الفصل الرابع والثلاثون

3.7K 72 3
                                    




الفصل الرابع والثلاثون

حقيقة .. أم خيال



كان مرهقا .. مرهقا للغاية ..كل خلية في جسده تصرخ من التعب .. تنشد راحة بدت بعيدة جدا عن مناله .. منذ متى لم ينم ؟ أيام .. أسابيع .. أشهر .. ربما لسنوات لم ينم حقا ... وقد تاق كل جزء منه أخيرا إلى النوم .. النوم بعمق فلا يصحى أبدا ..
أوقف سيارته أمام منزله .. وأسند جبينه إلى المقود .. سكن للحظات طويلة قبل أن يجرؤ على رفع رأسه .. والنظر إلى المبنى الساكن ... المظلم تماما .. الذي بدا مهجورا كما توقع أن يكون .. لم يرغب في الدخول ومواجهة الواقع .. تمنى لو يستطيع الهرب إلى منزل جودي وتمام .. أن يستنجد بصحبتهما من أفكاره ... إلا أن التفكير بتمجيدهما اللا منتهي لبطولته المزعومة .. أشعرته بالنفور ..
ترجل من السيارة أخيرا .. وفتح البوابة .. عبر الحديقة بين أشجارها التي تساقطت أوراقها .. وإحساسه بالقلق يزداد شيئا فشيئا .. لقد كان يعرف ما ينتظره داخل المكان .. عرف قبل أن تطأ قدماه أرض الوطن .. إلا أنه وعلى بعد خطوات من الباب الخشبي الداكن المغلق .. لم يستطع منع نفسه من الأمل في أن تكون توقعاته مخطئة
فتح الباب بيد غير ثابتة .. ودخل .. أول ما أحس به هو الظلام الدامس ... ظلام لم يخترقه نور منذ فترة طويلة .. ثم رائحة الغبار .. أحس بغصة تعترض حلقه وهو يغلق الباب وراءه .. ما الذي كنت تأمله .. أن تراها في انتظارك .. فاتحة ذراعيها بشوق .. وفي عينيها الذهبيتين بريق حب لا ينضب .. تخيلها عبر الظلام .. ترتدي فستانا ابيض .. كما يحبها بالضبط .. شعرها الداكن الكثيف منسدل حول وجهها .. يغطي جانبي صدرها بدلال .. حافية القدمين .. ببساطتها التي يعشقها .. تفوح منها رائحة الياسين لتغلف حواسه بطبقة رقيقة .. مألوفة للغاية من الطمأنينة والسكون
أخذ نفسا عميقا وهو يهمس بحرقة :- لندا
فتح عينيه .. وتوتر جسده عندما التقطت أنفاسه تلك الرائحة الخفيفة .. بين الغبار والرطوبة ... تطايرت ذرات من رائحتها في الهواء .. كانت تتلاعب حوله .. تعبث بحواسه .. تناديه .. كعروس اللورلاي تنادي بحارها الوسيم كي يقذف بنفسه في البحر لأجل وهم حضورها
هتف بعدم ثقة :- لندا
بحثت أنامله عن مفتاح الضوء .. وأنار المكان كاملا بلهفة .. الصالة كانت فارغة .. كما تركها قبل أسابيع .. اختفت بعض التحف التي حطمها بنفسه ذات مرة في لحظة يأس عابرة حضرتها حبيبته في الخفاء .. مازال يذكر كيف وجدها نائمة على الأرض بعد أن أرهقه الغضب .. فصعد ليبدل ثيابه .. ويخرج باحثا عما يلهيه عن ألمه
وجدها على الأرض .. متقوقعة على نفسها .. ترتجف بردا .. وخوفا .. الدموع تغطي بشرتها الناعمة .. لقد أخافها .. كما يفعل كلما أظهر لها جزءا من حقيقته ..
حملها برقة تلك الليلة .. ووضعها على السرير مغطيا جسدها المرتعش جيدا .. مذهولا بالقدرة التي تمكنت بها من الاستمرار في حبه .. بعد كل اكتشاف لها عنه
نظر حوله باحثا عنها مكررا :- لندا
صعد إلى الطابق العلوي مختصرا الدرجات الكثيرة ببضع خطوات .. واقتحم غرفة النوم الفارغة .. لقد كانت حقا فارغة .. لا أثر فيها لحبيبته الصغيرة .. لا وجود لروبها الحريري ملقى على ذراع المقعد الخشبي المصقول .. بعض أغراضها الشخصية اختفت عن منضدة الزينة .. الرائحة الخفيفة كانت تتلاشى بفعل الزمن .. إلا أنها كانت موجودة .. وكأنها تخبره بأن حبيبته قد كانت هنا سابقا .. تمحي آثارها .. لتترك حياتك خالية .. باردة وجافة .. كما كانت قبل أن تعرفها
بإحساس متلبد .. رمى سترته أرضا .. وخلع ربطة عنقه .. وحل أزراره العليا وكأنه يصارع لأجل المزيد من الهواء .. خرج من الغرفة المزدحة بالذكريات المعذبة .. وسار في أنحاء المزل الكبير .. صامتا .. بدون أن يناديها من جديد .. لقد رحلت .. كما تعهدت له ذلك الصباح
(إن رحلت الآن .. فلن تجدني عند عودتك يا صلاح .. )
وهاهو الآن .. يتحمل نتيجة كبرياءه السخيف .. وعجزه عن إثبات حبه للمرأة الوحيدة التي أحبته بإخلاص .. دون أن يستحق حبها .. يبحث عن آثارها بيأس مراهق وحيد
قادته قدماه إلى غرفتها المفضلة .. الباب كان مواربا .. فتحه .. ودخل .. استنشق عبيرها الذي كان أكثر قوة .. ونظر إلى السجادة الوثيرة التي تنعمت يوما بملمس جسدها الطري نائما عليه .. تخيلها هناك ... رقيقة وضعيفة .. تستجديه الحب بنظراتهاالأنثوية .. ثم اشاح ببصره رافضا أن يعذب نفسه أكثر .. ثم رآه .. ذلك الطبق الفضي الصغير الذي اعتلى إحدى المنضدات الرخامية .. كانت ماءه قد جفت .. ووريقات أزهاره قد يبست مع مرور الزمن .. مد يده ليغترف الوريقات الصفراء بين أصابعه .. فانسحقت تحت ضغطها اللا إرادي .. وفاحت الرائحة أكثر قوة .. أكثر قسوة .. أكثر واقعية .. فوجد نفسه يضحك بمرارة .. يضحك ويضحك .. مدركا لما يبدو عليه أمام نفسه من جنون .. ثم قال بصوت مرير مخاطبا نفسه :- لقد رحلت يا صلاح .. رحلت بعد أن سحقتها بيديك كما سحقت لتوك بقايا أزهارها .. لقد ربحت الكثير .. ضميرك وكبرياءك .. قمت بواجبك الذي تعهدت القيام به .. لقد ربحت الكثير .. إلا أنك قد خسرت نفسك .. وما تكون أنت بدونها ؟ .. وما حياتك بلا حبيبة ما عادت أكثر من مجرد شبح عطر الرائحة .. سيذكرك دائما بأنها قد مرت يوما في حياتك ؟
المحتوى الان غير مخفي




مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن