الفصل السادس عشر
مر يومان على غياب لندا الغير مبرر عن العمل .. كان صلاح يرسل لها في كل يوم رسالة .. يسألها فيها عن غيابها دون أن تمنحه ردا .. كانت تقضي النهار برفقة أمها .. لا تفعل شيئا سوى العناية بها .. والثرثرة معها .. والعمل على تنظيف الشقة الصغيرة بقسوة وشراسة وكأنها تنتقم من نفسها بها ..
منى كانت تتصل بها عدة مرات في اليوم دون أن ترد لندا على اتصالاتها .. ففي عرفها .. لقد خانت منى العهد باطلاعها عادل على شكوكها دون أن تحدثها أولا .. وهي لم تكن مستعدة للصفح عنها حتى مع ثقتها بأنها لم تفعل هذا إلا حرصا على مصلحتها وحبا لها .. إلا أن غضب لندا كان يعود لسبب آخر .. ها هي حبيسة البيت .. لا تفعل شيئا وهي التي لم تعتد على البقاء بدون عمل حتى أحست بأنها ستجن من الملل ... والتفكير ..
تفكر به .. وبمشاعرها الجديدة .. ساخطة لأنها وقعت في حبه هو دون غيره .. هو القادر على إيذائها بسهولة تضاهي سهولة إشعاله سيجارة .. تفتقده .. تشتاق إلى رؤيته .. وتخاف من لقاءه مجددا
كل صباح .. يخرج عادل من البيت .. يبحث عن عمل هنا وهناك .. ثم يعود في نهاية اليوم متعبا ومرهقا .. وقد تضاعفت ألام ساقه .. فتترك له لندا الصالة .. وتعتكف في غرفتها رافضة التواصل معه .. مدركة مدى الألم الذي تسببه له .. ولماذا عليها أن تتألم وحدها ؟
ذلك المساء .. عاد عادل متعبا .. رمى نفسه على الأريكة وهو يبدو في حالة يرثى لها .. العرق يغطي جبينه ويبلل قميصه .. ساقه متخشبة بسبب الجهد الذي تبذله كل يوم .. ومع هذا .. لم توجه لندا نحوه أي كلمة وهي تغادر الصالة كالعادة .. أوقفها قائلا :- ألن تسأليني إن كنت قد وجدت عملا أم لا ؟
ردت بلا اهتمام :- ستخبرني إن فعلت .. صحيح ؟
هتف بانزعاج :- متى ستتوقفين عن التصرف كالأطفال ؟ وتعودين للتعاطي معي مدركة أنني أفعل كل هذا لأجلك ؟
هزت كتفيها قائلة بفتور :- لا اعرف
دخلت إلى غرفتها .. فرمى عصاه بعيدا بغضب .. أطلت أمه برأسها من المطبخ قائلة :- عادل .. اتركها وشأنها .. ستلين قريبا .. وتعود لتصدع رأسك بشقاوتها كالعادة .. امنحها بعض الوقت
أغمض عينيه بإرهاق وهو يفكر بأنه حقا ليس بحاجة إلى مشاكسة لندا .. لقد وجد وظيفة اليوم في مكتب xxxxي بأجر زهيد للغاية .. ورغم عدم قناعته بنزاهة صاحب ا لمكتب .. إلا أن العمل لديه أفضل بكثير من الجلوس في البيت بانتظار الفرج .. سألته أمه بعطف :- تبدو مرهقا .. هل أعد لك بعض الطعام ؟
ابتسم لها وقد غمره حنانها .. وقال بارتياح :- سأكون ممتنا إن أطعمتني بيديك يا أغلى الناسفي غرفتها .. تمددت لندا على الأرض كعادتها .. تحدق بالسقف بجمود .. تستمع إلى حديث عادل مع والدتها في الخارج .. وتسامرهما المرح بحسد .. ليتها تستطيع أن تنسى .. أن تعود كما كانت قبل أن تقابل صلاح .. وتعرف معنى أن تكون معه .. تنظر إلى عينيه .. تتنشق رائحته ..
تنهدت بأسى وهي تغمض عينيها .. لتفتحهما مجددا عندما سمعت صوت رنين هاتفها .. مدت يدها نحوه .. ونظرت إلى رقم هاتف صلاح .. ثم إلى باب الغرفة باضطراب .. كانت هذه المرة الأولى التي يتصل بها بعد أن تركت العمل .. ردت بتردد ك- أ .. ألو
:- أين أنت ؟
هزها صوته الغاضب .. وجعلها تتخيله وهو يحاول السيطرة على غضبه الواضح في عينيه الفضيتين .. همست بارتباك :- سيد صلاح .. أنا
قاطعها بصرامة :- سألتك .. أين أنت الآن ؟
ردت بعجز :- في البيت
:- أريد أن أراك .. سيارتي تنتظرك عند مدخل الشارع حيث كنت أنزلك في كل مرة
اعتدلت جالسة وهي تقول بتوتر :- لا أستطيع الخروج .. أنت لا تفهم .. لقد عرف عادل .. وهو يرفض أي تواصل لي معك
وكأنها كانت تهدر أنفاسها .. قال ببرود :- إن لم تكوني أمامي خلال خمس دقائق .. جئت بنفسي .. وتحدثت إلى شقيقك .. واعدك بأن الموقف لن يكون جميلا
شحب وجهها وهي تتخيل ما هو صلاح قادر على فعله .. وما يمكن للغضب أن يفعل بعادل ..
همست :- أرجوك .. الوقت متأخر ولن أجد حجة مقنعة تسمح لي بالخروج .. أرجوك لا تجبرني على الكذب
صمت للحظات بدت لها كالدهر قبل أن يقول بصرامة :- سأراك غدا صباحا .. ولن اقبل بأي عذر .. وإلا فلن تعجبك النتيجة
عندما انتهت المكالمة .. أغمضت لندا عينيها وهي تشعر بالتعب .. كيف ستقابله ؟ ما الذي ستقوله له ؟ .. كيف ستقنعه بأن أي مشاريع يمكن أن تضمهما معا مستحيلة إن كانت غير قادرة على إقناع نفسها ؟
رن الهاتف مجددا .. كانت منى هذه المرة .. بدلا من تجاهل الاتصال كما كانت تفعل منذ أيام .. أجابت ببرود غير مبالية بتلهف منى لاستعادة صديقتها المقربة :- لندا .. أنا آسفة يا حبيبتي .. أعرف بأنك غاضبة مني .. فقط لو استمعت إلي وعرفت بما شعر ....
قاطعتها لندا قائلة بحزم :- لا أريد أعذارا يا منى .. أنا أعرف بأنك تهتمين لأمري .. وهذا لا ينفي أنك طعنتني في الظهر .. لا أريد أن أعاتبك .. أو حتى أن أناقشك في الأمر الذي انتهى .. لقد أجبت عن الاتصال فقط كي أطلب منك شيئا ..
صباح اليوم التالي .. خرجت لندا من البيت مخبرة أمها أمام عادل المتميز غضبا عن موعد وهمي مع منى ... عارفة بأن منى ستغطي غيابها كما اتفقتا مساء الأمس
كانت منى قد قالت بتوتر :- لندا .. أنا لا أرتاح لذلك الرجل .. ولا أحبذ أن تلتقي به وحدك
قالت لندا بغيظ :- أنا لست طفلة يا منى .. متى ستدركين أنت وعادل هذه الحقيقة .. ليس من حقه التدخل في حياتي دون الرجوع إلي أولا .. كما ليس من حقه هو حبسي في البيت ومعاملتي كالقاصر الجانحة بعد سنوات من تحملي مسؤوليات تفوق مسؤولية أي فتاة أخرى في عمري .. أنا لي حقوق أيضا ومن حقي أن أعيش حياتي
صوتها اهتز وهي تنطق بعباراتها الأخيرة مما جعل منى تصمت طويلا .. قبل أن تقول بحزن :- أنت محقة يا عزيزتي .. ربما تناسينا قليلا أنك فتاة ناضجة وقادرة على اتخاذ قراراتك بنفسك .. سامحيني يا لندا لأنني قد استخففت بك .. اعتمدي علي غدا .. كل ما أطلبه هو أن تتصلي بي فور أن تشعري بعد الراحة أو التهديد معه
.. وقفت لندا في انتظاره في المكان الذي حدده لها .. متوترة وقلقة من أن يراها أحدهم .. كانت قد اهتمت بمظهرها بطريقة بسيطة غير راغبة لإظهار تلهفها لإبهاره .. ارتدت تنورة تجاوز الركبتين بسنتيمترات قليلة بلون الزيتون .. أظهرت ساقيها الرقيقتين بلونهما الذهبي الفاتح .. وقدميها الصغيرتين التين كساهما صندل ناعم ذو كعب متوسط الارتفاع .. ارتدت قميصا حريريا ناعما للغاية التصق بحناياها باحتشام .. أما شعرها .. فقد رفعته على شكل ذيل حصان تاركة بعض الخصلات الداكنة لتكحل وجهها الصغير
شدت حزام حقيبتها فوق كتفها .. ونظرت إلى ساعة معصمها بقلق .. ثم سرعان ما رأت السيارة الفضية .. والتي توقفت أمامها مباشرة .. أسرعت وبدون تردد تفتح الباب وتدخل فقط كي تهرب من أعين المارة الفضولية
أغلقت الباب ونظرت إليه .. حبست أنفاسها عندما وقع بصرها عليه بعد أيام منذ لقائهما الأخير في مكتبه .. كان مختلفا هذه المرة .. كان يرتدي ملابس بسيطة .. أنيقة للغاية .. إنما بسيطة وبعيدة عن تكلفه المعتاد سروال أنيق رمادي .. وقميص أسود .. أظهر لون عينيه الغريب .. في ضوء النهار .. ميزت بوضوح الفضة المائلة للخضرة .. لمعانهما وهما تتأملانها بدقة .. تناقض مع جمود ملامحه .. بدا غاضبا ومتوترا .. وقد ظنت أن شخصا مثله لن يعرف يوما القلق .. غاضبا منها .. ومتشوقا لرؤيتها .. عرفت هذا من الطريقة التي أطبق فيها فمه بتوتر .. إذن .. هي من يسبب له التوتر
هذه المعلومة منحتها الجرأة كي تقول بلطف :- صباح الخير
أدار المحرك من جديد وهو يقول :- صباح النور .. آسف لتأخري
جفاءه جعلها تحس بخيبة الأمل .. إلا أنها عادت وذكرت نفسها بالسبب الأساسي الذي دفعها للقائه مجددا .. يجب أن يضعا النقاط على الحروف .. يجب أن يدرك بأن زواجهما فكرة غير واردة على الإطلاق .. فرغم كرهها لهذا .. فإن عادل كان محقا .. ورجل كصلاح لن يتزوج بها هي دون غيرها من النساء بدون هدف مبطن
تحركت السيارة تقطع الطرقات .. فانزوت في مكانها مانعة نفسها عن سؤاله عن وجهتهما .. رغم كل مخاوفها وشكوكها .. جزء منها اخبرها بأنه أبدا ما كان ليؤذيها .. حتى عندما طرح عرضه المشين قبل أيام داخل سيارته .. عرفت بأنه أبدا لن يفرض نفسه على امرأة .. بل هو لن يكون بحاجة لذلك أبدا .
أغمضت عينيها متذكرة كلماته التي تغلغلت داخل أعماقها .. ربما لو كان قد ضغط عليها قليلا بعد .. لانضمت إلى ركب الكثيرات اللاتي استسلمن لسحره .. وسلطته العفوية .
قال فجأة منتزعا إياها من شرودها :- أخبريني بما حدث
اعتدلت في جلستها .. ونظرت إليه بارتباك .. مسدت تنورتها بحركة لا إرادية لتخفي اضطرابها ثم بصوت خفيض حكت له ما حدث .. استمع إليها مقطبا وهو ينظر إلى الطريق ا لذي بدأ بسلكه دون أن تشعر به .. لم يقل شيئا حتى انتهت من كلامها .. ظل صامتا للحظات طويلة غارقا في التفكير .. ثم قال بهدوء :- ما هو شعورك اتجاه ما حصل ؟
تمتمت :- ماذا تظن ؟ .. عادل هو أخي الأكبر .. وفي النهاية هو صاحب القرار النهائي فيما يتعلق بحياتي .. قال بشيء من العصبية :- ما عنيته هو .. هل تشاركينه الرأي بما قاله ؟ .. هل تظنين بأنني أسخر منك .. وأن رغبتي في الزواج بك هي نزوة أمر بها ليس أكثر ؟ هل تؤمنين أنت أيضا بعدم جدوى ارتباطنا ؟
صمتت للحظات طويلة قبل أن تهمس :- أنا لا أصدق بأنك تهتم لأمري حقا بحيث ترغب في الزواج بي ؟
نظر إليها غير مصدق وهو يقول :- ألم أظهر لك اهتمامي بما يكفي ؟
احمر وجهها وهي تتذكر حديثهما في مكتبه .. الطريقة التي أمسكها بها ونظر فيها إلى عينيها متحدثا بعاطفة ظنت أنه لا يعرفها .. قالت :- لتكن صادقا مع نفسك .. رجل مثلك لن ينظر إلى فتاة مثلي إلا لأسباب عبثية .. بالضبط كما حدث ذلك المساء في سيارتك .. أنا ما زلت لا أفهم سبب اختيارك لي أنا بالذات دون غيري من الفتيات .. لا أستطيع أن أصدق أن مشاعرك نحوي هي السبب .. أنت لا تحبني .. وأنا لا أملك ما أعطيه لك أبدا مقابل ما تخطط لمنحي إياه
ثم تابعت باكتئاب :- عادل محق تماما .. هناك شيء غير منطقي في الموضوع .. ربما ما كان علي القدوم لرؤيتك ..
أوقف السيارة فجأة .. ذهلت عندما نظرت حولها .. لتجد بأنهما قد خرجا من المدينة .. وقد سلكا الطريق نحو المدينة الجبلية المتاخمة لمدينتهما .. كانت السيارة قد توقفت إلى جانب الطريق .. مطلة على منحدر خطر .. إلا أن المشهد البديع الذي غطى المساحات الشاسعة أمامها .. خلبت لبها .. همست مذهولة :- ما الذي نفعله هنا ؟
فتح باب السيارة .. وخرج بدون أي كلمة .. راقبته وهو يتقدم نحو حافة المنحدر .. ويقف هناك محدقا في المشهد الساحر بينما يداه تشعلان سيجارة بثبات
تأمل المشهد الخرافي للمنحدر المكسو باللون الأخضر .. بالبيوت الصغيرة المتباعدة لسكان المنطقة البسطاء .. أخذ نفسا عميقا من سيجارته .. وهو يتساءل .. هل عليه أن يقول لها الحقيقة ؟
ترجلت من السيارة ولحقت به مترددة .. وقفت وراءه غير عارفة ما تقوله .. إذ أن صمتا اكتسب قدسيته من رهبة المكان .. أسكتها
هبت نسمة رقيقة عبثت بتنورتها .. ولاعبت خصلات شعرها الناعم .. فأحاطت نفسها بذراعيها وهي تشعر بالهشاشة بسبب جهلها لما يفكر به هذا الرجل
قال أخيرا :- هل تصدقين حقا أنني أعبث بك فقط يا لندا ؟
نظر إليها .. وتأملها مليا وهي تبدو أشبه باللعبة وقد توردت وجنتاها .. واتسعت عيناها بحيرة .. تمتمت متلعثمة :- أنا .. لا .. لا أعرف .
قال بهدوء :- ا تريدين أن تعرفي سبب رغبتي بالزواج منك يا لندا ؟
هزت رأسها متوجسة وقد أحست بالخوف مما قد تسمعه .. قال بهدوء :- أنا في الثانية والثلاثين .. أي أنني في عمر يستلزم مني البدء بتأسيس عائلة .. لقد حان الوقت ببساطة كي أتزوج .. لا عائلة لدي وقد تزوجت بنتي عمي وأصبحتا جزءا من عائلات أخرى .. حياتي فارغة .. كئيبة .. لا معنى لها منذ فترة .. أنا آكل .. وأشرب .. وأعمل .. فقط .. بين الحين والآخر أخرج مع إحداهن فقط كي أشبع حاجات مؤقتة لرفقة امرأة .. ما الأمر ؟ هل صدمتك .؟
قالها بفضول وقد لاحظ احمرار وجهها وارتباكها وهي تتحاشى النظر إليه .. رافضة تخيله مع نساء أخريات .. لم ينتظر منها جوابا .. قال :- قبل أسابيع قليلة فقط .. ظننت بأنني قد فقدت كل ما يدفعني لأن أعيش لأجله .. لم يعد شيء يثير اهتمامي .. أو حتى يثير مشاعري .. يشعرني بآدميتي .. حتى قابلتك .
رفعت عينيها إليه متفاجئة .. فرأت عبوسه وهو يأخذ نفسا آخر من سيجارته قبل أن يرميها أرضا ويطأها بقدمه .. نظر إليها متابعا :- أنت أول امرأة أقابلها منذ فترة طويلة تثير لدي ما يزيد عن رغبة يسهل الحصول عليها .. أو تعويضها .. أو حتى تجاهلها .. أنت المرأة الوحيدة التي استحوذت على تفكيري .. ووجدت نفسي أستعيد صورتها مرارا عندما أكون وحيدا .. أفكر بها كإنسانة .. لها ظروفها وأحاسيسها .. لأول مرة .. أرغب بأن يعجب بي شخص وأنا الذي لم أبالي يوما برأي الآخرين بي
خفق قلبها بقوة وهي تستمع إليه .. هل يقول الصدق ؟ .. هل يهتم لأمرها حقا أم أنه يخدعها ؟
اقترب منها قائلا بحزم :- انظري إلي يا لندا .. قد أكون أي شيء .. رجل عملي بارد .. قاسي وحيواني الغرائز أحيانا .. إلا أنني لست كاذبا .. أنا لن أقول لك أبدا بأنني أهتم لأمرك إن لم أكن كذلك .. ربما أنا لا أحبك .. ليس بتلك الطريقة التي يصفها الشعراء والكتاب .. إلا أنني أريدك .. كزوجة أعرف بأنها ستصون بيتي وترعاه .. وأما لأولادي أعرف بأنها ستحبهم .. وتحميهم .. ولن تخذلهم قط .. وكامرأتي .. تدفئين سريري وحياتي .. وتذهبين الوحشة التي طال مكوثها في قلبي
رفعت رأسها إليه وهي ترتجف من تأثير نظراته العاصفة ... همست بضعف :- صلاح .. أنا ...
برقت عيناه عندما نطقت باسمه بتلك الطريقة التي أذابت قلبه .. اختفت جدية ملامحه .. وحلت مكانها الحاجة الملحة .. الضعف الشديد .. مد يده نحوها وهو يقول بصوت أجش :- تعالي
نظرت إلى يده .. وسرت رعشة خوف وإثارة في أوصالها وهي تهز رأسها ترددا
رقت نظرته وهو يقول :- تعالي يا لندا
لم ينتظرها كي تلبي دعوته .. كان قد وصل إليها .. وأمسك بيدها .. وقربها إليه حتى كادت تلتصق به .. لم تعد لندا قادرة على التفكير عندما أحاط وجهها الصغير بيديه الكبيرتين .. تناست وجودهما في مكان خالي إلا منهما .. تناست خوفها واضطرابها .. لم تشعر إلا بلمسته .. برائحة عطره .. بجاذبيته الكبيرة التي لفحت حواسها وسرقتها كاملة فلم تعد تشعر إلا به .. قال بحزم لطيف :- انظري إلي
امتثلت لأمره بضعف .. فدمرت العاطفة الفجة المطلة من عينيه ما تبقى من مقاومتها .. يا الله كم هي جميلة عيناه .. أحاطت بهما سحب الانجذاب المدمر الذي جمع بينهما منذ لقائهما الأول تحت ستار العداء والغضب .. غلفتهما بأنسجتها حتى اختفى العالم الخارجي من حولهما ولم يعد هناك سواهما في شرنقة جدرانها رغبة ولهفة .. توسل وشقاء .. نظر إلى كل قطعة من ملامحها الرقيقة .. عينيها الواسعتين .. أنفها الدقيق .. وفمها الشديد الرقة .. والمنفرج بلهاث تردد صداه داخل فؤاده بصخب .. قال بصوت أجش :- هل تريدين حقا أن تعرفي .. لماذا اخترتك أنت ؟
ببطء شديد .. أحنى رأسه نحوها .. ولامس شفتيها بشفتيه .. انتفضت بين يديه .. وارتعدت مصدومة من قسوة المشاعر التي اجتاحتها .. لمسته كانت خفيفة .. وسريعة .. ولكن كافية لتحني ركبتيها من تحتها وتسلب منها القدرة على الوقوف .. فما كان منه إلا أن أمسكها بقوة بين ذراعيه .. وضمها إلى صدره وكأنه يزرعها بين أضلعه .. أحست بصخب نبضات قلبه .. بعنف أنفاسه .. فأنت مذهولة من تأثيره عليها .. دون أن تعرف بأنه بوجودها بين أحضانه .. كان يعاني الأمرين في السيطرة على مشاعره .. مرر يده على وجنتها الناعمة .. ثم رفعها إلى شعرها ليحل رباطه تاركا خصلاته الكثيفة تتخلل أصابعه .. قال بصوت أرهقته العاطفة :- أنت ستكونين لي .. قولي بأنك تريدينني في المقابل .. حتى أحارب الدنيا وما فيها لأجلك
وهل تستطيع الاعتراض ؟ لم تملك إلا أن تهز رأسها بضعف .. فرفع رأسها إليه .. ونظر إلى عينيها الضارعتين .. كانت صغيرة جدا .. ضعيفة جدا وبريئة للغاية .. كل ما يحتج لفعله هو أن يضغط عليها قليلا بعد ليحصل على ما يريد .. ولكنه لن يفعل .. أبدا لن يسمح لنفسه بأن ينسى إنسانيته مجددا .. لقد منحه الله الفرصة ليثبت بأنه رجل جدير بالاحترام .. وأنه قادر دون اللجوء إلى جينات أمه العنيفة .. وقسوة عمه المتوارثة على كسب حب وثقة امرأة برقة لندا .. بوفاء وإخلاص لندا .. ببراءتها ورقتها
أغمض عينيه وهو يقول متعذبا :- من الأفضل أن اعيدك الآن قبل أن أتهور
أبعدها عنه بلطف .. وتركها بعد أن تأكد من استعادتها لقدرتها على الوقوف .. نظرت إليه بضياع .. غير قادرة على استيعاب ما أيقظه داخلها .. فابتسم بحنان قائلا :- أنت ستكونين لي .. في بيتي .. أمام الناس .. والمجتمع .. أنت ستكونين عروسي التي ستحكي الناس طويلا عن مدى جمالها ورقتها في فستان زفافها الأبيض
همست :- وماذا عن عادل ؟
قال بحزم :- اتركيه لي
استعادت شيئا من قدراتها الذهنية عندما رأت شيئا من القسوة في عينيه .. هتفت بقلق :- ماذا ستفعل ؟
قال لها بهدوء :- لا تقلقي .. سأتحدث إليه فقط
ثم منحها ابتسامته الساحرة التي أنستها مجددا كل مخاوفها وهو يقول :- ما رأيك بإفطار متأخر .. أعرف مكانا لا يصدق في قمة هذا الجبل يقدم أشهى فطائر ساخنة على الإطلاق
وقبل حتى أن تفكر بالاعتراض .. لامس وجنتها برقة قائلا :- وسأعيدك إلى بيتك بعدها مباشرة .. وأعدك يا حبيبتي بأنك في لقائنا القادم .. ستحملين خاتمي حول إصبعك .. وأنا أحدا لن يستطيع إبعادك عني بعدها أبدا
التفكير بخاتمه حول إصبعها أدفأ قلبها .. ومنحها الطمأنينة والفرح وهي تتخيل نفسها خطيبة لهذا الرجل الرائع أمام الناس جميعا .. ابتسمت .. ومنحته يدها برضا ليقودها عودة إلى سيارته .. دون أن تعرف بأنه إنما يقودها نحو الضياع في متاهة .. خريطة أسرارها لم تكن متاحة حتى له هو