الفصل الواحد والثلاثون

3.4K 68 2
                                    



الفصل الواحد والثلاثون
بين نارين

فتحت لندا عينيها فور أن شعرت بوجود صلاح معها في غرفة النوم .. رفعت رأسها عن وسادتها .. ونظرت إليه مشوشة الذهن وهو يخرج أغراضا من الخزانة .. ويضعها كيفما اتفق داخل حقيبة سفر صغيرة مفتوحة جانبا ..
فكرتين مرتا في عقلها تلك اللحظة .. الأولى أنها لم ترى صلاح منذ أوصلها بعد عودتهما من جنازة هشام .. أي منذ أكثر من 24 ساعة ... دون أي كلمة أو اتصال منه
والثانية أن صلاح يجمع أغراضه راحلا إلى مكان ما .. بعيدا عنها ..
هتفت بصوت ضعيف :- صلاح
أجفل لسماع صوتها .. استدار نحوها عابسا وهو يقول :- ظننتك نائمة
:- لقد كنت نائمة حتى الآن
دلك عنقه بإرهاق قائلا :- أنا آسف .. لم أنوي إيقاظك
اعتدلت جالسة وهي ترمق الحقيبة المفتوحة قائلة :- هل كنت تنوي الرحيل بحقيبتك هذه دون أن تودعني على الأقل ؟
قال بانزعاج :- بالتأكيد لا .. يجب أن أسافر صباح الغد إلى موسكو .. الأمر طارئ ويتطلب تواجدي هناك
ألقى أحد قمصانه بإهمال .. وبشيء من العنف داخل الحقيبة .. راقبته بحزن وهو يفرغ غضبه في الملابس التي كانت مكوية بدقة قبل أن يعذبها بهذه الطريقة .. أزاحت البطانية .. ونهضت من السرير متجهة نحوه بخفة .. وعندما كاد يلقي إحدى بذلاته الأنيقة دون اهتمام هي الأخرى .. أمسكت يده فجأة قائلة :- دعني أرتب الحقيبة لك
نظر إلى أصابعها الرقيقة ..و آثار النعاس في ملامحها الجميلة وشعرها الثائر .. وابتعد قائلا باقتضاب :- لست مضطرة لفعل هذا
تناولت البذلة منه و بدأت تطويها بترتيب قائلة بهدوء :- لا .. لست مضطرة لهذا
وكانت تعني ما تقول .. لقد جرحها صلاح في الآونة الأخيرة بطريقة آلمتها بشدة .. والله يعلم كم يذرف قلبها من الدموع .. بقدر ما تعاني .. بقدر ما تعرف بأن صلاح هو الآخر يعاني بطريقته ..
بقدر ما تكره سبب معاناته المتمثلة بامرأة أخرى .. بقدر ما يتمزق قلبها حزنا عليه ..
لقد كان مسافرا .. ولأجلها .. عرفت هذا منذ أخبرها بوجهته .. ولكن .. ماذا عنها هي ؟
راقبته وهو يجلس على طرف السرير ليخلع حذائه.. ولاحظت إرهاقه الشديد فقالت بهدوء :- تبدو في حالة سيئة للغاية .. لم لا تأخذ حماما سريعا .. ثم ترتاح قليلا قبل سفرك في الصباح .. أخمن أنك قضيت اليومين السابقين في مكتبك .. هل أخذت قسطا من النوم أثناء قتل نفسك بالعمل ؟
مرر يده على ذقنه الخشنة متأكدا من صحة كلامها .. ثم قال واجما :- نمت قليلا في المكتب ليلة الأمس ..
رغم تظاهرها بالهدوء .. ومخاطبتها له بطريقة عملية بحتة .. لم تستطع خداعه .. لاحظ ارتعاش يديها وهي ترتب بعض الملابس الداخلية في الحقيبة .. والطريقة التي كانت تطبق فيها فمها بقوة .. فقال بهدوء :- تعالي إلى هنا
رفعت عيتيها إليه فرأى الدموع الحبيسة فيهما .. ردد بحزم لطيف :- تعالي
تركت ما بيدها .. واقتربت منه ببطء وتردد دون أن تنظر إليه .. عندما أصبحت أمامه .. سحبها نحوه ونظر إلى وجهها الذي مال إلى الأسفل فاختبأ بين طيات شعرها الغزير ..
قال بتعب :- أتمنى لو لم أكن مضطرا للسفر .
أومأت برأسها صامتة .. فرفع يده إلى ذقنها ليجبرها على النظر إليه .. نظر إلى عينيها المبللتين .. وقال بصوت أجش :- أنت تصدقينني .. صحيح ؟
أطلقت شهقة قصيرة وهي تهمس مرتعشة :- لا
زفر بقوة وهو يسحبها نحوه .. ويسند رأسه على بطنها المسطح .. تجمدت مكانها .. تنظر إلى رأسه الداكن بألم .. تحركت يدها رغما عنها لتداعب شعره الكثيف الناعم .. وسالت دموعها مدرارا وهي تشهق هامسة :- لا تذهب
رفع رأسه إليها .. فكررت بانهيار :- لا تذهب .. أرجوك .. أحتاج إليك معي .. إلى جانبي .. بعدك عني يقتلني حتى وأنت بين ذراعي .. كيف وقارات تفصل بيننا ؟
جذبها لتسقط بين أحضانه .. ممسكا بمؤخرة عنقها .. دافنا وجهها المبتل بالدموع فوق كتفه .. تركها تبكي على حجره لفترة طويلة .. ضمها بقوة محتضنا جسدها الضعيف المرتعش .. متمنيا لو يتمكن من زرع الطمأنينة داخلها .. الكلمات لم تجد طريقها من خلال لسانه .. وكأن كل براعته في الكلام قد نضبت .. عرف بأنه مهما حكى فإنه لن يتمكن أبدا من شرح مشاعره لها .. من توضيح موقفه .. من تفسير تصرفاته .. لم يضطر صلاح يوما لتبرير نفسه أمام أي إنسان قبل الآن .. إلا أنه وأمام هذه الفتاة الصغيرة .. المزيج العجيب بين الطفولة والأنوثة .. أراد أن يحاول .. فلم يستطع ..
أبعدها قليلا فقط كي يحتوي فمها بين شفتيه .. ويعبر لها عن عواطفه بالطريقة الوحيدة التي يعرفها .. ولدهشته .. أحاطت عنقه بذرعيها .. وشدته إليها بيأس .. وكأنها تتوسله البقاء بطريقته .. الشوق الكبير بينهما جرفهما وقد مرت فترة طويلة منذ وصالهما الأخير .. حملها بين ذراعيه ليضعها فوق السرير العريض .. فكان لقائهما هذه المرة عنيفا ..ضاريا .. وكأن كل منهما كان يحاول نهش حب الآخر بالقوة ..
انتهت العاصفة ... وسكن الجسدان المتلاحمان ... خفقات قلبه المدوية فوق قلبها الصاخب .. عيناه تنظران إلى عينيها الذاهلتين .. أنفاسه اللاهثة تلفح وجها الملتهب ... للحظات .. ظلا على هذه الحالة ... وكأن أحدهما لا يعي ما حدث بينهما للتو .. حديث طويل دار بينهما .. همست لندا فجأة مترجمة إياه :- أنت تحبني ...
عاطفة جياشة ظللت عينيه الخضراوين .. وهو يقول بخشونة :- أنا أحبك ..
هزت رأسها والدموع تسيل غزيرة من عينيها .. وكأنها تأبى أن تصدقه .. فردد بصوت أجش :- أحبك .. أعشقك .. وأحتاج إليك .. وأتمنى ... أتمنى لو أنني لا أخذلك مرارا وتكرارا كما أفعل دائما ..
قالت بيأس :- إذن لا تفعل .. لا تذهب .. ابقى معي .. اثبت لي بأنك تحبني وابقى معي
همس بعذاب :- لا أستطيع
قالت باكية :- لا تستطيع لأنك مهما أحببتني ... سيبقى حبك لها أكبر .. مهما احتجتني ... ستحتاج إليها أكثر
قال بتعب :- لندا ....
دفعته عنها .. واستدارت مكومة في طرف السرير بعيدا عنه .. وهي تقول بألم :- لا تقل شيئا .. سئمت من التظاهر .. من هذه العبة التي كنا نلعبها أيام زواجنا الأولى .. عندما كنا ندعي السعادة أمام الناس فقط كي تثبت لها بأنك قد نسيتها .. حاولت الاتصال بك اليوم .. وعندما وجدت هاتفك مقفلا اتصلت بالمكتب .. وسكرتيرتك كانت سعيدة جدا بإخباري عن هوية ضيفتك .. انت حتى لم تنتظر مرور أشهر العدة قبل أن تلتقي بها بعيدا عن أعين الناس ..
قال بغضب هذه المرة :- لندا .. إياك أن ..
قاطعته بانهيار :- لا تقل شيئا .. لا تقل شيئا .. أرجوك .. وأنا سأفعل المثل .. قط لا تجرحني مجددا .. أتوسل إليك
أدارت له ظهرها .. فلم تر التعاسة التامة على وجه صلاح وهو ينظر إليها بألم .. لكم يتمنى أن يخبرها الحقيقة .. عن سبب تواجد أماني في مكتبه .. عن سبب سفره صباح الغد رغم حاجته الشديدة للبقاء معها .. كيف يشرح لها بأنه قد انتظر سنوات .. وسنوات .. هذه اللحظة .. وأنه أبدا لن يسمح لنفسه بأن يضيعها
مد يده يلامس شعرها الناعم المنثور فوق الوسادة .. وهو يتساءل بحزن .. كيف سأخبرها بأنني ذاهب في مهمة قد لا أعود منها ؟؟ .. ربما لم تمر أشهر على لقاءه الأول بلندا ..إلا أنه يعرف ايضا بأنها أكثر رقة من أن تحتمل قلقا كهذا .. أن تتساءل في كل لحظة خلال غيابه إن كان حيا أو ميتا .. هي ليست بقوة أماني .. وجلدة أماني .. هي شيء آخر .. شيء فريد وطاهر .. شيء ناعم يتغلغل بخفة داخل أعماقه أكثر فأكثر كلما طال وقتهما معا ..
تمدد بهدوء إلى جوارها .. وأحاط خصرها بذراعه جاذبا ظهرها إليه .. دافنا جهه بين طيات شعرها العطر .. فاستكانت بين ذراعيه .. بكائها استحال إلى شهقات متقطعة .. وهي تسمح له بضمها إليه .. ظلا على هذه الحالة طويلا .. حتى استغرقا في النوم .. كل يناجي الآخر .. في أعمق أعماقه

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن