الفصل الثامن

3.4K 75 3
                                    




الفصل الثامن
عبق الياسمين

كان صلاح يحاول جاهدا السيطرة على غضبه عندما غادرت الفتاة الحمقاء سيارته .. وعندما لاحظ بأنها قد نسيت حقيبة يدها الجلدية حيث كانت تجلس .. أنزل زجاج النافذة وناداها بنزق :- هيه .. انتظري
لم يبد أنها قد سمعته .. إذ استمرت بخطواتها التي كانت في هذه اللحظة بعيدة تماما عن الرشاقة .. كاد ينطلق بالسيارة غير مبال وقد اعتراه الحنق من ضعفها وترددها .. إلا أنه شتم فجأة عندما رأى الفتاة بعينيه تنهار فوق الرصيف فاقدة الوعي
ترجل من السيارة بحنق وهو يتوعد إن كانت تقوم بإحدى ألاعيب الفتيات التي يحفظها عن ظهر قلب .. كان الشارع خاليا .. فقد تعمد إيقاف سيارته بعيدا عن أي متطفل .. وبالتالي لم يلاحظ أحد الفتاة الساكنة تماما على الأرض
جثا إلى جوارها .. وقلبها على ظهرها .. ولاحظ الجرح السطحي الذي أصاب صدغها نتيجة اصطدامها بالأرض الصلبة .. لا .. لا تمثيل في الأمر .. ربت على وجنتها الشاحبة وهو يقول بانزعاج يشوبه شيء من القلق :- يا آنسة .. آنسة لندا .. هل أنت بخير
أنت بضعف .. فأحس بشيء بغزو صدره .. شيء كالشفقة .. كما لو أنه رأى قطة تتألم .. أحس بها ضعيفة جدا وهي مكومة أمامه بحاجة لمن يحتويها .. هذا الإحساس المفاجئ .. جعل عدم الارتياح يجتاحه .. عاد يربت على وجنتها وهو يكرر :- لندا ..
فتحت عينيها بضعف .. رأى اللون الذهبي يرمقه بنظرة مشوشة .. وكأنها لم تستعد تركيزها بعد .. سمع ضجيجا قادما من أول الشارع .. فكان رد فعله فوريا .. دس يده وراء ظهرها .. والأخرى أسفل ركبتيها .. وحملها بسهولة شديدة إلى سيارته .. وضعها على المقعد الأمامي .. فتغلغلت رائحة ناعمة بين أنفاسه عندما اقترب من شعرها وهو يحكم وضع حزام الآمان .. هل هي رائحة الياسمين ؟
تصلب جسده .. وقست ملامحه وهو يتركها .. ويدور حول السيارة جالسا مكانه خلف المقود .. لم يتحرك على الفور .. نظر إليها حيث تمددت بارتياح إلى جانبه .. وقد تشعث شعرها ذو التسريحة المنضبطة عادة .. وتحررت بعض أزرار سترتها كاشفة عن عنق رقيق وبشرة ناعمة بلون القمح الصافي
ما الذي أصابه ؟ .. وإن كانت لندا سليمان فتاة جميلة .. فهي بالنسبة إليه مجرد عمل صرف .. ولا معنى على الإطلاق لرعشة الإثارة التي أحس بها وهو يضم جسدها إليه عندما حملها شاعرا برقتها وأنوثتها إلى جوار رجولته القاسية ..
تحركت بضعف وهي تمد يدها نحو صدغها .. فأجفلت متألمة عندما لمست الجرح .. فتحت عينيها وهي تنظر حولها مذهولة .. نظرت إليه .. فكان وجوده صدمة شديدة لها .. كان ينظر إليها ببرود شديد .. عينيه القاسيتين تلمعان بغضب لم تعرف سببه .. سألته باضطراب :- ما الذي حدث ؟
قال بوجوم :- لقد فقدت وعيك فور اعتلاءك الرصيف
أغمضت عينيها للحظة قصيرة وهي تشتم نفسها على غباءها .. هذا هو سبب غضبه إذن .. لقد عكرت مزاجه وأخرته عن أعماله المهمة بسبب انهيارها السخيف .. تمتمت بحرج :- أنا .. أنا آسفة .. لا أعرف ما أصابني
قال ببرود :- سنعرف ما أصابك فور مرورنا بالمستوصف .. جرحك بحاجة إلى تنظيف .. وربما أنت بحاجة لرؤية الطبيب لمعرفة سبب فقدانك الوعي
شحب وجهها وهي تقول بانفعال :- لا .. لا ضرورة للمستوصف .. أنا لا أحتاج إليه
كان قد بدأ بالفعل التحرك بالسيارة قائلا بجفاف :- أنا لم أسألك رأيك .. لقد فقدت الوعي فور تركك لسيارتي .. خلال لحظة كنت مكومة على الأرض بلا إنذار .. إن كنت مريضة فأنت بحاجة إلى رؤية الطبيب .. نحن لسنا بحاجة إلى انهيارك في هذا الوقت بالذات
أحسب بالمرارة وخيبة الأمل عندما عرفت بأن اهتمامه لا يعود أبدا إلى القلق عليها .. فهو خائف على استثماره لها أن يذهب هباءا .. قالت بمرارة :- لا تقلق .. لن أتقاعس عن عملي بسبب أزمة عابرة .. أنا لست مريضة .. أنا فقط لم آكل شيئا منذ الصباح
ألقى نظرة عابرة نحوها .. وعبس وهو يعود لينظر إلى الطريق .. تمتم بجفاف :- وهو تصرف أحمق للغاية منك يا آنسة ..
نظرت إلى الطرقات التي أخذت السيارة تعبرها بثقة فأعادت رأسها إلى الوراء خشية أن بتعرف عليها أحد برفقة رجل غريب .. قالت بتوتر :- لا أفكر بالأكل عندما أكون مشغولة الفكر .. أرجوك .. أنزلني عند أول موقف للباص .. وسأكون شاكرة ..
لم يرد عليها .. فافترضت وحدها أنه سينفذ طلبها في أسرع فرصة كي يتخلص من عبئها .. إلا أنه فاجأها بإيقافه السيارة أمام أحد المطاعم السريعة ذات الشعبية الكبيرة .. والتي ازدحمت موائده الخارجية بالشباب المماثل لها بالعمر .. قبل أن تطرح أي سؤال .. قال وهو يحل حزام الأمام :- انزلي
قالت بدهشة :- لماذا ؟.
نظر إليها بضيق وكأن بطئ استيعابها قد أزعجه .. وقال :- ما دمت ترفضين الذهاب إلى الطبيب .. فأقل ما علي فعله هو إطعامك
حدقت هذه المرة بذهول من مبادرته الغير متوقعة .. فابتسم بسخرية وهو يقول :- صدقي أو لا تصدقي .. لدي بعض الإنسانية بين جوانب صدري ..
قالت بارتباك :- لست .. لست مضطرا لإطعامي .. سآكل فور عودتي إلى البيت .. أرجوك ..عائلتي بانتظاري
فكرة تناولها الطعام برفقته أذعرتها .. لم تعرف السبب .. هل هو القلق من رؤية الآخرين لها معه ؟.. أم لأنها ترفض أن يكون له أي فضل عليها حتى بلقمة تأكلها ؟ .. أم أنها ببساطة ... لا تستطيع تخيل مرافقتها له دون أن يكون العمل بينهما .. لم تستطع استيعاب الفكرة .. كيف لها البقاء معه في مكان واحد .. وحدهما دون رفيق .. يتحدثان معا .. بحق الله .. بأي شيء قد يتحدث رجل مثله مع فتاة مثلها ؟
قال بنفاذ صبر :- لا وقت لدي يا آنسة .. ترجلي ودعينا ننهي ما جئنا لأجله
ترجلت مذعنة بمرارة .. لماذا قد يهتم أساسا بالتواصل معها .. كل ما يريده هو تنقية ضميره وتغذيتها لقاء التوتر الذي وضعها فيه خلال الأيام السابقة .. صحيح ؟ .. مع أنها لم تتخيل أبدا أنه يملك ضميرا في الأصل ..ثم لماذا تهتم إلى هذا الحد برأيه بها أو حتى بسبب اهتمامه بها .. إن كان مصرا على تقديم وجبة لها .. فستحرص على الاستمتاع بها تماما
دخلا إلى الصالة الداخلية حيث كان الجو أكثر هدوءا .. والرواد أكثر نضجا .. قادهما النادل إلى طاولة نائية قريبة من النافذة العريضة المطلة على الشارع .. وعلى الموائد الخارجية .. والشاشة العملاقة المنصوبة خارجا حيث تعرض عليها مباراة مهمة كما يبدو من هتافات المشاهدين الحماسية
اعتذرت للذهاب إلى حمام السيدات لتصلح قليلا من مظهرها الخارجي .. حيث اكتشفت بأن جرحها البشع يمكن أن يختفي فقط بإسدالها بضع خصلات من شعرها فوقها .. وعندما انكسر دبوس شعرها .. اضطرت لتركه منسدلا خلف ظهرها بحرية وهو ما تتحاشى فعله عادة لما يسبغه على مظهرها من ضعف غير مستحب .. غسلت وجهها ويديها من الأتربة التي علقت بها بسبب سقوطها على الأرض .. وخلعت سترتها المتسخة لتظهر بنيتها النحيلة والرقيقة عبر قميصها الحريري الناعم .. لم تجدد زينتها لأنها لم تكن من النوع المحب للفت الأنظار عادة .. ثم عادت أخيرا إلى الطاولة حيث وجدت رئيسها يتصفح قائمة الطعام باهتمام .. فوقفت لدقائق تنظر إليه بصمت ملاحظة التناقض بين أناقته ومسحة الأرستقراطية في وجهه ونظراته .. مع بساطة المكان وطابعه الشبابي .. خمنت بأنه يرتاد عادة المطاعم الراقية والمترفة .. وهو طبعا لن يأخذ فتاة عديمة الشأن مثلها إلى مكان أنيق يرتاده معارفه ..
أحس بنظراتها فرفع عينيه إليها .. جمد بصره فوقها عندما خطت نحوه بارتباك .. هل هذه هي الفتاة نفسها التي بدت كالفأرة الرمادية وهي منكمشة في سيارته قبل دقائق .. لا .. إنها أخرى مختلفة .. بنفس الجسد .. والعينين الذهبيتين .. مع شعر طويل للغاية .. شديد السواد .. انساب حتى نهاية ظهرها محيطا بوجهها الصغير مانحا إياها أنوثة طاغية وكأنها أميرة من أميرات الغجر .. خصرها الدقيق ظهر بوضوح عندما تخلت عن سترتها .. وظهرت معالم جسدها الأنثوية الرقيقة .. الفأرة الرمادية .. اتضح بأنها ليست فأرة على الإطلاق .. فكر بهذا بقسوة وهو ينظر إليها ببرود .. رافضا أي انجذاب منه نحو الفتاة الجميلة .. التي جلست أمامه فتأرجح شعرها حولها بدلال .. غامرا إياه برائحته العطرة .. نعم .. قطعا هي رائحة الياسمين
تمتمت بارتباك :- آسفة لتأخري ..
قال ببرود :- جاء تأخرك بنتيجة لا بأس بها .. تبدين الآن أشبه بفتاة يفتخر الرجل بصحبتها أمام الناس
احتقن وجهها بغضب .. فكان لتورد وجنتيها تأثيرا مزعجا على صلاح الذي لم يعتد على الإطلاق هذا الإحساس بالارتباك والفوضى بسبب امرأة .. قالت بغيظ :- آسفة لأنني لا أرقى لمستوى النساء اللاتي ترافقهن عادة .. وهذا يناسبني إذ أنني لا أطمح إلى نيل إعجابك
لوى فمه ساخرا وهو يقول :- حقا ؟؟ سامحيني لعدم تصديقي لك .. فالتجربة علمتني بأن النساء يسعون تلقائيا للإيقاع بأي ذكر يحمل في جيبه محفظة ممتلئة
عبست وهي تنظر إلى وجهه الساخر .. وقالت :- هذه وجهة نظر ظالمة للغاية في حق النساء .. فليست كلهن تسعين وراء المال .. لا تقل لي بأنك في حياتك الحافلة لم تقابل امرأة رفضتك رغم مالك الوفير
كسا البرود عينيه .. وتصلبت ملامحه .. لقد كان غاضبا للغاية .. مما جعلها تحس بالخوف من جرأتها .. توقعت أن يقول شيئا فظا ردا على وقاحتها .. إلا أنه قال ببرود :- من الأفضل أن نتناول عشاءنا بسرعة حتى نغادر
تناولت قائمة الطعام ناسية خوفها وقد أحنقتها عجلته للخلاص منها .. هي أكثر منه شوقا للابتعاد عنه .. من الأفضل أن تأكل شيئا .. أي شيء كي تريح ضميره وتبعده عنها
لم يتوقف هاتفه عن الرنين لحظة .. وهو كان يتحدث هاتفيا حتى أثناء إملاءهما لطلبهما على النادل الشاب .. كانت تستمع له بشيء من الانبهار وهي ترمقه بطرف عينها متظاهرة بعدم المبالاة به .. إلا أنها كاذبة بادعائها أن شخصا مثله غير قادر على لفت نظر أشد النساء بأسا وقوة .. الأمر كان يفوق وسامته بكثير .. لقد كان في جاذبيته وقوة شخصيته .. وحتى في قسوته .. شيء مغناطيسي يجذبها كما تجذب الذبابة شباك العنكبوت .. .. نعم .. إنها جاذبية استعبادية .. تلك التي يتمتع بها .. جاذبية تستمتع المرأة بالخضوع لها .. أيقظها من شرودها الخطر رنين هاتفها الصاخب .. أخرجته من حقيبتها فنالت نظرة غاضبة من صلاح وكأنها قد عكرت عليه محادثته المهمة بضجيج هاتفها .. عبست في وجهه .. وحملت هاتفها وابتعدت عن الطاولة وقد عرفت هوية المتصل .. رفعته إلى أذنها لتسمع صوت عادل الساخط يقول :- أين أنت ؟
قالت بتوتر :- أنا آسفة .. لم أتذكر الموعد حتى الآن
:- هل تسمين التزامك بأخذ أمك إلى المستشفى موعدا ؟؟؟ .. لقد اضطررت للتغيب عن عملي بعد أيام من استلامي له وأخذها بنفسي بسببك
قالت بعصبية :- أخبرتك بأنني آسفة .. حصل أمر طارئ أخرني ..
هتف بها غاضبا :- وما هو الأهم من والدتنا ؟
أخذت نفسا عميقا وهي تقول :- عادل .. أرجوك لا تغضب .. أعرف كم تكره العودة إلى ذلك المكان وقد جاهدت للخروج منه .. كنت أنوي حقا العودة إلى البيت في الموعد .. إلا أنني أصبت بدوخة بسيطة .. فأجبرتني زميلاتي على مرافقتهن لتناول شيء .. فنسيت الأمر تماما
لا يعتبر ما قالته كذبا .. صحيح ؟ .. فهي داخت بالفعل .. والسيد صلاح يعمل معها في نفس المكان ..أي أنه زميلها فعليا .. إن تغاضينا عن حقيقة دفعه لراتبها في نهاية كل شهر
صاح بغضب :- لقد نسيت تناول الطعام مجددا .. صحيح ؟
أغمضت عينيها .. وقالت بتلك الطريقة البائسة :- أنا آسفة ..
سمعته يتنهد .. كالعادة .. لا يستطيع عادل الاحتفاظ بغضبه منها طويلا .. قال بتوتر :- هل أنت بخير الآن؟
:- نعم .. أفضل بكثير .. سأتجه إلى المستشفى على الفور
:- لا داعي لهذا .. عودي إلى البيت .. وخذي قسطا من الراحة ..
قالت برقة :- ألست أفضل أخ في الدنيا ؟
قال بجفاف :- بلى .. وأندم كل يوم على هذا
ابتسمت قائلة :- لا تفرغ غضبك علي يا حبيب القلب .. أنت من تسبب بغياب منى وإضرابها عن مساعدتها الفعالة لنا .. وعليك تحمل نتائج أفعالك المتهورة .. وتعلم كيفية ضبطك للسانك في المرة المقبلة
صمت للحظات أحست به خلالها على الجانب الآخر يتميز غضبا .. فقد كانت علاقتها الوثيقة بمنى تزعجه منذ الطفولة .. جزء منها كان غيرة .. هل هي غيرة عليها أم على منى .. لم تكن تجد فرقا ..
قال ببرود :- حسنا .. لن أكون مضطرا لهذا بعد الآن .. فصديقتك المتبجحة خرجت من حياتنا أخيرا إلى الأبد هذه المرة
أحست بالكآبة خلف صوته الجاف .. وشعرت بغصة عندما تذكرت عصبيته ونزقه في الأيام السابقة .. والطريقة التي كان يجلس فيها في الشرفة لساعات بعد منتصف الليل شاردا في السماء الحالكة السواد .. في الأوراق التي يكتب فيها تلك الخواطر المظلمة .. مفرغا من خلالها إحباطه
لماذا يدمر نفسه بيديه ؟ .. لماذا ينكر على نفسه أبسط أشكال السعادة واهما بأنه لا يستحقها ؟ .. قالت بهدوء :- اسمعني جيدا يا عادل .. قبل أن تريح نفسك من عبء تجوالها حولك وعلى مرأى منك .. فكر بأمنا .. بحاجتها في هذا الوقت إلى منى .. أنت لست أنانيا لدرجة حرمان أمي .. أو حرماني أنا من أعز صديقاتي فقط لأنك تكرهها
قال بانزعاج :- أنا لا أكرهها
:- إذن .. ستثبت هذا لي ولها .. وتذهب إليها معتذرا وطالبا منها الصفح ..
قال بتمرد :- نعم .. هذا ما تتمناه ابنة الحسب والنسب
تنهدت قائلة بتعب :- لا وقت لدي الآن لمجادلتك يا عادل .. أحبك .. إلا أنني أكره عنادك
أنهت المكالمة .. واستدارت لتجد صلاح واقفا خلفها .. وجهه جامد وقد علاه تعبير غامض .. كانت قد ابتعدت أثناء تحدثها إلى عادل حتى وقفت إلى جانب الباب المخصص للموظفين .. لم تدرك بأنها قد أخذت وقتها في الكلام حتى وجدت صلاح قادم في إثرها .. قالت بارتباك :- آسفة .. لقد كان اتصالا مهما
قال ساخرا :- من حبيب القلب
حدقت به مصدومة قبل أن تتذكر آخر ما قالته لعادل قبل إنهاء المكالمة .. فابتسمت باضطراب قائلة :- إنه أخي .. لقد كان غاضبا لتأخري وأراد الاطمئنان علي
ضيق عينيه متأملا وجهها الطفولي الذي بدا له كوجه تلميذ يواجه أستاذه الصارم .. أدهشه انزعاجه من إثارته لخوف الفتاة .. أشار لها للعودة إلى الطاولة حيث كان الطعام الساخن في انتظارهما .. أحست بنفسها جائعة جدا وقد كادت تنسى آخر مرة دللت فيها نفسها بالأكل خارجا .. بدأت بالأكل بينما كان هو ينظر إليها صامتا .. يتأمل شهيتها الطيبة التي بدت غريبة عن فتاة فقدت الوعي لتوها بسبب إهمالها للأكل .. قال عابسا :- هل أنت متأكدة بأنك تأكلين جيدا في البيت ؟
رفعت رأسها .. واحمرت وجنتيها حرجا وهي تترك شوكتها .. قال بضيق :- آسف .. لم اقصد ألا أكون لبقا
أدهشها اعتذاره .. فابتسمت دون ان تعرف تأثير ابتسامتها الرقيقة على الرجل الصلب الجالس أمامها .. وقالت :- لا بأس .. شهيتي معدومة هذه الأيام .. ولكن هذا الطعام .. لذيذ جدا ولا يقاوم .. وأنا .. حسنا .. نادرا ما آكل خارج البيت .. للأسف لا أستطيع تحمل هذا النوع من الرفاهية
نظر إليها بفضول .. مستغربا إشارتها إلى تواضع حالها بلا حرج .. متذكرا عادة النساء اللاتي يرافقهن عادة .. واللاتي كن دائما يحاولن الإيحاء إليه بالرقي والتكلف
قال بفضول مفاجئ :- ألا يكفيك راتبك ؟
أحست فجأة بأنها لم تفكر قبل أن تنطق بكلامها .. قالت بحرج :- إنه .. راتبي جيد .. أنا فقط أمر بظروف سيئة مؤخرا
أومأ برأسه قائلا :- منذ العام الماضي
قالت مجفلة :- كيف عرفت ؟
قال بهدوء :- لقد سبق وأشرت بأنك قبلت العمل لحسابي ضد هشام عطار مضطرة
اختفت شهيتها فجأة .. وتراجعت في جلستها .. وهي تحدق حولها وكأنها تخشى أن يستمع الرواد الآخرين إلى عارها .. تمتمت بعصبية :- هذا صحيح
:- هل يعرف شقيقك ؟
ردت باستنكار :- ماذا ؟
:- شقيقك .. الذي كنت تحدثينه .. هل يعرف بما تفعلينه لجني المزيد من المال ؟
رمت شوكتها بدوي قوي هذه المرة وهي تقول بحدة :- ليس من حقك طرح أسئلة كهذه علي .. إنها أمور شخصية تلك التي تستفسر عنها
هز رأسه متابعا وكأن هجومها لم يحدث :- هو لا يعرف .. صحيح ؟
فقدت أعصابها وهتفت به بصوت مخنوق :- ما الذي تريد مني قوله ؟ .. لا .. لم يكن يعرف .. ولم يعرف هذه المرة أيضا ما أفعله .. وإلا لمات كمدا .. وأنا .. أنا ما كنت لأخون ثقته في أخلاقي لولا ...
ذعرت عندما وجدت الدموع تتدفق من عينيها .. نظرت إليه .. والتقت عيناها بعينيه الجامدتين .. فتناولت حقيبتها قائلة بصوت أجش :- أنا .. يجب أن أذهب
نهضت واقفة .. واندفعت خارجة .. فوقف بدوره راميا مبلغا من المال .. ولحق بها إلى خارج المطعم .. حيث وجدها تقف على الرصيف .. تحاول مسح دموعها بأصابعها المرتعشة .. سمعت صوته يقول :- لقد نسيت هذه
استدارت لتجده خلفها .. ممسكا بسترتها البيضاء .. فأخذتها دون أن تقول شيئا .. قال بهدوء :- دعيني أوصلك إلى بيتك
هزت رأسها قائلة :- لا .. سآخذ سيارة أجرة
قال بحزم :- لن تذهبي وحدك بهذه الحالة
تراجعت إلى الخلف وهي تضحك ساخرة قبل أن تقول بامتعاض :- بالله عليك .. وكأنك تهتم حقا بأمري وإن أصابني مكروه .. أعرف بأنني بالنسبة إليك استثمار جيد حتى تنتفي حاجتك إلي .. آنت لا تهتم بي .. ولا تهتم إن كنت أموت يوميا ألف مرة لأنفذ لك طلباتك .. إن كنت أتمنى لو أستطيع أن ارمي وظيفتك في وجهك وأخبرك إلى أي حد أكرهك وأكره العمل لديك .. لولا ظروفي السيئة .. لولا مرض أمي ومصاريفه الكبيرة .. وعجز أخي عن تقديم أي مساعدة تذكرة .. لولا حقيقة أنني أعيش حياتي دون أن أعيشها حقا في سبيل من أحب .. إلا أنك لا تبالي .. كل ما يهمك هو الحصول على ما تريد بغض النظر عما يصيب الآخرين .. أنت الشخص الثري المغرور الذي يمتلك كل شيء .. ما الذي تعرفه أنت عن تعاسة الآخرين ؟ .. ما الذي تعرفه عن الحب والتضحية يا من لم يعاني يوما في حياته إلا من مأساة اختيار ربطة عنق لبذلته الباهظة الثمن
عنف كلماتها.. غضبها وانفعالها .. كراهيتها الواضحة .. بريق عينيها الواسعتين .. كانت صدى لكلمات أخرى .. لصوت آخر ووجه آخر .. لزمن آخر بالكاد كان يعيش خارجه .. لم تلحظ شحوب وجهه .. لم تلحظ النظرة التعسة التي أطلت من عينيه الجميلتين .. كل ما أرادته هو الابتعاد .. والابتعاد عنه .. بالكاد كانت قد تحركت عندما قال من ورائها بصوت أبح :- هل تظنين بأنك الوحيدة التي تعانين يا آنسة ؟
استدارت إليه متوترة .. رأت في عينيه شيئا صدمها .. وكأن نارا قد لطخت لون عينيه بمسحة من العذاب الأخضر اللون .. هز رأسه قائلا بصوت أجش :- هل تظنين بأنك أنت فقط من يتعذب كل يوم ألف مرة متمنيا لو أن الموت يداهمه فقط كي يتمكن من التوقف عن التفكير والتفكير .. والعيش بلا هدف او معنى .. من يكاد ينسى معنى أن يعيش الإنسان حياته لأجل نفسه فقط ؟
جمدت مكانها .. تحدق به مذهولة .. ترى بعينيها القناع ينهار من فوق الوجه الوسيم الكامل .. ترى الجمود والبرود .. يسقطان أرضا عند قدميها .. ليظهر لها الإنسان الحقيقي .. الذي كانت تظنه بلا وجود داخل هذا الرجل
أطلق ضحكة مريرة وهو يمسك بأطراف بذلته الثمينة ويشير لها قائلا :- هل تظنين بأن كل هذا قد يمنح أي إنسان السعادة التي يرغبها .. قد يمنع سكينا من الألم والفراغ باقتحام قلبه يوما بعد يوم .. يقتله ببطء شديد فيتمنى للحظة .. للحظة واحدة .. لو أنه يبيع الدنيا وما فيها .. لأجل لحظة سلام واحدة
ساد صمت ثقيل بينهما .. تخلله صوت المعلق ا لرياضي القادم من الشاشة العملاقة على بعد أمتار .. وهتافات الشبان الصاخبة .. وضجيج السيارات .. إلا أن أحدهما لم يكن يستمع إلا إلى الصمت البليغ بينهما
هي كانت ذاهلة .. مصدومة .. مبهورة بالإنسان الغريب الذي اكتشفت أنها قد تناولت الطعام برفقته .. بالنار المتقدة في عينيه .. بالغضب اليائس .. بالمرارة .. والحرمان .. لسبب ما أطلت أمامها صورة عادل .. وتعاسته الشديدة .. هل ينفي ثراء هذا الرجل احتمال احتواء قلبه الذي ظنته باردا .. على ألم مماثل ؟
تمتمت فجأة :- لا ... لا أظن هذا ..
انتبه فجأة إلى ما فعله لتوه .. لقد فتح بابا أغلقه منذ فترة طويلة .. وسمح للوحش الكامن داخله والذي سجنه بين جدران مدنيته بالإطلال برأسه خارجا .. تراجع بغضب .. وقد استعاد سيطرته على نفسه .. رأت بأم عينها التغير الذي طرأ عليه .. اللمحة الإنسانية كانت تنسحب ببطء ليعود البرود عنوانا لهذا الرجل الذي بدأ يثير فضولها أكثر وأكثر .. ويجذبها إليه كما تجذب النار الفراشة ..
أغمضت عينيها بإرهاق .. وأمسكت جبينها .. فقال بغضب :- أ ما زلت متمسكة بعنادك ؟ .. أم أنك ستسمحين لي بإيصالك قبل أن تنهاري داخل سيارة أجرة يقودها رجل غريب لا تعرفين نواياه ؟
هزت رأسها متظاهرة بالاستسلام والخنوع .. عرفت بأنه نادم على إظهار لمحة الضعف المفاجئة هذه .. وعرفت بأنه سيقصيها عنه على الفور .. ويرسلها إلى بيتها بمفردها فمنحته مخرجا من أزمته لا تمس بكرامته .. كما كانت تفعل لسنوات مع عادل .. أشار برأسه نحو سيارته قائلا بجفاف :- تقدميني
سارت مطأطئة الرأس .. تفكر بقلق في ردة فعلها وتوريطها لنفسها بشيء لن يعود عليها إلا بالسوء .. فقد عرفت بغريزتها بأن الاقتراب من هذا الرجل .. لن يكون خيرا في حق أي امرأة .. لقد خلق صلاح النجار ليسحق من حوله في سبيل تحقيق أهدافه .. وقد لمست بنفسها مدى قسوته مرارا
التزما الصمت طوال الطريق .. صمت مشحون بالتوتر والغضب .. بالحيرة .. والانزعاج من شيء غير مفهوم بدأ ينسج خيوطه بينهما ..أوقف السيارة عند مدخل الحارة المتواضعة .. ألقى نظرة طويلة على المكان القديم المتهالك .. والشوارع المتسخة .. قال :- هل تقيمين هنا ؟
ميزت لهجة الامتعاض في صوته .. فردت بشيء من العنف الدفاعي :- نعم .. هل كنت تتصور أن احتقارك لي قد يزيد يوما ؟
نظر إليها .. والتقت عيناهما .. العنف والتحدي .. انسحبا من روحها .. أحست بأنها أمام وجهه غير المبتسم .. بتعبير لم يكن واضحا .. لا .. لم يكن غضبا أو حتى استكبار كالعادة .. كان شيئا آخر .. شيئا جعلها تحس بالضعف .. بالضعف الشديد .. وبالحاجة .. بالحاجة إلى ماذا بالضبط
قال بهدوء :- سأتصل بك لأحدد موعد لقاءنا القادم ..
أومأت برأسها .. وفتحت باب السيارة بيد مرتعشة .. ترجلت .. وسارت مسرعة تكاد تهرول مبتعدة عنه .. وجزئا منها يحثها على الهرب منه .. ويخبرها بأنها قريبا من هذا الرجل .. لن يكون الأمان رفيقها .

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن