الفصل التاسع

3.2K 66 0
                                    




الفصل التاسع
عائلتي .. ولكن

غارقة بين أوراقها .. وتحضيراتها لدروس الغد .. اقتربت الامتحانات .. وأمامها الكثير من المراجعات لتقوم بها مع طلابها ذوي الإثني عشر سنة ..
الجزء القيادي في شخصيتها .. والذي يميل دائما إلى العطاء .. هو ما دفعها يوما لاختيار مهنة التعليم .. عوضا عن دراسة الطب كما تمنى والدها .. بتمردها وإصرارها .. تحدت إرادته .. فوقف عاجزا وهو يخسر الإنسان الوحيد الذي كان يأمل بأن يستلم أعملاه من بعده .
تحب منى طلابها وطالباتها .. تسعد عندما تشرق أعينهم عند دخولها الصف كل صباح .. عندما تراقب أعينهم تتسع مذهولة أمام معلومة جديدة وغريبة تسكبها في آذانهم
تشعر بالحنان وهي تتأمل نضوجهم الذي يزداد يوما يعد يوم .. تشفق عليهم بعد كل توبيخ منها على زلاتهم البسيطة .. لقد كانت منى أما بالفطرة .. أمنيتها منذ الطفولة .. كانت أن تحمل بين ذراعيها طفلا لها .. من لحمها ودمها .. تحبه وترعاه .. وتخنقه بحنانها .. وعندما كبرت قليلا .. تطورت أمنيتها .. وترافقت الصورة الكبيرة مع خيال عادل واقفا إلى جانبها .. يساعدها في حمل الأطفال أثناء سيرهم في المنتزه .. يلعب الكرة مع ابنهما الصغير .. يجلس ابنتهما على حجره وهو يدللها بالطريقة التي كان يدلل بها لندا في طفولتها ..
أما الآن .. وقد بلغت السادسة والعشرين ... تشعر منى بأن أحلامها باتت أشبه بالسراب .. تراها من بعيد .. إلا أنها تعرف بأنها ليست حقيقية .. وأنها ستختفي فور أن تقترب منها .. وتلمسها بيدها
عادل ... تنهدت .. ورمت أوراقها جانبا .. وتمددت فوق سريرها .. نظرت إلى السقف بتعاسة متذكرة كل كلمة تبادلاها ذلك المساء .. عندما طلب منها صراحة أن تخرج من حياته إلى الأبد .. وهي رغم تجاهلها الدائم لنفوره منها .. وجفائه الشديد معها .. وجدت نفسها تصل إلى حالة من عدم الاحتمال جعلتها ترمي بكل صبرها بعيدا .. لقد طفح الكيل .. إلى متى ستبقى تجري خلف رجل لا يحبها .. الأصح .. رجل لا يريدها .. لأنها ما زالت تظن في قرارة نفسها بأنه يحمل نحوها مشاعر عميقة ... كتلك التي كانت تراها في عينيه في الماضي .. عندما كان يتلو على أسماعها قصائد الحب .. ويدس في حقيبة يدها باقة من أزهار الياسمين قطفها من شجرة كانت تطل على نافذة شقتهم القديمة ..
استيقظي يا منى .. الرجل الذي أحببته يوما فيما مضى لم يعد موجودا .. هذا الذي تأملين أن يصحو يوما فيتذكر حبه الضائع لك .. رجل آخر .. مشبع بالمرارة و الحزن .. لا يرى فيك إلا تذكيرا دائما له بخسارته
إلى متى ؟ .. ألم يحن الوقت لتسعي في طريقك الخاص ؟ .. أن تحققي حلمك الأكبر بالأمومة .. وتأسيس عائلة .. حتى لو خلا من أهم مقوماتها .. الرجل الذي تحبين ؟
بعد أعوام قليلة .. لن تجدي رجلا جيدا يقبل بالزواج بك ؟ .. قدرتك على الإنجاب .. ستقل مع الوقت .. إلى متى ستبقين في انتظاره ؟
اغرورقت عيناها بالدموع .. فأغمضتهما سامحة للعبرات بأن تنساب على وجنتيها ببطء .. وهي تتذكر الماضي .. طفولتها الجميلة البريئة .. السعادة التي كانت تجدها كلما ذهبت لزيارة منزل خالها برفقة والدتها .. لعبها الصاخب والضاحك مع لندا التي تصغرها بثلاث سنوات .. مداعبات عادل الأخوية .. عندما كان يحملهما بالتناوب .. ويدور بهما في غرفة الجلوس أمام ضحكات الأمهات ..
متى توقفت علاقتها بعادل عن أن تكون أخوية ؟ .. مع بلوغها الخامسة عشرة .. كانت قد نضجت كثيرا .. ازداد طولها نسبة لصغر حجم لندا المتأخرة النضوج .. استدار جسدها باكرا .. وفجأة ..لم يعد عادل يداعبها أو يقرصها كالعادة .. ابتعد قليلا كأي شاب جامعي منشغل برفاقه ودراسته .. أحست منى بالإهمال كلما ذهبت لزيارتهم دون أن تجده هناك .. وكلما كان هناك ثم استأذن مغادرا بعد دقائق على وصولهم .. وهي لم تكن من النوع المتساهل إن أحس بالغضب .. اقتحمت عليه غرفته ذات يوم .. لتجده منهمكا في الكتابة فوق مكتبه .. نظر إليها بدهشة عندما وقفت أمامه وهي تمسك خصرها النحيل بيديها .. وتنظر إليه بتحدي قائلة :- دخولك الجامعة .. لا .. يمنحك العذر لمعاملتنا وكأننا أقل شأنا منك .. في الواقع .. أنت تسدينا خدمة عندما تغادر دائما وتريحنا من غرورك الممل
حدق بها لثوان .. قبل أن يضحك بطريقة جعلت وجهها يحمر غيظا .. وبدلا من أن يقول شيئا مستفزا كما توقعت منه .. أشار إلى أوراقه قائلا برقة :- هل ترغبين بقراءة ما أكتبه ؟
رمشت بعينيها .. وقد أذهلتها مبادرته .. إلا أنها هزت رأسها موافقة بحماس .. ومنذ ذلك الوقت .. تطورت علاقتهما لتصبح صداقة .. فشيء آخر لم يعترف أحدهما به صراحة .. إلا أنهما كانا يقولانه بنظراتهما .. بابتساماتهما المتبادلة .. بالطريقة التي تتشابك بها أيديهما عندما يسيران معا كلما جاء لزيارتها في الكلية ..
الآن .. عندما تتذكر منى تلك الأيام بضبابية .. تفكر بأنها ربما لم تحدث حقا .. وأن الشخص الذي أحبته يوما .. لم يوجد أبدا .. فتنتابها نوبة اكتئاب نادرة .. وهي التي ترفض دائما الاستسلام لحالات الكآبة لإيمانها بعدم جدواها ..
ارتفعت طرقات الباب الحازمة .. فقالت بملل :- تفضل
الطارق .. لم يكن الخادمة تناديها لتناول العشاء مع باقي أفراد العائلة .كما توقعت .. اعتدلت جالسة عندما فتح والدها الباب .. الدكتور فوزي الأشقر .. ووقف بقامته الطويلة والمهيبة ينظر إليها بهدوء قائلا :- مساء الخير يا منى
تمتمت :- مساء الخير أبي
تحاشت النظر إليه .. إذ أنها كانت رافضة تماما لأن يشهد والدها تعاستها .. نظر إلى أوراقها المبعثرة على المنضدة المجاورة للسرير .. وغمغم :- تعملين ؟
هزت كتفيها قائلة بلا مبالاة :- قليلا ..
:- أي أنني لن أعطلك إن أخذت دقائق من وقتك
تحركت بضيق وهي تقول :- لا .. بالتأكيد لا
جمدت ملامحه وهو يقول ببرود :- أرى بأن مجرد تبادل الحديث مع والدك يثير امتعاضك يا منى .. أهذا ما انتهى عليه حالنا .. أصبحت تكرهين والدك
وقفت قائلة بانزعاج :- أنا لا أكرهك .. أنت تعرف بأنني أحبك .. أنا فقط ...
أكمل عنها بصرامة :- تختلفين معي في الرأي .. أعرف بأنك عنيدة يا منى .. وذلك لأنك تشبهينني أكثر مما ينبغي .. المشكلة هي أنك ترين اختلافنا مصدرا للعداء بيننا
قالت بحدة :- هذا غير صحيح
نظر إليها عبر عويناته الأنيقة .. وقال بهدوء :- حقا يا منى ؟ .. متى كانت آخر مرة دخلت إلى مكتبي .. وتبادلنا الحديث كالسابق .. منذ متى نعيش في بيت واحد كالغريبين بالكاد يوجه أحدنا الكلام للآخر ؟.. هل تذكرين متى كانت المرة الأخيرة التي أتيت فيها إلي لإخباري عن همومك ؟ ..
طأطأت برأسها وهي تغمغم بحزن :- أذكر ..
أتت إليه غاضبة قبل سنوات .. تشتم عادل بعد أن أقصاها عنه فور يقظته من غيبوبته .. تحدثت وتحدثت .. ثم أجهشت في البكاء .. لم يكن بحاجة لأن يسمعها منها ليعرف بحبها لذلك الشاب .. بطريقة ما .. تعاستها أسعدته .. فهو لم يستسغ عادل ابن حميه أبدا .. ليس لأنه كان شابا سيئا .. بالعكس .. لقد كان شابا طموحا وعالي الأخلاق .. إلا أن الدكتور فوزي كان يرى فيه دائما منافسا له على قلب ابنته .. التي توقفت فجأة عن اعتباره أعز أصدقاءها .. وبدأت بالابتعاد عنه .. مفضلة صحبة الشاب الوسيم الحالم ..
للأسف .. ابتعادها عن عادل لم يقربها إليه هو .. ابنته تباعدت فجأة وانزوت بنفسها عن الآخرين .. ولم يعد أحد يعرف بما تفكر .. ربما باستثناء صديقتها الصغيرة التي تبدو وكأنها لم تغادر مقاعد المدرسة بعد .. بنظراتها المذعورة وكأن أحدا سيلتهما في أي لحظة ..
ومع مرور الزمن .. عرف بأنها لم تنزع ابن خالها عن رأسها على الإطلاق .. خاصة مع إصرارها على ملازمة تلك العائلة كأحد أفرادها .. ورفضها القاطع لأي محاولة منه لتقديمها إلى أحد أطباءه المستعدين تماما للزواج بفتاة بمواصفاتها .. بل أنها ازدادت بعدا وكأنها قد وضعته في خانة أعدائها
قال لها بلطف :- ألن تخبريني على الأقل بما يحزنك الآن ؟ .. أم أن تلك الأيام التي كنت تلجئين فيها إلي قد ذهبت بلا عودة
ترقرقت دموعها فاقترب منها يحيطها بذراعيه .. فتمتمت وهي تدس وجهها في كتفه العريض :- ستبقى دائما ملجأي .. وملاذي .. أنت أبي وأقرب الناس إلي .. الأمر فقط
أبعدها لينظر إلى وجهها الشاحب .. والطريقة التي تعض بها على شفتيها بيأس فقال بهدوء :- أعرف بأنك ترفضين أن أفرض عليك أشخاصا لا تعرفينهم في محاولة مني للتقريب بينك وبين أحدهم .. أنت شخصية مستقلة وقوية .. وهذا ما أفتخر بك لأجله .. أنت الابن الذي لم أنجبه .. وإن كنت بجمال ورقة أروع أنثى .. أنا فقط أهتم لأمرك .. وأتمنى أن أراك مستقرة في بيت خاص بك مع عائلة جميلة تسعد شيخوختي .. أحلم بأحفاد يملئون هذا البيت .. ويزرعون الضحكات في زواياه الموحشة .. هل ما أطلبه كثير ؟
مسحت دموعها بأطراف أصابعها .. وفكرت بأسى بأن مطالبه ليست كثيرة .. بل تكاد تكون صدى لمطالبها هي .. رفع ذقنها بإصبعه لتواجه نظراته .. وقال :- هل سيكلفك كثيرا حديثك مع الدكتور حسان على الأقل ؟ .. ومجالسته أثناء زياراته بدون دفاعيتك المعتادة .. قد تجدين في النهاية أنه ليس بذلك السوء إن أزحت مخاوفك وأوهامك جانبا
عرفت ما قصده بأوهامها فأحست بالألم يمسك بقلبها .. فتمتمت :- لا
ابتسم .. وقبل وجنتها قائلا :- كنت أعرف بأنك عاقلة وذكية ..وأنك لن تخيبي أملي في النهاية ..
أبعدت وجهها كي لا يرى الألم الدفين في عينيها وسمحت له بأن يقبل جبينها قائلا :- والدتك تنتظرنا لتناول العشاء معها .. لم لا ننزل إليها معا .. سيفرحها هذا
أومأت برأسها .. وسارت معه إلى خارج الغرفة .. فسمعا معا صوت سامي وهو يصرخ بممرضته كالعادة رافضا تناول الطعام .. فلاحظت منى كيف تجمد وجه والدها .. و كيف تابع طريقه متظاهرا بأنه لا يسمع شيئا .. فوقفت قائلة بلطف :- ربما لو أخذناه معنا إلى غرفة الطعام .. لهدأ قليلا وتوقف عن المشاكسة وإرهاق رجاء
قال باقتضاب :- سيسبب الفوضى كالعادة .. من الأفضل أن يبقى في غرفته .. لن تحتمل أمك فقدان أي قطعة من تحفها الثمينة إن أصابته إحدى نوبات غضبه المفاجئة .
تغلغل الغضب داخلها من جديد .. فقالت بجفاف :- لتوافي أمي وسألحق بك بعد قليل .. سأتحدث إليه فهو يهدأ دائما إن أحس ببعض الاهتمام
بدون أي كلمة .. نزل والدها الدرج أمامها مما ضاعف استيائها .. والدها المحب للكمال لم يحتمل أبدا فكرة أن يكون ابنه الوحيد معاقا .. يحاول دائما إنكار هذه الحقيقة بتجاهل سامي وإخفاءه عن أعين الناس .. عجز والدتها عن إنجاب المزيد من الأبناء له .. كان الضربة لكبريائه وطموحاته ..
منى لم تكن تمانع الاصطدامات المتكررة بينها وبين والدها حول مستقبل أعمال العائلة .. كل ما تريده هو ترى منه المزيد من التقبل لرغباتها .. وشيئا من الحنان نحو سامي .. الذي لا تنفي إعاقته حاجته الكبيرة للإحساس بالحب والاهتمام ..
دخلت إلى غرفة سامي .. الذي كان يبعد وجهه عن الملعقة .. قبل أن يضربها بيده لتتناثر محتوياتها فوق وجه رجاء وملابسها .. أسرعت تقول لرجاء :- دعيني أطعمه بيدي ..
رحبت رجاء بالفكرة .. وأسرعت تمنحها مكانها وتغادر الغرفة .. نظر سامي إلى منى بعينيه الواسعتين وفمه مزموم بغضب .. فابتسمت له بحزن قائلة :- أعرف .. صدقني يا شقيق قلبي .. أفهم سجنك تماما .. فهو لا يختلف كثيرا عن سجني .. كلانا مكبلان بحب شخصين لا يريدان التواصل معنا
وكأنه فهمها .. بدأ يهدأ .. ويفتح فمه ليستقبل الطعام من يدها .. فأحست منى بأن هذا الفتى الصامت المعذب في صومعة إعاقته القاسية .. هو رفيق دربها ووحدتها .. وأكثر الناس فهما لها

مرت من هنا الجزء الثانى من سلسلة للعشق فصول لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن