الفصل العشرون
وماذا بعد ؟لم تتوقف السيدة غيداء عن البكاء طوال الطريق من الفندق إلى البيت .. وهي جالسة على المقعد الأمامي إلى جانب منى التي تطوعت وأصرت على أن توصلها مع عادل رغم امتعاضه ..
كانت السيدة غيداء تتذكر بشوق مراحل نمو لندا المتعددة وهي تذرف الدموع .. وتمعن في وصف جمالها وتألقها هذه الليلة .. وتحمد الله على أنها قد تزوجت أخيرا برجل قادر على إسعادها .. بينما كانت منى ترد عليها بهمهمات لا معنى لها .. أما عادل .. فقد التزم الصمت تماما وهو يحدق عبر النافذة بشرود من مكانه على المقعد الخلفي .. غير واعي لنظرات منى إليه عبر مرآة السيارة .. وكأنها تحاول سبر أغواره ومعرفة ما يفكر به .. صعدت معهما إلى البيت ... وساعدت عمتها على التمدد فوق سريرها .. جلست معها لدقائق تستمع إلى تساؤلاتها القلقة عن ليلة الزفاف .. هل تظنينها ستكون بخير ؟ .. هل علي زيارتها في الصباح الباكر أم أن هذا سيزعج عريسها ؟ يبدو رجلا جيدا .. أليس كذلك ؟ البيت يبدو موحشا بدونها ..
بصعوبة أقنعتها منى بنسيان كل شيء والاستسلام للنوم .. تركتها منى مدركة بأن عمتها لن تنام حقا قبل فترة طويلة من التفكير في وحيدتها الغائبة .. أغلقت الباب ورائها بهدوء .. ثم نظرت إلى عادل الجالس على الأريكة .. وقد رمى سترته وربطة عنقه جانبا .. ودفن رأسه بين يديه بتعاسة آلمتها .. اقتربت منه وهي تقول مداعبة :- هل سأضطر لمواساتك أنت الآخر على فقدان صغيرتك ؟
رفع رأسه .. فجمدت مكانها وهي ترى عينيه البنيتين غارقتين في البؤس .. قال بصوت متهدج :- أنا نكرة .. أنا لا شيء .. ليتني مت في ذلك الحادث .. ليتني أنا من مات .. وهو من عاش
انتفضت منى وهي تضيع بين كلماته القاسية .. لم يسبق لها أن سمعته يتحدث بهذه الطريقة .. دائما كان يبدو متماسكا أمامها .. بعيدا وجافا .. صحيح أن لندا كانت تصارحها كثيرا عن نوبات حزنه العارضة هذه .. إلا أنها لم تتخيل أن تخترقها مشاهدة ألمه وكأن سكينا حادة تتلوى بين أضلعها .. قالت بصوت أجش :- لا تقل هذا
ضحك بمرارة :- لماذا ؟ .. ألا تظنين أمي تفكر أحيانا بهذه الطريقة .. أو حتى لندا .. في كل مرة يفتقدان فيها والدي .. حمايته وقوته ووجوده المطمئن .. كانا يتساءلان ضمنا إن كان الوضع سيكون أفضل لو أنني أنا من مات عوضا عنه
هتفت بغضب :- هذا غير صحيح
وقف ونار هائجة تتقد في عينيه .. وقال بثورة :- ما الذي أقدمه لهما ؟ .. أخبريني .. هاهي أختي بعد سنوات من الشقاء تتزوج برجل معروف بقسوته وجبروته .. وتاريخه الماجن دون أن أتمكن من الاعتراض .. وهاهي أمي تذوي أمام عيني .. دون أتمكن من تقديم الرعاية الأفضل لها ... لقد كنت بحاجة إلى إحسان رجل آخر كي أراها تحصل على ما تستحقه .. ما الهدف من وجودي إن كنت عاجزا عن حماية ورعاية عائلتي .. ليتني مت قبل أن ...
بتر كلامه مذهولا عندما ارتفعت يدها في لحظة تهور وهوت على وجنته السمراء بقوة ..
حدق في وجهها المتشنج بغضب .. غير مصدق لحقيقة ما حدث .. أن منى قد صفعته .. هدرت بغضب :- استيقظ .. استيقظ أيها الرجل الكئيب البائس .. الكون لا يدور حولك .. ذلك الحادث .. وموت والدك .. لم تكن أنت سببهما .. مرض والدتك وظروفكم السيئة لم تكن بسبب تخاذلك وكسلك .. زواج لندا حصل بإرادتها هي .. وهي فتاة ناضجة لها حق الاختيار ولم تكن قادرا على منعها من المضي قدما في هذا الزواج حتى لو حاولت .. لقد سئمت منك .. كلنا سئمنا من حاجتك الدائمة لتأكيدنا بأنك رجل رائع وغير مقصر .. بأننا بحاجة إليك وان وجودك يعني شيئا .. أتعلم .. أحيانا أتمنى حقا لو انك مت في ذلك الحادث .. على الأقل ما كنت اضطررت لتحمل مزاجك السوداوي الذي لا يطاق ..
صمت رهيب خيم عليهما .. تلون وجه عادل بالغضب .. وتوترت كل عضلاته تحت قميصه الناصع البياض .. عيناها انحدرتا تلقائيا نحو صدره العريض الذي أخذ يتحرك بتناغم مع عنف أنفاسه .. وجسدها ارتجف مرغما عندما لفحته تلك الطاقة البدائية التي لم يسبق لها أن أحستها منه .. وعندما عادت تنظر إلى عينيه لترى الخطر فيهما .. أدركت ما تفوهت به في غفلة غضبها .. اتسعت عيناها في إدراك مؤلم لما فعلته .. فهمست بعجز :- عادل .. انا لم ..
قاطعها قائلا بخفوت .. إنما بلهجة أثارت رعشة الخوف في أوصالها :- لما لا أمنحك سببا منطقيا تتمنين لأجله موتي حقا .. ؟
وقبل أن تدرك ما ينويه .. كانت يده قد امتدت نحوها وأمسكت بذراعها بخفة قط لم تعرف أنه يمتلكها ... وسرعان ما وجدت نفسها وقد سحبت بقوة لتسقط فوق صدره العريض ..
دوى صوت ارتطام عصاه الخشبية في الأرض وذراعيه الاثنتين تحيطان بها غير تاركين لها أي فرصة للفرار .. العجيب أنها وهي ترفع رأسها نحوه .. لم تكن تشعر بالخوف .. بل بالترقب .. واللهفة .. والإثارة
حتى عندما أحنى رأسه ليطبق فمه الغاضب فوق فمها بقسوة .. وعندما اشتدت يداه حولها .. وضغط جسده النحيل والقاسي على جسدها .. ارتعشت بقوة وقد هزها التلامس الحميم .. وأخذها عنف المشاعر الحارقة التي أثارتها قبلتهما الأولى .. أعرفك منذ الأزل .. وأحببتك معظم سنوات حياتي .. وأخيرا .. أخيرا أشعر بقلبك ينبض إزاء قلبي .. بأنفاسك تمتزج بأنفاسي .. بدفئك يغمر جسدي .. لو تعلم إلى أي حد أحبك .. وأشتاق إليك .. وأريدك ..
بلا تردد .. أو تفكير .. وكأنها تخشى أن تنتهي لحظة التقارب الحميم هذه بسرعة ... أحاطت عنقه بذراعيها .. وبادلته القبلة بأخرى أشد لهفة وشوقا .. أحست بجسده يرتجف بين يديها .. وبغضبه ينحسر على الفور .. وحاجة ملحة ومؤلمة تدفعه لان يقربها منه أكثر .. و أن يزيد قبلاته عنفا وعمقا .. تخللت يده شعرها .. وداعبت عنقها ووجنتها .. وتحركت شفتيه لتلثما كل خلية في وجهها .. بلهفة .. بيأس .. جعلت المشاعر القوية تسيطر على كل ذرة من كيانها .. وتفضح ضعفها الشديد نحوه .. متمثلة بالدموع الغزيرة التي فاضت من عينيها .. وسالت فوق وجنتيها ليشعر بمذاقها بين شفتيه .. رفع رأسه .. ونظر إلى وجهها .. إلى عينيها المغمضتين بقوة دون أن تنجح في إيقاف دموعها .. بأنامله المرتعشة .. حاول مسح الدموع وهو يهمس بصوت أجش :- لا تبكي .. لم أقصد أبدا أن أجعلك تبكين ..
أفلتت منها شهقة بكاء أجفلته .. فتحت عينيها السوداوين .. ونظرت إليه بألم ومرارة وهي تقول :- بل قصدت .. لقد أردت أن تبكيني .. أن تنتقم مني كما فعلت أول مرة قبل أربع سنوات .. وكأنك تكره حبي لك .. وتحاول نزعه من قلبي كما لو كان حملا ثقيلا لا تحتاج إليه ..
ابتعدت عنه وهي تحاول السيطرة على دموعها .. وعلى رعشة جسدها .. وهزت رأسها هاتفة بصوت خنقه الانفعال :- أحبك يا عادل .. لطالما أحببتك .. وسأبقى أحبك دائما .. فلا تقربني منك بهذه الطريقة إن كنت تنوي إبعادي مجددا .. لن أحتمل الأمر أكثر ... لن أستطيع .
مذهولا برؤية قناع القوة والتحدي يسقط .. وروح منى تتجلى بلا زيف أمام عينيه .. روحها المتمردة والصريحة والواضحة دائما .. والتي وقع في حبها منذ كانت طفلة صغيرة على أبواب الأنوثة .. عندما عرف يقينا بأنها ستكبر لتصبح أروع امرأة على الإطلاق
راقبها تلتقط حقيبتها .. وتندفع خارج الشقة ويدها تكتم شهقاتها العنيفة .. هتف صوت غاضب داخله ( إلحق بها أيها الأحمق ) .. إلا أن صوت العقل هتف بدوره ( ماذا لديك لتقدمه لها ) .. في النهاية .. وصدى صوت كعبيها الرفيعين يطقطق فوق الدرج نزولا من وراء الباب المغلق .. ألقى نفسه على الأريكة ... دون أن يصحو جسده بعد من الم قربها الشديد منه .. أو تهدأ خفقات قلبه .. ووجد نفسه يعود من جديد ليصارع نفسه .. ورغباته وأحلامه .. أمام واقعه المرير الرافض لتركه