الفصل الثامن والعشرين
هل هي النهاية ؟؟
شتم رشاد متذمرا وهو يحاول شق طريقه في قلب زحام المدينة .. محاولا ألا يصدم بعصبيته غير المألوفة إحدى السيارات التي تجاهد بدورها للوصول إلى مقصدها دون التسبب بكارثة ... دلك جبينه النابض بأصابع يده اليسرى محاولا تهدئة صداعه الشديد ... ربما ما كان عليه اختيار هذا الوقت من النهار للخروج في مهمة خارجية ليست حقا ضرورية .. هربا من الاصطدام بأعز أصدقائه .. الذي تجاهله بدوره لأيام مضت منذ انفجاره المتهور في مكتبه فاضحا مشاعر آية بدون تفكير سوي منه
ما الذي أصابه كي يهاجم صلاح ويلومه عى ذنب لم يرتكبه ؟ ... صلاح لم يشجع آية يوما .. لطالما عاملها كموظفة عادية .. ثم كصديقة منذ ارتباط رشاد بها ..
ليس ذنبه أنه جاذب بالفطرة للجنس اللطيف ..
في الواقع ... لطالما كان لصلاح تلك الحظوة لدى الفتيات منذ كان طالبا في الجامعة .. رشاد كان يتقبل تفضيل الزميلات لصديقه برحابة صدر .. وتذمر فكاهي ... لائما إياه على حرمانه من فرصة الإيقاع بفتاة جميلة لم يسبق لها الوقوع في حبه .. وصلاح ..كان دائما يأخذ الأمر ببساطة .. دون ان ينكر استغلاله المجحف للنساء .. أو أن يهتم ذرة بمدى صدق مشاعرهن لثقته بأنهن إنما كن يستغلينه بدورهن ... إما لجاذبيته أو لأمواله .. أو لاسم عائلته العريق..
الذنب يقع كاملا على آية ... هي من وقع في حبه وأوقع بينه وبين صلاح ... هي من وقع في غرام السلطة والمال لديه .. أليس كذلك ؟
أبى عقله أن يتذكر بأنها كانت تتأفف كلما قدم لها الهدايا وكأنها تقول له بأنه عاجز عن شرائها من خلالها .. وهو يعترف بأنه حاول كثيرا أن يذيب جليدها مستعملا ما تفضله كل نساء الارض ... المجوهرات .. التي كانت تتحاشى ارتدائها في معظم المناسبات إلا للضرورة ..
فما الذي جذبها إلى صلاح إذن إن لم تكن أمواله ... وكيف لها أن تحب رجلا بجنون وتعقيد صديقه الساخر و القاسي القلب والفؤاد .. كيف لها أن تنكر حبها له وقد لمسه بنفسه ليلة زفاف صلاح ؟
تذكر آخر لقاء بينهما ... طلبها المؤثر لسماحه .. قسمها بحبها له ... تجاوبها الغير متوقع مع قبلاته .. وفي النهاية .. رميها الخاتم في وجهه ...
انقبضت اصابعه حول عجلة القيادة بغضب ... لماذا يغضبه رحيلها وقد أراده بنفسه منذ عرف بخيانتها .... لقد أراد رحيلها .. صحيح ؟؟؟ عدم فسخه للخطوبة لا يعني شيئا .. لقد أراد أن يمنحها الأمل الكاذب حتى تأتي إليه فيعاقبها بطريقته على خداعها له ..وقد فعل بالتأكيد ذلك المساء ... لقد أهانها .. أذلها ... استمتع بتوسلها إليه .. ثم رحيلها ..
لماذا يشعر إذن كمن فقد شيئا ثمينا لا تعويض له ؟؟؟ لماذا ما يزال يحلم بها حتى اثناء يقظته .. يتذكر ملمسها .. رائحتها .. مذاقها .. أنينها بين ذراعيه فيتوق للمزيد .. هي لم تعد تعني له أي شيء .. أي شيء
ضرب المقود بقبضته شاتما بغضب .. وهو ينعطف بالسيارة إلى اليسار .. فكاد يصطدم برجل عجوز مار تحاشاه بصعوبة .. عندما وقع بصره على وجه المرأة الجالسة على المقعد الخلفي لسيارة اجرة مرت إلى جواره ..
خفق قلبه بشدة وهو يسرع لاحقا بسيارة الأجرة .. محاولا النظر جيدا إلى الفتاة التي جمعت شعرها الداكن فوق رأسها بطريقة مألوفة .. وقد انحنى رأسها وكأنها تطالع شيئا بين يديها غافلة عنه تماما .. لقد كانت هي ... لن يخطئ بها ولو كانت وسط مئة امرأة
لحق بها محتفظا بمسافة بينه وبين السيارة التي تقلها .. ثم تجاوزها عندما توقفت إلى جانب الطريق في إحدى المناطق التجارية المعروفة .. وتوقف بعيدا وهو يراقبها عبر المرآة وهي تترجل من السيارة ناقدة السائق أجرته ... ثم تصلح من حلتها الأنيقة ذات التنورة الضيقة والقصيرة ... غلا دمه في عروقه وهو يحدق بساقيها الطويلتين والرائعتي الجمال .. تظهران تحت قوامها البديع والمغري .. ووجد نفسه يغادر سيارته .. ويلحق بها عندما دخلت أحد المباني القديمة والمتهالكة .. صعد ورائها الدرج المهترئ .. ورآها دون أن يشعرها بوجوده تتجاوز بابا مفتوحا كتب على لوحة إلى جانبه ( المحامي وليد ماهر )
رغبة عنيفة اجتاحته باقتحام المكتب وجذبها من شعرها خارجا وسؤالها عما تفعله هنا .. إلا أنه وبنفس عميق سيطر على أعصابه .. وعاد أدراجه إلى خارج المبنى منتظرا إياها بنفاذ صبر ... عشر دقائق .. ربع ساعة .. وماذا بعد ؟
نظر إلى ساعة معصمه متململا ..قبل أن يراها أخيرا وقد خرجت من المبنى ...
لم تشعر به وهي تقف على الرصيف .. تحدق في الشارع بشرود .. وأشعة الشمس الساطعة تضفي بريقا على شعرها الناعم .. الشديد السواد ..
كانت تبدو في غاية الحزن .. وكأن حملا ثقيلا يجثم فوق ظهرها .. بقدر ما احس بصدره يضيق لأجلها.. بقدر ما كانت دماؤه تفور في عروقه غضبا وجنونا لفكرةقضاءها العشرين دقيقة السابقة في مكتب رجل عرف بسوء أخلاقه وانعدام نزاهته ..
استدارت دون ان تراه .. وسارت في الاتجاه المعاكس .. فشتم غاضبا وهو يلحق بها .. امسك بمرفقها من الخلف وجذبها نحوه بشيء من القسوة جعلها تنتفض مذعورة وهي تطلق صرخة أجفلته .. وجذبت نحوهما أنظار المارة .. نظر كل منهما إلى الآخر .. هي مبهورة الأنفاس.. مذهولة برؤيته غير المتوقعة .. وهو واجم الوجه .. يصارع بين احتضانها مطمئنا .. أو خنقها غضبا ...
لم يفك الارتباط بين أعينهما إلا تدخل أحد الشهود يقول متوترا :- هل يزعجك هذا السيد ؟
نظرت إلى الرجل حائرة وكأنها لا تفهم ما يقول .. ثم استعادت تركيزها وهي تقول باضطراب :- لا .. لا يزعجني .. إنه خـ... صديق قديم لي ..
انفض الناس من حولهما بعد أن اختفت دواعي التدخل الخارجي بين الزوج المتوتر .. هنا .. تمكنت آية من جذب ذراعها والاعتدال قائلة لرشاد :- ما الذي تفعله هنا ؟
قال هو بغلظة:- ما الذي تفعلينه أنت في مكتب ( وليد ماهر ) ؟
اضطربت للحظات .. قبل أن تقول بسخط :- هل تتعقبني ؟
قال بغضب :- لا .. لا أتعقبك .. ولماذا علي أن أفعل .. فقد سبق ورميت خاتمي في وجهي أتذكرين ؟
لون الجرح عينيها الزرقاوين .. ورسم البرود على ملامحها وهي تقول :- أذكر بالطبع .. وهذا ما يجعلني أتساءل عما يدفعك لإيقافي في منتصف الشارع ... وسؤالي عن أمر لا يعنيك بتاتا
قال من بين أسنانه :- يعنيني عندما أعرف مسبقا ما يكفي عن سوء أخلاق وليد ماهر .. خاصة فيما يتعلق بالنساء .. ما الذي كنت تفعلينه في مكتبه ؟
التقت أعينهما مجددا .. بتحدي من قبلها هذه المرة ..وعناد وتحذير من قبله هو .. أطبقت شفتيها بقوة في النهاية مدركة خسارتها للتحدي إذ انها لا ترغب مطلقا أن يفكر بها رشاد بالسوء مهما كان كرهه لها كبيرا بالفعل .. قالت أخيرا بتوتر :- كنت أتقدم لوظيفة .. يحتاج وليد ماهر إلى مديرة مكتب .. وقد أجريت المقابلة معه لتوي
قال بحزم :- أنت لن تعملي لدى ذلك الرجل
رمشت بعينيها بشكل مبالغ به .. وهي تنظر له بذهول ساخر :- عفوا .. ألم أسمعك قبل لحظات تذكر رميي الخاتم في وجهك أم أنني كنت أتوهم؟ ..
أمام احمرار وجه رشاد من الغيظ .. أكملت ببرود :- لا حق لك علي يا سيد رشاد .. يمكنني أن أعمل حيثما اشاء .. وأنت عاجز عن منعي أو الوقوف في وجهي
استدارت لتذهب رافعة رأسها بشموخ وكبرياء .. فقال من وراءها :- هل انتهى الحال بنا كأعداء يا آية ؟ ..
التفتت نحوه بتوتر .. فأكمل :- كنا خطيبين .. وتعرفين جيدا كم كنت أهتم لأمرك كما ادعيت في أكثر من مناسبة بأنك تحبينني .. هل علينا أن نكره بعضنا البعض إن لم يكن مقدرا لنا أن نكون معا ؟
تأففت وهي تقول بضيق:- ما الذي تريده يا رشاد ؟
أسرع يقول بدون تفكير :- أن نشرب معا فنجانا من القهوة .. كعربون لصداقة قد لا تتم .. ربما ماعاد يربطنا شيء .. إلا أنني مازلت أهتم لأمرك .. وأرغب بأن أعرف كيف حالك بعد كل هذا الوقت؟
نظرت إليه بريبة .. وكأنها تشك في نواياه .. بينما تساءل هو ذاهلا عن المكان الذي أتت منه هذه الدعوة .. معترفا بأنه رغم التوتر الواضح في علاقتهما .. فإنه يكاد يفقد أعصابه شوقا لها .. ولهفة لسماع صوتها .. وللإحساس بقربها من جديد .. عاجزا عن تركها تذهب وقد عرف بأنه إن فعل .. فإنه قد لا يراها مجددا
قالت بتوتر :- لدي موعد آخر خلال ساعة من الآن
أسرع يقول :- ساعة أكثر من كافية لنحتسي فنجانا من القهوة .. هناك مقهى قريب من هنا .. سنتحدث قليلا .. ثم أعدك بألا أزعجك مجددا
ترددت وهي تنظر إليه بارتياب .. وقد أدهشتها لهفته ... ودغدغت كبريائها .. فهو يعني أنه مازال يكن لها شيئا من مشاعره القديمة .. ورغم علمها بأنه لن يسامحها يوما .. وبأن علاقتهما قد انتهت لا محالة .. إلا أنها في شوق هي الأخرى لقضاء بعض الوقت الأخير برفقته .. على الأقل .. لتكسب يعض الذكريات عنه .. تستعيدها فيما بعد فقط لتذكر نفسها بانها قد عرفت يوما رجلا رائعا أحبها بصدق دون ان تستحق حبه قط
أومأت برأسها .. وهي تقول بفتور :- فنجانا واحدا من القهوة
ابتسم وهو يسير برفقتها وقد تذكر آيته المغرورة .. التي كانت تذيبه غيظا وشوقا بدلالها وتكبرها .. آيته التي لم يدرك حتى الآن إلى أي حد اشتاق إليها
جلسا حول إحدى الموائد المستديرة المزينة بوردة اصطناعية داخل إناء فخاري صغير .. وقد خلا المكان إلا منهما .. وزوج آخر جلس بعيدا عنهما وقد بدا عليه الانسجام العاطفي التام
مما ذكره بما افتقدته دائما علاقتهما .. لدهشته .. وجد انه لم يغضب هذه المرة .. بل أحس بالحزن .. وهو يشير إلى النادل طالبا منه فنجانين من القهوة الخالية من الإضافات كما اعتادا شربها .. ثم يركز اهتمامه عليها قائلا :- والآن .. لنبدأ من جديد .. كيف حالك يا آية ؟ مر زمن منذ التقينا آخر مرة
ارتبكت وقد تذكرت لقائهما الأخير .. وتوردت لذكرى لمسه الشغوف لها .. تمتمت باضطراب :- بـ .. بخير
نظرإليها مليا .. وكأنه قد تذكر بدوره ذلك المساء .. ثم تخيل رجلا آخر يلمسها بنفس الطريقة .. فقال بهدوء أخفى بمعجزة غضبه الشديد :- كيف جرت مقابلتك مع وليد ماهر ؟
لم تشأ إخباره بأنها لن تعود مجددا إلى ذلك المكان منذ لاحظت نظرات الرجل الأربعيني الجريئة لها بينما هو يسألها برقة مصطنعة عن مؤهلاتها .. قالت بلا اهتمام :- جيدا ... لدي عدة مقابلات عمل لأجريها قبل أن أتخذ القرار .. مؤهلاتي مطلوبة وقد عملت لفترة طويلة في مكان مرموق ومعروف ..
منع نفسه بصعوبة من تحذيرها مجددا من العمل لدى ذلك الرجل عارفا بأنها ستترك المكان على الفور وترحل عنه إلى الأبد .. فقال مغيرا الموضوع محافظا على السلام بينهما :- كيف حال عائلتك ؟
ارتسم السأم على ملامحها وهي تقول :- على حالها .. أمي مازالت تعاني من صداعها الأزلي .. أبي مشغول بين عمله .. ومتابعة آخر أخبار الرياضة .. بشار وجد عملا جديدا .. وبدأ البحث عن شقة خاصة به .. وقد اقترب موعد ولادة ريما .. أما شقيقتي ....
صمتت وهي تنظر إليه بنزق قائلة :- وهل حقا تهتم لمعرفة أخبار عائلتي ؟.. أنت لم تعد مضطرا لتحمل سخافاتهم مجددا
قال مستنكرا :- لطالما اهتممت بعائلتك يا آية .. لقد كنت على وشك أن أصبح أحد أفرادها إن كنت قد نسيت .. ما استغربته دائما هو سبب عدم اهتمامك أنت بهم
رمشت بعينيها مصدومة من ملاحظته .. نظرت إليه بارتباك محاولة إدراك ما يقصده وهي تقول :- أنا اهتم بعائلتي
:- لا .. لقد لقد كنت أشعر بامتعاضك منهم .. وابتعادك المستمر عنهم .. لطالما كرهت أن نقضي أي وقت إضافي معهم .. وكأنك .. لا أعرف .. لم أعرف قط سبب تباعدك وإبعادك الجميع عنك .. حتى أنا لم تسمحي لي يوما أن أصل إليك
شحب وجهها أمام كلماته الهجومية الحازمة .. كان الإصرار يطل من عينيه ليحذرها بأنه لن يسمح لها بالتلاعب مجددا .. وأن أي أسئلة له ستلقى الأجوبة منها شائت أم أبت .. إلا أنها لم تكن مستعدة أبدا للخضوع لتنمره وهي تقول من بين أسنانها :- حقا ؟ .. أجبني بصدق يا رشاد .. هل حاولت يوما أن تصل إلي حقا ؟ .. إن كنت تشعر منذ زمن بتباعدي .. فلم لم تحاول أن تقربني منك .. إن أحسست بنفوري من عائلتي .. فلم لم تسألني عن السبب ؟
قال بتوتر :- لقد بذلت جهدي للتفرب منك يا آية ... حاولت بأكل طريقة متاحة أن أصل إليك إلا أنك كنت تصدينني عنك دائما
قالت بلهجة لاذعة :- هذا صحيح .. لقد حاولت كثيرا أن تقربني منك .. إلا أني لم أعن يوما هذا النوع من القرب يا رشاد .. لا تدعي حبك وفهمك العميق لي في الوقت الذي اقتصر فيه اهتمامك بي على القشرة الخارجية مني .. كل ما كان يهمك هو ما يمنعني من مبادلتك الغزل .. والتجاوب مع قبلاتك المسروقة .. لم تسألني يوما عن أفكاري .. مخاوفي .. عما يبعدني فكريا عنك أو عن عائلتي .. أنت لم تعرفني يارشاد .. ولم تفعل يوما .. حتى عندما ظننت بأنني أفكر برجل آخر غيرك .. لم تفكر أبدا بأن تسألني عن سبب تفكيري به .. أو حتى عن طبيعة تفكيري به
قال بتوتر :- أنت أحببت صلاح ..
هزت رأسها بانفعال قائلة :- أترى .. أنت ترفض أن ترى أبعد من أنفك .. لقد قررت أولا بأنني باردة .. غريبة الأطوار .. بعيدة عن عائلتي .. خائنة .. دون أن تتعب نفسك حتى بسماع دفاعي عن نفسي .. وأنا لا أعرف ما الذي يبقيني هنا حتى الآن لأستمع إلى المزيد من أحكامك التعسفية حولي .. وقد انتهى ما بيننا منذ أسابيع إلى الأبد
وقفت كي تغادر الكان فأسرع يمسك بمعصمها هاتفا :- انتظري .. أرجوك .. لا ترحلي .. قد لا تتاح لنا فرصة كهذه مجددا للحديث ... ربما كنت مهملا كما تقولين .. إلا أنني أريد أن أفهمك .. حقا أريد أن أفهمك ..
قالت بحزن وهي تنظر إليه من علو :- وما الفائدة وقد فات الأوان ؟
هز رأسه قائلا :- ربما نحن ما عدنا خطيبين .. ولكنني لا أريد أن أقضي ما تبقى من عمري وأنا أتساءل عما أفسد علاقتنا .. لمرة واحدة فقط .. كوداع على الأقل .. دعينا نطرح أوراقنا على الطاولة ونكشف كل شيء ..
نظرت إليه غير مصدقة وهي تقول :- أنا لا أصدق ما تطلب مني القيام به هنا والآن..
قال متوسلا :- آية .. نحن نلفت الأنظار .. اجلسي أرجوك .. ودعينا نتحدث لمرة واحدة كما لن نفعل من قبل .. وأعدك بعد ذلك ان أتركك تذهبين وألا أزعجك مجددا
نظرت حولها ولاحظت جذبهما لانظار العاملين في المقهى .. وحتى الرواد القلائل له .. فجلست مترددة في الوقت الذي جاء فيه النادل بالقهوة وضعها أمامهما وهو يحدق فيهما بفضول .. ثم ابتعد لتقول آية بفتور :- لم يعد أمامي الكثير من الوقت على أي حال .. ما الذي تريد أن نتحدث عنه
:- أخبريني عن عائلتك
فاجأها بسؤاله إذ توقعت أن يسألها عن صلاح .. فارتبكت قائلة :- ماذا عن عائلتي ؟
سألها بحزم :- ما سبب حقدك عليهم وكرهك لهم ؟
قالت باستنكار :- أنا لا أكره عائلتي
كرر مغيرا صيغة السؤال:- ما الذي فعلته عائلتك لك وتعجزين عن غفرانه لهم ؟
لم يخطئ ملاحظة الرجفة التي اعترتها وهي تحمل فنجان القهوة لتحتسي شيئا من محتوياته الساخنة .. ثم تضعه على الطاولة محدقة في محتوياته بصمت جعلله يقول بإلحاح : -آية
هزت رأسها قائلة :- الأمر ليس مهما حقا ... لقد حصل منذ فترة طويلة ... ومن السخف أن أتذكره حتى الآن أو أغضب بشأنه
قال بإصرار :- ماذا حدث ؟.. أخبريني ..
ترددت وهي تنظر إلى عينيه الداكنتين المشجعتين ..ورات فيهما الدفء الذي لطالما غمرها أثناء خطوبتهما .. فوجدت نفسها تقول وهي تخفض عينيها :- الأمر .. أنا ... مم .. هل ذكر لك أحد أفراد عائلتي يوما أي شيء عن ابن عمتي مالك ؟
أومأ برأسه :- نعم .. لقد أخبرني والدك عندما تقدمت لخطبتك بأنه كان يتمنى لو زوجك به .. لو لم يتوف في حادث مؤسف قبل سنوات .
تمتمت :- هذا صحيح .. ابن عمتي مالك .. كان شابا مرحا وجميل المظهر ... جميع أفرد العائلة كانوا مغرمين به .. كان الكل مأخوذا بأخلاقه الرفيعة وطموحه الشديد .. كان نموذجا للابن المثالي .. والقريب المثالي .. وحتى الصهر المثالي
قال واجما وقد صدمته فكرة حب آية لرجل ميت :- ولكن ...
ابتسمت بشحوب وهي تقول له :- ولكن أحدا منهم لم يعرفه حقا .. مالك كان شخصا وضيعا خلف الستار المثالي الذي كان يخدع فيه افراد العائلة .. كان يقيم مع أسرته في نفس المبنى الذي تقيم فيه عائتي منذ سنوات .. كان متدينا .. يغض البصر عندما تمر امامه امرأة .. مثقفا منفتح الذهن ومتحضرا .. إلا في الحظات التي كنت أقابله فيها صدفة على الدرج أثناء انتقالي بين شقتي العائلة صعودا ونزولا ..
توتر جسد رشاد وهو يقول :- ما الذي كان يفعله ؟
نظرت إليه بحزن مس شغاف قلبه وهي تقول :- لا تقلق ... لم يفعل الكثير .. كان يكتفي بلمسي بجرأة بشكل بدا لي في البداية غير مقصود منه .. حتى تكرر الأمر .. وبات أكثر وضوحا وهو يرمقني بنظراته الوقحة دون أن يلاحظه أحد .. ذات يوم .. حاصرني على الدرج رغم تحاشيي المستمر لمصادفته في أي مكان .. و .. وحاول أن يقبلني
أطبق رشاد شفتيه بقوة بينما انقبضت أصابعه حول الفنجان الخزفي .. قال مسيطرا على نفسه :- ماذا حدث بعد ذلك
أخفضت عينيها وكأنها تشعر بالخزي .. وقالت :- صرخت عاليا .. وجمعت افراد العائلة بصراخي .. وعندما شكوته لهم .. لم يصدقني أحدهم
همس بلوعة :- يا إلهي ..
غمغمت :- لقد كان الأمر صعبا علي .. خاصة وأنا أتلقى اللوم من والدتي على افترائي على الفتى .. وأبي على فضحي له أمام الجيران دون سبب حقيقي .. الكل صدق مالك .. الشاب الصادق دائما .. الخلوق دائما عندما قال ببراءة بأنه حاول إزاحة حشرة كبيرة عن شعري فأسأت فهمه ..
حاول رشاد أن يمسك بيدها المرتعشة فوق الطاولة فسحبتها قائلة بفظاظة :- لا أحتاج إلى المواساة يا رشاد .. لقد مر وقت طويل جدا على ذلك الحادث .. ظلت عائلتي بعدها تعايرني به باستمرار .. ومالك ظل يتحرش بي متأكدا بأنني ما كنت لأشكوه مجددا .. حتى قتل في حادث اصطدام لسيارته أثناء قيادته لها ثملا ..
نظرت إليه قائلة بثبات :- لقد ظهرت الكثير من الحقائق حوله بعد وفاته .. وشك الكثيرون بأنني ربما ما كنت أكذب ذلك النهار .. إلا أن الأوان قد فات على هذا إذ أنني قد فقدت الثقة في أقرب الناس إلي .. وبت أجد الراحة في الانعزال بنفسي عن الآخرين .. وكأن جزءا مني قد مات ذلك اليوم .. كنت مجرد مراهقة صغيرة .. إلا أن أثر ذلك الحادث ظل يسيطر علي ويبعدني رغما عني عن الآخرين
فكر رشاد بألم بأنه قد أساء فهم تباعدها ونفورها من لمساته .. عرف ما عنته ذلك المساء عندما حاول إجبارها على التنازل والتخلي عن كبريائها لأجله .. لقد رأت فيه مالك .. بينما هو لم ير فيها إلا شيء يتلهف للحصول عليه .. دون أن يرى ما تخفيه داخلها من خوف ووحدة .. دون أن يرى ما تحملته فقط كي تثبت له حبها له
قالت بسخرية مريرة :- كما ترى ... أنت لم تكن السبب في ابتعادي عنك .. أنا هي الباردة والعاجزة عن تقديم ما تستحقه من عاطفة وثقة .. لطالما أحسست بأنني أظلمك معي إذ أنك تستحق الزواج من أخرى أكثر رقة وأنوثة مني .. امرأة تكون جميلة من الداخل .. كما هي جميلة من الخارج ...
تصلب فكه وهو يجاهد كي يمنع نفسه من إسكاتها .. عاجزا عن تحمل المزيد من الحقائق عن غفلته وعماه فيما يتعلق بالمرأة التي تبجح دائما بأنه يعرف كل شيء عنها .. ليكتشف بأنه لم يكن يعرف عنها أي شيء على الإطلاق
أسبلت عينيها قائلة بخفوت :- وأنا ... كنت جميلة المظهر .. أعرف بأنك أحببت كيف أبدو من الطريقة التي كنت تنظر فيها إلي .. الطريقة التي كانت تشعرني بالذنب لخداعي لك طوال فترة خطوبتنا .. بينما كنت من الداخل .. قبيحة .. ومشوهة .. ومليئة بالعقد .. مثله تماما
ارتبك وهو يقول :- هل .. هل تقصدين صلاح ؟
ارتعشت شفتاها وهي تقول :- منذ عملت لديه قبل سنوات .. تمكنت من رؤية روحه المشوهة .. المختبئة خلف المظهر الواثق الجميل .. هو أيضا مثلي .. عاجز عن تقديم أي عاطفة حقيقية لأي امرأة .. لأن أي امرأة عاجزة على أن تفهمه .. وتستوعب مخاوفه .. كما أفعل أنا .. نحن متشابهان .. خلقنا من طينة واحدة .. ولم أستطع منع نفسي من التفكير مرارا .. بأن أي ارتباط بيننا قد ينجح .. لأن أحدنا لن يكون مضطرا لتفسير اختلافه للآخر
ساد الصمت للحظات كانت تحدق خلالها بالطاولة شاردة .. وكأنها قد نسيت امر رشاد الذي ذكرها بوجوده قائلا ببرود :- ولكنه ارتبط باخرى
رفعت رأسها مجفلة .. وقالت بسرعة :- أنا لم اتمنى ابدا أن أتزوج بصلاح .. لا تسيء فهمي .. فكرت بالأمر .. إلا أنني لم أرغبه .. أنت من أردته منذ البداية .. عرفت بأنني أظلمك معي .. إلا أنني لم أقاوم الرغبة بأن أكون محبوبة .. ومرغوبة كما كنت أرى نفسي في عينيك .. نعم .. ما كنت أعرف بأنني أحبك حقا حتى خسرتك .. ولكنك انت فقط من اردت ان أكون زوجته ..
صدقها .. ولم يعرف السبب .. شيء ما في كاندفاع الكلمات من بين شفتيها .. النظرة اليائسة في عينيها .. صدقها إلا أنه سألها :- إلا أن زواجه بأخرى قد صدمك .. ليلة زفافه .. كنت تبكين .. وتتحسرين على خسارته
أشاحت بوجهها وقد زمت شفتيها بشيء من القسوة .. لمح دموعا أطلت من وراء الحاجز الشفاف لعينيها .. وهي تقول بجمود :- ألم تر نظرته إلى عروسه تلك الليلة يا رشاد ؟
قطب بحيرة .. و تذكر نظرة الشغف التي غمر صلاح بها عروسه ليلة زفافه عاجزا عن إبعاد عينيه عنها .. ارتعشت شفتاها وهي تقول :- لقد نجح .. نجح صلاح فيما فشلت فيه أنا .. لقد تجاوز كل مخاوفه .. حتى خذلان ابنة عمه له .. ووقع في غرام تلك الفتاة رأسا على عقب .. أعرف بأنه سيحيل حياتها إلى جحيم .. سيقتل روحها الرقيقة بقسوته الفطرية .. بماضيه الأسود .. بشبح حبه الأول الفاشل .. إلا أنه قد نجح في استعادة شيئ من آدميته .. وحصل على فرصة حقيقة لنيل شيء من السعادة .. ربما أفسدها لاحقا بسبب نزعته اللا إرادية لتدمير نفسه .. إلا أنه قد عرفها .. بينما لم أستطع أنا حتى بأن اشم رائحتها من بعيد
أحس بفؤاده ينزف ألما على الحزن الجارف الذي كانت آية تعاني منه لسنوات دون أن يشعر بها أحد .. تمنى لو يتمكن من احتضانها .. والتخفيف عنها .. من طمأنتها بأنه يحبها .. وسيحبها دائما مهما حصل .. إلا أن دموعها الغزيرة التي خانتها أوقفته بينما هي تقول بمرارة:- ذلك النهار .. في مكتبه .. قبل أن أرمي استقالتي في وجهه .. جرحته .. مزقت فؤاده بكلمات لم أتوقع يوما أن أنطقها .. رأيت نفسي فيه فلم أقاوم رغبتي العارمة في قتلها .. ليتك رأيت النظرة التي ارتسمت في عينيه .. يا إلهي كم أكره نفسي .. وكم أدرك قبحها وبشاعتها .. أنا لا أستحقك .. ولم أفعل يوما .. لقد جرحتك .. ومنعتك من الوقوف إلى جانب صديقك في محنته وهو في ....
قاطعها رشاد بقلق :- ما بال صلاح ؟
نظرت إليه بين دموعها قائلة :- ألم تعرف بأن والدته قد توفيت منذ أيام ؟
قال باندفاع بينما عقله يضج بالاضطراب :- أنا لم أعرف قط بأن لديه أما
أطلقت ضحكة قصيرة وهي تقول بتهكم مرير :- كالعادة .. لم تهتم بما فيه الكفاية للنظر إلى ماوراء أعز أصدقائك وقد عرفته معظم سنوات حياتك .. فلماذا ظننت بأنك ستهتم للنظر إلي أنا ؟
وقفت وهي تمسح دموعها براحة يدها كي ترحل .. فأمسك بمعصمها وهو يقول بتوتر :- أنا أنظر إليك الآن يا آية ..
قالت بفتور :- نعم .. بعد فوات الأوان للأسف
وقف يواجهها قائلا :- إن كان صلاح قد نجح في إيجاد طريقه نحو السعادة .. ألا تظنين بأنك كنت قادرة على إيجاد طريقك الخاص معي يا آية ؟
نظرت إليه طويلا دون أن تتكلم .. تركت حديثا طويلا يجري بين عينيها الزرقاوين المبللتين وعينيه القلقتين والضائعتين .حديث لم يعجبه على الإطلاق
قالت بهدوء وهي تحرر معصمها :- أظننا لن نعرف إجابة هذا السؤال أبدا .. صحيح ؟ .
وبهدوء شديد .. وكأن العاصفة التي هبت لتوها بينهما لم تحدث أبدا .. غادرت آية المكان .. وحياته إلى الأبد .