الفصل الخامس والعشرون
أشباح قلب
تراجع صلاح على الفور خطوتين إلى الوراء مبتعدا عن المهد الصغير .. واستدار نحو أماني .. التي وقفت عند الباب المفتوح وقد تحفزت كل عضلة في جسدها استعدادا للانقضاض عليه إن أحست بإمكانية إقدامه على إيذاء صغيرها
أغضبته هذه الفكرة بشدة ..وجعلت قناع السخرية يرتديه من جديد وهو يقول :- توقفت عن تناول الأطفال كمقبلات قبل العشاء منذ فترة طويلة يا أماني .. لا خوف على ابنك مني
وكأنها لم تصدقه .. اندفعت نحو المهد لتحمل طفلها بين ذراعيها .. وتضمه إلى صدرها بقوة .. مما أذهل صلاح وهو ينظر إلى المشهد الرائع الماثل أمامه .. الطريقة التي كانت فيها أماني تبث الصغير حنانها وحبها بدون أن تبذل أي جهد .. بينما كان الصغير يتلقى مشاعرها وحمايتها بثقة .. وكأنهما شيئا مسلمان في حياته أدركهما رغم عمره القصير .. وهو يمد يده الصغيرة ليتلمس وجه أمه .. مستكشفا نعومة بشرتها
نظرات أماني نحو صلاح كانت تصرخ بالغضب والكراهية .. وقد ناقض هذا وبشكل كبير الرقة والحنان في احتضانها لابنها ..
مذهولا .. وصامتا .. لم يستطع صلاح حى أن يخرج من الغرفة .. مما جعله يجفل عندما هتفت أماني بحدة :- لن تستطيع خداعي يا صلاح .. مهما حدث .. ومهما مر من الزمن .. أنا أعرف بأنك لن تتوقف عن إيذائي ما دامت الفرصةمتاحة لك .. وأنا لن أسمح لك على الإطلاق بأن تمس أحد أفراد عائلتي .. لن تنجو مني إن حاولت .. أتفهمني ؟
انتزع نفسه من ذهوله على الفور .. ونظر إليها ببرود شديد قبل أن يقول :- ألست تمنحين نفسك حجما مبالغا به يا أماني ؟ .. لماذا بحق الله قد اهتم بك أوبأي فرد من عائلتك وقد تخليت منذ فترة طويلة عن كل صلة تربط بيننا ؟؟..
تقدم خطوة نحوها وقد سيطر تماما على اضطرابه .. وقال :- من الأفضل أن تنسي ذلك الهاجس المرضي .. وتدركي أخيرا بأن العالم لا يدور من حولك .. أنت يا أماني .. لا تعنين لي شيئا على الإطلاق ..
قالها بقسوة وهو ينظر إلى عينيها المضطربتين .. أطلق عمرو صيحة احتجاج عندما شدت بقبضتها عليه دون أن تشعر .. فأسرعت تضعه في مهده مقدرة بأنه سيكون أكثر أمانا داخله منه محمولا بين يديها المرتعشتين .. عندما تأكدت بأنه قد انشغل تماما بألعابه .. التفتت تواجه صلاح .. الذي بدا لها أقرب إلى ابن عمها المتنمر وهو يقف مشرفا عليها بعينين تحملان من الغضب .. بقدر ما تحملان من العنف .. ذكرت نفسها بشدة بأنها لم تعد أماني المضطهدة الخائفة .. و أنها قادرة على مواجهة صلاح وغيره بسهولة ما دامت متسلحة بحب عائلتها الجديدة .. وبكيانها الذي استقل أخيرا
رفعت رأسها تواجه نظراته بتحدي .. متجاهلة رجفة الضعف التي لطالما اجتاحتها في مواجهة صلاح .. قالت بقوة :- لن تخدعني يا صلاح ... أنت عنيد ومتكبر .. ومغرور ومريض .. لطالما حصلت على ما تريده بسهولة .. وأنت لن تنسى بالتأكيد بأنني كنت أول خسائر حياتك .. لن تنسى كما لن تسامح .. أعرف بأنك ستردها لي يوما ما .. أعرف هذا وأراه كما أراك أمامي الآن بالضبط .. فلا تظن بأن قناع اللامبالاة .. و مسرحية زواجك الزائف .. سيلهيني عن قصدك الحقيقي
ابتسم مستفزا وهو يقول :- هل أفهم من كلامك بأن زواجي قد أزعجك يا ابنة عمي الغالية ؟؟؟ إنني أتساءل حقا عن السبب .. فعلى حد علمي .. أنت لا تبالين بأي شيء يتعلق بي ما دمت بعيدا عن حياتك
صاحت بنزق وهي تبتعد عنه :- بحق الله يا صلاح .. أعرف بأنك قد تزوجت لندا بالذات كي توخزني وتنتقم مني .. كما سبق وخذلتك يوما وتزوجت بدون رضاك .. أعرف بأنك قد فعلت هذا فقط كي توهمني بأنك قد نسيت أمري .. حتى تتاج لك الفرصة فيما بعد لفعل ما تتوق لفعله منذ زمن
تعابير وجهه الجامدة لم تظهر أي شيء مما كان يفكر به وهو يقول ببرود :- وما الذي أتوق لفعله منذ زمن يا أماني ؟
نظرت إليه بتوتر بعد أن تأكدت بنظرة بأن الباب غير محكم الإغلاق .. وأن أي صرخة منها ستستدعي جميع الموجودين في المنزل .. وقالت :- أذيتي .. كما فعلت دائما .. تريد أن تراني ذليلة وتعسة .. كما تريد تحطيم هشام لأنك لم تسامحه يوما على إفساده لخططك .. تلك الليلة التي هاجمتني فيها بعد أن عرفت بزيف خطبتنا .. أبدا لن تمحى من ذاكرتي .. تلك الليلة رأيت وجهك الحقيقي يا صلاح .. صلاح الحقيقي القادر على فعل أي شيء لتحقيق مآربه .. حتى باستغلال فتاةمسكينة لا ذنب لها في سبيل هذا
تلاشى اللون من وجهه رغم احتفاظه بصلابةملامحه .. قال بصوت مخيف وهو يرمقها بنظرات أثارت داخلها الخوف ..:- هل أنا مخطئ .. أم أنك تتهمينني باستغلال لندا والزواج بها بهدف الوصول إليك ؟ لا أظنك مريضة بما يكفي كي تظني بأن رجلا مثلي قد يربط نفسه بفتاة لا تعجبه لأجل انتقام أجوف كالذي تتحدثين عنه ؟
رفعت صوتها بغضب قائلة:- أنا لا أتهمك يا صلاح .. أنا أعرف بأنها الحقيقة .. لقد أخبرتني جودي في زلة لسان بأنك لم تفكر بالزواج إلا بعد أن صارحتك بمخاوفي .. أنت لا تحب لندا .. وأبدا ما كنت لتتزوج بفتاة مثلها بدون هدف آخر .. وأنا أعرف بالضبط ماهو هدفك هذا .. هدفك هو الوصول إلي أنا ..
لم يشعر أي منهما بالشخص المتسمر خلف الباب المفتوح ... يستمع بذهول إلى الحديث المشحون بينهما .. أرادت لندا أن تنسحب منذ عرفت هوية المتحدثين عندما مرت بالصدفة أمام الباب في اتجاهها نحو الطابق السفلي .. لم ترغب بأن تستمع إلى مواجهة جديدة بين أماني وصلاح .. عرفت بأن فحوى حديثهما مهما كان فإنه سيجرحها ... إلا أن جزءا منها أراد
أن يعرف .. أن تتوقف عن التخبط في الظلام في لعبة تجهل قواعدها .. أرادت أن تعرف مدى ثبات الأرض التي تقف عليها وليتها لم تعرف .. لم تعد قادرة على سماع المزيد بعد أن هدرت أماني بعبارتها تلك .. لم تستطع حتى أن تسمع رد صلاح عليها .. لقد كان عقلها يضج بصخب ومئات الأفكار تدور داخله بلا توقف ..
أرادت أن تنسحب .. أن تهرب قبل أن يراها أحدهما .. أن تنجو بعارها فلا يرى أحدهم ألمها في وجهها الشاحب .. إلا أن صوتا صارما هدر خلفها بقسوة :- أظن العادات القديمة لا تموت بسهولة
استدارت مجفلة نحو هشام .. الذي ثبتها بنظراته القاسية .. وبدا على وشك أن يتابع جرحها بكلماته لولا أن لاحظ امتقاع وجهها والدموع الحبيسة في عينيها .. وهنا .. عرف هشام كل شيء .. بنضجه وخبرته في التعامل مع الآخرين .. أدرك بأن هذه الفتاة ليست حقا سيئة .. لقد كانت ومازالت مجرد بيدق في إحدى ألاعيب صلاح الكثيرة .. عرف بأنها ضحية من ضحايا شخص لم يعرف يوما الرحمة أو الانسانية .. نظر إلى الباب الموارب .. وميز الأصوات القادمة منه .. فقال بهدوء :- أظن من يسمع ما لا يعنيه .. يلقى في النهاية ما لا يرضيه .. صحيح ؟
في تلك اللحظة بالذات .. فتح الباب بعنف ليظهر صلاح من وراءه .. مظلم الوجه .. الغضب البارد يطغى على نظراته وملامحه .. ويفوح من كل جز منه .. نظر إلى لندا الذاهلة والمصدومة .. ثم إلى هشام البارد .. والهادئ .. والواثق دائما من نفسه .. ثم قال بخشونة مخاطبا لندا :- هيا بنا .. سنغادر
أمسك بمرفقها دون أن ينتظر منها ردا .. ثم سحبها خلفه تاركا هشام .. الذي تجاوز الباب بنظراته نحو أماني .. عرف بأنها لن تكون إلا بخير .. فهي أكثر من قادرة على مواجهة صلاح .. إلا أنه وجدها منكمشة على نفسها .. تحيط نفسها بذراعيها وقد بدا عليها الحزن العميق ..
لم يكن بحاجة لسؤالها ليدرك ما تعانيه أماني .. كان يفهمها أكثر من نفسها .. ويدرك ما تحاول جاهدة إنكاره .. رفعت رأسها تواجهه بنظراتها .. وللحظات طويلة ... لم يوجه أحدهما أي كلمة اتجاه الآخر ..