تعبي ا رً يصرح بالكثير..
ذعر لا تعلم هل هو من الموت أم ربما من الخطيئة!!..

وهي لم تكن مبهورة بالفكرة بقدر قدرته الفذة على تصوير تلك الملامح وبهذا
الوجه الصغير..
في بداية ما رسمتها كنت فعلا بقلد لوحة هيرونيموس لكن.. فجأة لقيتني بركز
على الجزء الدنيوي ولقيتني بركز على الم أ رة بحكم أن دايمًا هي رمز الخطيئة
في مجتمعاتنا
استدارت له تتأمل كل تفاصيل وجهه..
كان يتحدث بسرد دافئ رغم قسوة ما يعبر عنه بل ربما هي المرة الأولى التي
يُسهب فيها بحديث مطول, فأغلب جمله معها قصيرة نافذة تحمل بين سطورها
أفكارا آمرة..
تابع هو دون توقف:
ملامحها كانت بتطاردني.. اختصرت اللوحة في ملامحها ولولا المجهود كنت
شوهت كل الرتوش دي وسبت بس التعبير ال ا رئع.
ا رئع!
كان محقاً فروعة اللوحة تكمن في تصويره لتلك الملامح..
وكأنها صرخة ما قبل النهاية..
ارتجفت وشعرت أن الجلاد له ذراعاً تبغيها..
بل أذرع عدة تخرج من اللوحة لتقبض قلبها هي!..

وهو بحرفية اقترب من لوحته يخاطب الفنانة بداخلها لا الراقصة في نموذج
شهرزاده..
أشار للنقش وهو يتابع بجدية:
الفكرة هنا ربط بين الرومانتيكية والواقعية.. رمزية الشرق والخطيئة والأنثى
والعاطفة والواقع..
خوفها واقع!
ألمها واقع!
قبل أن تخرج من دائرة التأمل جذبها للوحة أخرى..
كانت لفتاة تبدو وحيدة بشتاء مظلم..
تلك المرة الصورة مظلمة..
لم يعتمد على الألوان بشكل واضح كسابقتها, الفتاة كانت لها خصلات
معقوصة خلف أ رسها سوى من خصلة شاردة قررت أن تتوسط جبهتها.. الملفت
في اللوحة هو فكيها..
مراد صور فك الفتاة بحرفية نادرة ليرسم حالة رائعة من القهر المتمثل في
حركة فم.
كان يجاورها بخلفية محاضر يشرح هوسه ليستفيض مرة أخرى:

كنت قريب هنا وشوفتها.. هي مومس على فكرة أو تقريباً كانت بتحاول تبقى
مومس.. كان واضح قوي أنها مبتدئة وأنها حتى مش عارفة تجيب زبون.. بعد
محاولات عديدة يأست وقررت تقف في المكان ده تراقب البرد ومحل المخبوزات
اللي في آخر الشارع وعلى وشها الابتسامة دي..
أي فنان يفوت تلك ابتسامة!!..
هكذا كانت تفكر كارمن, كانت لوحة غاية في الروعة حركت بداخلها عواصف
ظنت أنها قد همدت, وريشة تود أن تعود للنور بعد سبات مميت. على وجهها
ظهرت ابتسامة أخرى ربما ليست ممثالة ولكنها أصبحت تحمل تقدي ا رً للرجل
الواقف جوارها..
للفنان داخل الرجل الواقف بجوارها!
أمسك بيدها مرة أخرى..
تخطت في الطريق عدة لوحات لم يبدو أنهم أقل أهمية فها هي لوحة لوجه
بهلوان باكي, وأخرى تمثل سحر شرقي في جارية منتحرة على فراش الموت,
ولكن مراد كان يود أن يريها القطعة الأكثر أهمية في مجموعته
صفعة ما قبل الختام كما يسميها..
فتاة بملامح شرقية تجلس فوق حافة طاولة خشبية, الصورة لم تكن تحوي في
الخلفية سوى حائط زيتي والطاولة تحت فخديها..

كانت لها خصلات باهتة تناثرت فوق كتفيها لا تصل لما بعد ذلك.. مشدوهة
وقفت كارمن فالملامح كانت تبدو مذعورة بشكل مريع..
عيناها ممتلئة رعباً ولا تعلم كيف احتفظ مراد في ذاكرته بهذا التعبير وما السر
خلفه..
شيء آخر لفت انتباهها بشكل قوي فالفتاة كانت عارية تماماً وتلك المرة رسم
م ا رد تفاصيلها دون ا ردع حتى وان كانت قد أحاطت مفاتنها بأحد ذراعيها في
حركة بدت موازية لخوفها وكأنه رد فعل موازي لصدمة..
استدارت علها تفهم..
اللوحة رائعة ولكنها تحمل بين ثناياها حكاية..
وحتماً تلك الفتاة ليست بصدفة على قارعة طريق أو من وحي خياله..
بنبرة هادئة وصوت طغت بحته تأثرًا, عاد بالزمن خمس سنوات:
كان اسمها خديجة.. وقتها كنت عايش في الجزائر في قرية صغيرة على
الحدود.. كنت بحب الرسم قوي وكان عندي أوضة أبسط ما يكون.. ترابيزة
خشب ولوحة, خديجة كانت مبهورة بيا جداً وفعلياً طارت من الفرحة لما طلبت
أرسمها..
تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها مراد عن نفسه..

لهجته مصرية وها هو يسرد ماضي من بلد آخر ولكن الفضول بشأن هذا لم
يكن هاجسها كانت تود أن تعرف حكاية خديجة..
لم تقاطعه فاسترسل وهو يقترب من لوحته أكثر..
خديجة كانت منتظرة لوحة لب ا رءتها في فستان ووردة وصدمتها الأولى كانت
لما عرفت أنا عايز أرسمها إزاي
معضلة! أن تقنع فتاة شرقية بخلع ملابسها كاملة من أجل لوحة..
لم تكن كارمن بحاجة لتفسير فالم أ رة لن تفعل هذا إلا بسبب الحب!
والحب بدايته انبهار..
انبهار بكل ما يحمله فارسها حتى ولو كوارث, نظرت نحوه بألم سنوات مضت
لتسأله:
خدعتها؟
نظر نحوها بعمق..
لم يجبها فقط استرسل في حكايته:
هي أقنعت نفسها.. أقنعت نفسها برغبة آدم في حواء..
بسخرية رمقته وردّت:
ورغبة آدم كانت في شيء مختلف تماما

لمعت عيناه بقسوة ثم اقترب من اللوحة ليشير لوجهها متابعاً: - العُري عندي كان وسيلة مش غاية.. للحظة دي.. هه!
قال "هه" بسخرية قاتلة..
الفتاة.. الصدمة.. الخوف
كانت تتشكل بحياة أمام عينيها..
امراة ورجل برغبتها وحبها وعشقها وأريحية القادم في تنازل تنوي تقديمه بين
ذراعيه..
ماذا حدث؟!
عاد خطوات وجذبها من يدها..
انطفأت الأضواء وخيم الظلام على ملامح المذعورة.. نظرت نحوه بغضب:
إ ا زي؟
كان فمه مغلقاً مع ابتسامة لوته بشكل جانبي واضح..
على أط ا رف شفتيه قوسين هما تعبير الضحك والغضب بسحر غامض..
لم يجبها وارتشف باقي قهوته, جذبت ذراعه هي تلك مرة بغضب له حمرة
مستعرة عادت للحياة..
تكرر بلهجة الآمر تلك المرة:

عملت إيه؟
تنهد بصوت مسموع..
رائحة القهوة بأنفاسه مختلطة بأنفاس خديجة..
هكذا كانت تفكر..
ولكن هو..
هو رجل يسعى خلف هدفه دون رادع..
هو الإبن الذي عشق الفن رغماً عن أنف أبيه..
هو من رتب خطواته بتأني وتنقصه واحدة فقط نحو القمة..
خطوة واحدة..
لوحة واحدة..
امراة واحدة..
تقف كعجينة مستساغة أمامه وسيشكلها كيفما يشاء.
******************
ما تخافيش يا ليلى..
صعب قوي يا بابا..
ما فيش حاجة اسمها صعب..
ما زالت تتذكر يديه وهي تمسك بالمقود..
صوته الرخيم وهو يشجعها كي تتولى الدفة ولو لمرة لن تتكرر!
لم تكن تعلم أن زيارتها التالية ستكون دونه..
أنها ستتولى الدفة منذ ذاك الحين وحيدة..
نسمة هواء داعبت أنفها..
كان منصور يعشق حرية أنفاسه فلم يقيد دفته بحجرة خشبية مثل معظم
القوارب بل تركها حرة بمقدمته في مواجهة الهواء الطلق.
كانت خلفها ضوضاء..
أمين..
مستأجرين.. موسيقى.. عمال.. رحلة غوص..
وحمزه!
تبدلت ملامحها..
وعاد الغضب يستعر جديد مع صوته, هذا الذي هاج وماج دون دور حقيقي
يستحقه عندما علم بنيتها في تسيير عمل منصور..
زفرت بضيق يوازي عدم رغبتها في الإعتماد عليه وربما الإعتماد على أي أحد
ولكنها مضطرة!..

فقد شعرت بحنقة الغريق بحثاً عن عود قش وهم يتحدثون عن موارد وعمال
وعقد وفندق ومسكن وصبري..
وجدت نفسه ملتصقة رغماً عنها بلفظ ريشة في مهب الريح..
ريشة متشبثة بق ا رر لا تعلم كيف السبيل لتنفيذه..
رتب أمين كل شيء وساعده حمزه..
بنود لا تقبل الجدال ربما كقرار عملها مكان منصور..
ولهذا في غضون أيام وجدت نفسها بدوامة..
تسكن مع امراة خمسينية تُدعى فاتن, لها بشرة سم ا رء محببة وتعمل بمطعم
فندق فاخر لتقدم الخبز الفلاحي الشهير..
مثل منصور تعود لبناتها كل شهر وربما ثلاثة..
زوجت اثنتين وباقي واحدة!
تكرر على العشاء والغداء وقبل صلاة الفجر..
"ستر البنات جنة"
وعلى القارب اتفق أمين مع موردي الطعام وبعض العمال من أجل أول رحلة..
ولا مطلوب منها سوى قيادة القارب..

كانت تود أن تتذمر وتصرخ وترتب كل شيء بقوة منصور وحنكته ولكن.. هي
ببساطة لا تعلم كيف!
وكانت ستكون كارثة لو أنها نسيت ما علمه لها منصور بشأن القيادة, ولكن
ببوصلة ومساعدة خفية من الطيب أمين تم الأمر..
لتبحر بليلى وعلى متنها أول فوج بعد رحيل منصور..
الشاي..
كان الأسمر قد أعد لها كوباً ثقيلاً كهذا الذي يفضله أبيها, ارتشفت منه القليل
لتشكره بابتسامة:
شكرا يا ريس أمين.
العفو يا ست البنات.. تأمريني بحاجة؟
الأمر لله وحده.
تركها أمين وتوجه لعمله..
عادة هو مع حمزه يجهز عدة الغوص ويتأكد من مخزون الهواء..
يراقب العمال ويباشر الطعام ويتولى طلبات الضيوف..
ثم ينفرد بحاله في مؤخرة القارب يراقب البحر في شرود..
لا يهتم بالموسيقى العالية ولا بطوفان البيكيني الراقص في مجون..

يؤدي عمله في صمت يشبه أبيها ويشبهها..
هي بدورها قررت أن تتحاشى حتى النظر..
تنفرد بنفسها في مقدمة القارب تتحرك مع طلبهم وتتوقف كذلك..
رغم أن صاحب الق ا رر هو حمزه..
يحدد لها على الخريطة وبالبوصلة أين سيتوجه ويصرخ فجأة:
اقفي هنا!!
ثم يأمرها أن تتحرك من جديد!..
حتماً لم يكن يفعل هذا منصور ولكنها الآن مضطرة.
هدوء عم المكان بعد أن قفز الجميع خلف الغواص الشاب ليختفوا جميعاً تحت
سطح الماء..
تفكرت بمتعة تلك الدقائق بين زرقة تصرخ بلا صوت..
مراقبة الجمال بشق الأنفس..
لم تمر نصف ساعة وعادوا وتبدل كل شيء..
فصمتهم وجلاً لطبيعة فوق قدرتهم تحول لصخب راقص وموسيقى أقل ما يقال
عنها أنها ضوضاء..

بدا أنهم فوج أسباني أو ربما إيطالي فالفتيات يحملن ملامح شرق المتوسط
والرجال لهم سمرة برونزية مميزة..
كانت تحاول ألا تنتبه ولكنهم لم يتركوا جزء بالقارب لم ينتشروا به حتى أن
أحدهم ابتدأ معها حديثاً مطولاً بلغة لم تفقه منها حرفاً..
وفجأة وبأسبانية طليقة:
أنه صباح ا رئع.. وقتا ممتعًا صديقي.
كانت جملة نطقها حمزه قبل أن يودع السائح المتطفل ويجاورها بدلاً منه ولكن
على المقعد..
تجاهلته ولم تسأله حتى عن ما قاله الرجل وما قاله بدوره..
لم تكن تهتم ولم تكن مستريحة لمجاورته لها على المقعد خاصتها فهو قد
يكون واسعاً لفرد لكن لا يجوز لإثنين!
ولكن حمزه لم يبالِ..
بل كان مستغرقاً في التهام وجبته الدسمة من فواكه البحر غير منتبه أن قط ا رت
المياه من جسده طالت ملابسها..
استقامت ليلى مبتعدة تنظف ملابسها في ضيق..
كانت ترتدي سروالاً واسعاً من الكتان الفاتح وفوقه قميص أبيض كان أسوأ
اختيار لبداية عمل فوق سطح مركب..

خصلاتها قصيرة ورغم ذلك تصر على تقييدها والنتيجة تمرد عشوائي من
خصلات عدة تنسدل فوق رقبتها بشكل طفولي لطيف.
ترك حمزه طبقه ليتوجه نحوها ويميل فوق أذنيها بهمس محذر:
لما تلاقي واحد لزقلك كده من غير داعي تناديلي
ابتعدت خطوة لتنطق في استهجان:
وأندهلك ليه إن شاء الله!!
عنيدة تثير فيه مشاعر ضيق وغيظ سحرية..
مشكلة متحركة على قدمين وتظن أنها شمشون الجبار ولولا صبر أمين لأعادها
لمنزلها على الفور متخلصاً من قرارات أطفال دون داعٍ..
فالآن عليه أن يهتم بعمله وابنة منصور!
زفر بضيق يحمل أنفاس وجبته فسعلت بضيق موازي..
تنفس ببطء فلوت شفتيها مللاً..
وجحظت عيناه غضباً فوازته سخرية وكأنها ستخاف..
ما دام مش فاهمة بيقولك إيه تندهي لحد.. أنا مش عايز وجع دماغ مع
الجروب بتاعي..

كانت نبرته عالية وقد نفذ صبره فمنذ دقائق فقط كان رجل أربعيني بمظهر مثير
للجدل يحاكيها دون داعٍ متلذذاً بإخبارها عن رغبته في تذوق فتاة عربية!
لولا قواعد هو مجبر عليها لكان حطم أنفه, ولكن الحمقاء كانت تبتسم وتومأ
براسها موافقة ظانة أنها هكذا تتخلص منه..
ساق عارية ظهرت مفاجآة من خلفه وبذراع نحيلة طوقت رقبته لتنقر نقرات
خفيفة فوق الشعيرات الخفيفة فوق صدره..
لم تدرك ليلى أنها ببساطة تحدق في صدمة..
له وليديها ولنقراتها المتتالية ول..
احمرت وجنتها ورفعت بصرها هروباً لتلتقي بعينيه مما زاد الأمر سوءً.. كانت
الأخرى تهمس في أذنه بكلمة ثم قبلة دون ملامح واضحة منه..
فقط كان يرمقها هي بغضب!
استدارت لتقول نعم حتى تتخلص منه..
ومن تلك المتعلقة برقبته في وضع يحتاج لغرفة وعقد زواج فوري لا لحديث
صباحي عن قواعد عمل!
بعدها بثوانٍ رحل ومعه تلك من نادها هيلدا لينفرد بها في مقدمة القارب في
تناغم رقيق لم يخلو من اختلاس النظر نحوها من حين لآخر..
تنفرد بالمقود..

تتجاهل الجمع واستشعرت الخطر فقيدت خصلاتها بحدة أكبر لتتمرد أكثر
وتُمزق ربطتها وينسدل القصير على كتفيها في تبعثر ممتع..
تنهد بغيظ فهذا ما ينقصه..
حمقاء الصغيرة متشبثة بمهنة رجل لن تجلب له سوى المتاعب..
*******************
صباحها اليوم سيختلف!..
هكذا أصبحت تردد كل يوم ولكن لا شيء..
يظهر هو بموعده المعتاد..
يتابع بعض الأعمال ويتجاهلها متعمداً ثم يعود لمزرعته وخيوله..
الحمقاء زوجته كانت بمضمار الخيل صباح الأمس ولكن وحدها دونه.. جذبت
فرسة تشبهها ولم تجرؤ على أكثر من مداعبة خائبة لا ترقى لإمتطاء الفرسان.
نعست عيناها قليلاً..
قليلاً جداً..
فآخر ما قد يجتاح شيرين نظرة ناعسة فهي شعلة شهية شاء أم أبى.
كانت تفكر وتنظر بالمرآة..

تعدل من وضع قميصها عل المفاتن تبدو مختلفة, ترفع تنورتها وتثنيها
وتفردها..
وتخلع حذاءها وقرطها ثم تختار آخر وفي وسط هذا كله تأرجح خصلة مجعدة
علها عفوية تبهره.
تحول مكتبها لمركز تجميلي!..
لو رآه لقتلها ولعلم كيف تموت شوقاً..
أهكذا يكون الحال مع عشق فارس!.
ألا يمكن أن تنال جولة فوق ظهر حصان وهو معها؟..
عادت عينيها مرة آخرى للنعاس..
بل أضحت مغمضة غارقة في تخيلات غير مشروعة!
ووسط كل هذا همس باسمها..
"شيرين"
ولولا أن الأحلام حقيقية لظنت أن الخيال قد حطم الواقع وأن همسه حقيقي
بدوره وليس زعقة غاضبة من مدير لمستخدمته الغارقة بنوم مبتسم وقدميها
الحافيتين تتأرجحان فوق سطح مكتبها..
ربما مرت نصف دقيقة قبل أن تعدل من موضعها..

المهم أن حمرة الخجل الخائبة ليست حاضرة وأن اللعثمة ليست واردة وحتماً
الإرتباك ليس بحل خاصة مع التكملة وخالد لن يتهاون في حديث يسبقه
غضبه!
صفع الباب ليقترب منها مع اللحظة التي أخفضت بها قدميها وانشغلت بارتداء
حذاءها..
دي أوضة مكتب ولا أوضة نوم؟
خُ يل لها أن صوته لم يجذب الموظفين فقط بل المارة من الطريق الخارجي. لم
يكن أمامها حيلة سوى مقابلة غضبه بهجوم..
اقتربت منه بلمعة متحدية لتجيب:
أوضة نوم!
ولكن..
بعد الجملة كادت أن تندم فبريق عينيه كان ينبأ بزعقة أخرى خرافية أم ربما
صفعة..
غريزتها دفعتها للوراء.
خطوة.. اثنان..
حتى اصطدمت بحافة المكتب.

وعندما شعرت أنه قد ينطق بما لا يحمد عقباه لم يكن أمامها سبيل سوى
شلالات نياجرا!
الدموع المصطنعة تجهدها لحد كبير ولكن ما باليد حيلة..
وما بخالد من أمل فلم تتأثر ملامحه ولو برجفة ظل ي ا رقب العرض بوجه
صنم..
لا حركة..
لا نفس..
والشلالات تحتاج لحشرجة..
ومناديل ولا يوجد فجذبت خاصته من جيب قميصه وكان يحمل ا رئحته فلم تود
ارجاعه..
حرك رقبته يميناً والآن يسارًا, آخر مراقبته الساخرة كما يوضح..
حركت شفتيها في قهر:
أنت ليه بتنسى ني بشر من لحم ودم!.. بس حضرتك معاك حق هتعرف منين
أني واخدة منوم!
الكذب لا يحتاج جواب ولا مجادلة ولا نفي ولا موافقة..
الكذب يسقط بنظرة..

وخاصة لو تقييمية كتلك التي رمقها بها خالد فاستدركت مصححة:
مهدئ.. أنا واخدة مهدئ خلاني سرحت..
عندما أيقن أنها قد ألقت كل ما في جعبتها تخطاها ليجلس فوق مقعدها
فجلست بدورها على المقعد المقابل..
بللت شفتيها لتتابع ولو بأي شيء ولكنه أوقفها بإشارة يد وصمت وهلة قبل أن
يردف بنبرة ثابتة:
وأنا شغلي يمشيازاي بالمهدئات!
أرادت أن تقاطعه ولكن لا مجال..
أوقفها ثانية بنفس الإشارة ثم تابع:
مش مركزة, تاخدي أجازة.. مش مسؤولة عن وضعك ومظهرك حتى لو في
أوضة مكتبك, تروحي أوضة نومك يا شيرين.. بس مش هنا عند ماما!
جانبه المظلم يقتلها..
سخريته رغم كل ما تقدم تذبحها غيظاً..
حركت شفتيها بابتسامة باهتة وحركت راسها بإشارة نعم وهمّت لتغادر.
أوقفها بلهجة آمرة:
رايحة فين؟
بدا صوتها متحشرجاً وخاصة مع جوابها المقتضب:
تعبانة جداً.. لو سمحت ممكن آخد بقية اليوم أجازة؟
كانت الإشارة الثالثة ولكن ليس لتقف أو تسمعه بل بالرحيل كما تشاء..
ولكنها أصرت أن يكون رحيلها مختلفا أكثر دراما..
وأكثر جدوى..
وأكثر تحقيقاً للأحلام..
سقطة فإغماءة!


صمت الجياد بقلم /مروه جمالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن