الفصل التاسع عشر
بداية ... أم نهاية
المحتوى الان غير مخفي
كان إحساس لندا غريبا .. كمن تعيش حلما مستحيلا .. لا تعرف إن كان جميلا أم خرافيا أم مخيفا ..
هي .. لندا سليمان .. الفتاة البسيطة التي لم تفكر يوما بالزواج .. تتزوج برجل لم تتخيل أبدا أنها ستعرف مثله .. استرقت النظر إليه وهو جالس إلى جوارها .. يتلقى التهاني من معارفه الأثرياء .. بينما تومئ هي متلقية التحية بابتسامة متوترة .. فاهمة تماما الرسائل الصامتة التي كانت تصلها من أعين المهنئين .. ما الذي تفعله فتاة مثلك .. مع رجل مثله .. ؟
كان يبدو شديد الوسامة والجاذبية بالحلة الرسمية السوداء الأنيقة .. شديد الثقة بالنفس .. سعيدا وراضيا كمن كسب جائزة كبرى .. هذا الرجل الوسيم .. بملامحه الأنيقة .. وعينيه الرائعتين .. وأناقة جسده الفطرية .. هو لها من الآن فصاعدا .. وهي .. ستكون له ..
احمر وجهها وهي تخفض رأسها مبعدة نظراتها عنه .. وأخذت لا شعوريا تعبث بباقة الورد التي فاجأها بها عندما جاء في بداية المساء لأخذها إلى الصالة .. ثلاثة أسابيع مرت فقط منذ موافقة عادل على زواجها من صلاح .. ثلاثة أسابيع مرت كلمح البصر .. كانت خلالها أشبه بالغائبة عن العالم .. وكأنها تنظر من بعيد إلى ما يحدث .. كغريبة لا علاقة لها في الأمر .. حضر صلاح بعد يومين .. وقابل والدتها التي وقعت على الفور تحت تأثير سحره .. فصلاح – و يا للمفاجأة – قادر على أن يكون فاتنا عندما يريد .. قبل يد والدتها .. وناداها بأماه .. أثنى على تربيتها الصالحة لابنتها الرائعة .. ووعدها بأنه سيكون لها خير زوج وراعي من الآن فصاعدا .. فما كان من أمها إلا أن انهارت باكية بسعادة وهي تضمه إليها وكأنها قد احتضنته كأحد أبناءها .. هي وحدها من لاحظ احمرار وجهه عندما ضمته والدتها .. النظرة الجامدة التي أطلت من عينيه .. وهو يرفع يديه بعجز غير عارف إن كان عليه أن يضمها بدوره أم أن يبعدها عنه
لحسن الحظ .. تركته أمها من تلقاء نفسها قبل أن يتصرف بفظاظة .. لندا تذكرت بأنه يتيم الأب والأم .. وأنه عاش في كنف عمه الصارم .. وتساءلت لحظتها إن كان قد عرف يوما طعم الحب والحنان .. التقت نظراتهما في تلك اللحظة .. فزال ارتباكه على الفور .. وقست ملامحه وكأنه قد لمح العطف المختبئ في عينيها .. لن يكون مسرورا لو عرف بالحنان الذي تشعر به اتجاهه .. السؤال المهم .. هل سيكون كذلك إن عرف بحبها المجنون له وقد سبق وأكدت له بأنها لن تقع يوما في الحب ؟
اتفق هو وعادل الواجم والمنطوي على نفسه على كل شيء .. كان حاسما وهو يقرر موعد الزفاف بعد أسابيع ثلاثة .. متعللا بأنه جاهز وقادر على إعداد أفضل زفاف لعروسه خلال هذه الفترة .. وأنه لا يطيق صبرا على الحصول عليها كزوجة له .. في بيته وله وحده
كان يقولها وهو ينظر إليها بدفء مماثل لذلك الذي غمرها به عندما أخذها خارج المدينة .. عندما طبع على شفتيها شبه قبلة أذابت قلبها
بعد ثلاثة أسابيع من اللقاءات الخاطفة معه بسبب انشغال كل منهما .. هو في أعماله الكثيرة التي لا تنتهي .. وسفره المفاجئ في رحلة عمل استغرقت ما يزيد عن أسبوع عاد منها بفستان الزفاف الرائع الذي اختاره بنفسه لها .. وهي بجولاتها في السوق بمساعدة منى .. لشراء جهاز مناسب وقد أصر هو على دفع تكاليفه متجاهلا اعتراض عادل الساخط ..
ها هي الآن .. تقف إلى جانبه .. أمام المئات من نخبة المجتمع الراقي .. تزف إليه في فستان رائع عاري الكتفين .. زينت صدره زهيرات صغيرة من الياسمين .. وفوق رأسها الذي كلله شعرها الكثيف مرفوعا كتاج أنيق .. استقر طوق من أزهار الياسمين الصناعية واللؤلؤ .. جعلها تبدو كالأميرة الخرافية التي حلمت يوما أنها ستكونها ليلة زفافها .. عندما كانت ما تزال طفلة صغيرة تحلم بمستقبل جميل .. إلا أن شعورها في هذه اللحظة .. كان بعيدا تماما عن الطفولة والبراءة مما فاجأها بشدة .. فهي أبدا لم تجد الفرصة للتفكر في خفايا علاقة الرجل بالمرأة .. بل هي لم تتعمق في التفكير بصلاح كرجل حتى قبلها ذلك الصباح .. وهواء حزيران يلاعب شعرها الذي حررته أنامله ..
منذ تلك اللحظة وهي تفكر به .. تتخيل لمساته وقبلاته .. ترتجف شوقا وخوفا فوق سريرها عندما يباغت أحلامها بجرأة .. فتستيقظ لاهثة .. وتنزلق بهدوء دون أن توقظ أمها لتتوسد الأرض الباردة علها تطفئ حرارة مشاعرها .. تتكوم فوق البلاط القديم .. وتذرف الدموع وهي تتساءل عما جعلها تقع في حبه بهذه القوة .. صلاح النجار .. لم يكن بالضبط ذلك الرجل الرائع .. هو قاسي .. وبارد في كثير من الأحيان .. بعيد كأنه يغلف نفسه بقشرة تحميه من الآخرين .. وكأنه يخشى أن يهتم أحد لأمره .. أو أن يهتم هو لأمر أحد ..
إلا أنها ترى في عينيه شيئا يسحرها .. شيئا من الرجولة الجريحة .. شيئا كالحاجة إليها .. إلى حبها وحنانها مهما حاول إنكار هذه الحاجة .. ترى تلك العاطفة النارية التي تشتعل بينهما رغما عنهما منذ التقيا أول مرة .. والتي تفجرت فور نظر إليها في ليلة مقمرة .. غاويا إياها بصوته العميق وكلماته الجريئة .. وقاحته .. جرأته .. ثقته بنفسه .. وحتى غروره .. تغلغلا في نفسها كالمرض .. فلم تعد قادرة حتى على التنفس دون أن تهمس باسمه ..
الليلة .. هي ستكون له .. ستعرف معنى الحب الحقيقي الذي حكى عنه الشعراء .. الحب الذي أضاع نساءا ورجالا وأفقدهم عقولهم .. أنساهم ماضيهم .. وألهاهم عن مستقبلهم .. بقدر ما كانت خائفة .. فهي متلهفة لمنحه .. وللأخذ منه .. وجزء منها يخبرها بأنه سيجزل لها العطاء .. لمساته .. نظراته .. خبرته التي أكدتها سمعته .. ماضيه الذي تأبى بصرامة التفكير به .. إلا أنها تعرف بتواضع فتاة لم تتوقع الكثير من الحياة .. أنه مهما منحها .. فهو سيحتفظ دائما بجزء من نفسه .. لنفسه فقط
أحس بنظراتها .. فالتفت إليها .. والتقت أعينهما .. فأجفله الوضوح البريء المتجلي في عينيها الذهبيتين .. الحقيقة جعلت قلبه يخفق بقوة بين أضلعه .. وشيئا رقيقا يتغلغل في أعماقه وهو يفكر بان هذه الفتاة .. والتي أصبحت زوجته منذ ساعات .. تضع روحها الصافية في عينيها .. وأنه قادر على قراءة مشاعرها فيهما كما يقرأ كتاب مفتوح .. هذه الطفلة البريئة والقلقة .. هي له .. كلها له .. وإلى الأبد
تلاقت أصابعهما .. وابتسم لها مطمئنا .. وسألها :- سعيدة ؟
ارتجفت شفتاها .. وكأنها تجد صعوبة في الابتسام .. همست أخيرا :- خائفة
قرب رأسه منها .. وقال بلطف :- لن يستمر خوفك طويلا
ابتعد عنها عندما اقتربت جودي لتهنئهما بسعادة .. وتمام المبتسم ينتظر دوره إلى جانبها .. ضمت صلاح بقوة جعلت لندا تتحرك بدون ارتياح .. ثم نظرت إليه دامعة العينين وهي تقول :- أنا سعيدة جدا لأجلك يا صلاح .. أتمنى أن تكون هذه بداية حياة مليئة بالسعادة ..
نظر إلى لندا قائلا بدفء :- أنا متأكد بأنها ستكون كذلك
نقلت جودي نظرها بين ابن عمها والعروس المحمرة الوجنتين .. ثم ضحكت قائلة بمكر :- ما الذي فعلته بابن عمي يا لندا .. يكاد يأكلك بعينيه .. وكأنه لم يسبق له أن رأى امرأة .
قال صلاح محذرا :- ابن عمك لن يتورع عن جذب شعرك كما كان يفعل في الماضي إن لم تتوقفي عن إحراج عروسي
قال تمام ضاحكا وهو يتقدم ليصافح صلاح :- لا فائدة ترجى منها .. لن تتخلصا من تعليقاتها الماكرة حتى تنجبا طفلكما الأول
قبلت جودي وجنتي لندا .. ونظرت بتمعن إلى وجهها الأسمر الناعم .. وعينيها الواسعتين المرتبكتين .. ثم قالت بصوت خفيض :- أسعديه .. أرجوك .. يستحق أن يحظى بحياة طبيعية وعائلة تحبه ..
أدركت لندا في تلك اللحظة بأن جودي الرائعة الجمال بالفستان الأبيض المطرز .. لم تكن تشكل أي خطر عليها كما ظنت .. جودي تحب صلاح كشقيق لها .. وتتمنى له حقا السعادة .. كما أن زوجها الشديد الجاذبية .. والرائع الشخصية .. مغرم بها بجنون كما هو واضح ..
هزت لندا رأسها وهي ترد عليها هامسة :- سأفعل إن سمح لي
أجفلت جودي وكأنها لم تتوقع أن تكون لندا فاهمة لتعقيداته إلى هذا الحد .. فاغرورقت عيناها بالدموع .. واقتربت تضم العروس الناعمة بين ذراعيها قائلة بتأثر :- أهلا بك في العائلة
ثم رفعت صوتها قائلة :- مرحب بك في بيتي كلما أغضبك ابن عمي العنيد وقررت معاقبته على أفعاله الشنيعة
كان رد صلاح أن جذب عروسه إليه حتى التصقت به .. وقال بقوة :- لندا لن تغادر بيتي إلا برفقتي .. فأعدي منذ الآن غرفة بسرير مزدوج إن فكرت يوما باستضافتها
احمر وجه لندا بشدة واضطربت وهي تحس بقرب صلاح الشديد .. وبقوة عضلاته تحت أناملها .. حتى أنها بالكاد استوعبت ما ردت به جودي ضاحكة قبل أن تبتعد مع زوجها .. إحساسها بتملكه وهو يضمها إليه غير عابئ بنظرات الحساد أخافها .. لم يتركها حتى اقترب مهنئ جديد ..
لأول مرة .. تبدأ لندا بالتفكير بما ورطت نفسها به .. لقد ألقت نفسها بالنار بعينين مفتوحتين .. صلاح .. ما أنت ؟ .. مما عجنت وبما تفكر ؟ .. وهل سأتمكن من فهمك يوما ؟
لا شعوريا .. بحثت عيناها عن والدتها .. التي كانت تتحدث مع منى في إحدى الموائد الأمامية .. لم تخفي أمها سرورها بزواجها ... فهي امرأة تقليدية .. تؤمن بأن الفتاة لن تجد الحماية ... ولن تسعد حتى تستقر في بيت زوجها .. ولندا .. أبت أن تفكر بمخاوف أمها الصامتة .. بأن ترحل باكرا قبل اطمئنانها على ابنتها الوحيدة .
لمحت عادل واقفا في الزاوية .. كان ينظر إليها واجما .. في عينيه تعاسة كبيرة .. لم يستطع التخلي عن مخاوفه .. وقناعته بأنه قد باع أخته الصغرى لرجل وإن كان ثريا .. فإنه لا يستحقها .. أرادت طمأنته .. إلا أنها وجدت نفسها هي بحاجة إلى أن تشعر بالطمأنينة .. فلم تستطع السيطرة على نظراتها المتوسلة إليه .. وكأنها تستجدي الدعم منه .. ( أرجوك يا عادل .. أكد لي ولو من بعيد بأن كل شيء سيكون بخير .. بأنني لم أقترف خطئا .. بأنني سأكون سعيدة )
التقط استنجادها فاعتدل في وقفته .. بدون تردد .. ارتكز على عصاه .. وسار نحوها .. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تراقب اقترابها منه .. بينما التفت صلاح نحوه بهدوء بعد أن ابتعد مهنئه ..
نظر عادل إلى صلاح بجفاف .. وكأنه يتحداه أن يبعده عن شقيقته إن استطاع .. ثم مد يده الحرة إليها لتسرع رامية نفسه بين أحضانه .. قال برقة :- مبارك يا عروس .. لطالما عرفت بأنك ستكونين الأجمل في ثوب الزفاف .. إلا أنني لم أتخيل أبدا أن أراك بهذه الروعة
همست بين دموعها :- أنت تقول هذا لأنك أخي
لامس وريقات الياسمين التي زينت رأسها .. وقال مداعبا :- ياسمين ..
ضحكت وقد تذكرت نكتتهما القديمة .. وقالت :- لقد اختاره لي صلاح .. أظنه قد كشف سري
قال صلاح مبتسما :- أهناك ما أجهله عنك ؟
قالت بدلال :- أنت لم تعرف شيئا عني بعد
نظر عادل إلى لندا .. ولاحظ تلك الكيمياء الطبيعية بينها وبين عريسها .. وفكر .. ( هل كنت مخطئا بعد كل شيء ؟ .. هل نضجت أختي الصغرى .. وصارت قادرة على اختيار الأفضل لها .. ورؤية الصواب من الخطأ دون الحاجة إلى رعايتي أنا ؟ )
نظر إلى صلاح .. دارسا ملامحه الوسيمة الفخورة .. ثم إلى شقيقته التي بدت في غاية الضعف إلى جانبه .. ثم قال بحنان :- لندا .. زهرة ياسمين بحد ذاتها .. بجمالها .. ورقتها .. وضعفها .. إلا أن قوتها تكمن بأثرها الذي يدوم أينما حلت .. كالزهرة .. حتى عندما تذبل .. فإنها تترك ورائها رائحتها العطرة ليذكرها الآخرون .. العبرة .. هي في الحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة .. نضرة .. ومنتعشة .. ومليئة بالحياة .. لتمنحنا أكثر من مجرد رائحة حلوة .. لتمنحنا الأمل .. الأمان .. السعادة .. والجمال .
داعب وجنتها .. ونظر إلى عينيها المتأثرتين .. ثم نظر إلى صلاح الذي بدا غير سعيد على الإطلاق .. وقال بهدوء :- أرجوك .. حافظ عليها .. وارعها كما يجب .. وهي ستكون زهرتك الندية التي تستطيع غرسها أينما أردت ..
تبادل الرجلان نظرة طويلة .. حملت التحدي .. والحزم .. والتحذير الواضح .. قال صلاح بجفاف :- تأكد بأنني سأفعل
قبل عادل لندا على وجنتها .. وتركها مبتعدا .. فراقبته متأثرة لحنانه المفاجئ بعد جفاءه معها طوال أيام الخطوبة وكأنه كان يعاقبها على اختيارها لصلاح .. ثم عاد ليدرك بأن الأمر قد خرج من يده .. وانه ما عاد بقادر إلا على أن يتمنى السعادة لشقيقته
نظرت إلى صلاح لتجد ملامحه جامدة وقاسية وهو يتابع شقيقها بدوره .. وكأنه قد غضب فجأة مما أربكها .. شعرت بالحيرة والانكماش كما في كل مرة تراه فيها غاضبا .. دون أن تعرف ما عليها فعله .. وكأنهما قد عادا غريبين كما كانا في البداية .. همست :- صلاح
نظر إليها بحدة .. وعندما رأى الخوف المرتسم في عينيها .. انسحب شيء من لون وجهه .. وأطلت نظرة عجز في العينين الفضيتين وهو يمسك بيدها ويشد عليها .. دون أن يعرف إن كان يطمئنها .. أم يطمئن نفسه