الفصل الأول
بالكاد كان يستمع إلى كلماتها وهو يراقبها شاردا .. يتأمل كل ما في ملامحها من كمال .. عينيها الزيتونيتين الغارقتين بالارتباك وتانيب الضمير .. أنفها الدقيق وفمها الناعم .. شعرها الكستنائي الكثيف المنسدل فوق كتفيها برقة .. أناقتها البسيطة التي كانت تشير وبدون أدنى جهد منها إلى جذور نبيلة .. لقد كانت المرأة الكاملة .. أو هكذا ظنها على الأقل عندما رآها أول مرة وسقط صريع هواها .. و هل أحبها حقا ؟؟ أم وجد فيها الشريكة الأمثل لرجل صعب المراس .. انتقائي جدا مثله ؟؟ ..
لطالما أراد الأفضل .. ورجل مثله لا يستحق سوى الأفضل .. لم يكن مغرورا .. لقد كان يعرف قيمة نفسه فحسب .. إنه طارق منصور ... الابن الذكر الوحيد لخالد منصور رجل الأعمال الثري جدا والمعروف .. الوريث لشركات لا تعد ولا تحصى ورثها والده بدوره عن أبيه ومن قبله جده ..
لقد كان طارق منصور .. رجل يحسده الرجال .. وترغب في الاقتران به الفتيات .. في السادسة والعشرين من عمره فحسب .. إنما كان يعرف بالضبط ما يريد منذ حداثته .. سيخلف والده في إدارة أعمال العائلة .. سيتزوج بالمرأة الكاملة المناسبة له .. سينجب لوالدته الأحفاد الذين تتوق إليهم .. كل ما في حياته كان مدروسا .. مخططا له بدقة .. باستثناء هذه اللحظة
نظر إلى خطيبته ... لا ... بل خطيبته السابقة وهي توضح له مرتبكة رغبتها في فسخ الخطوبة .. لم يكن حوارهما هذا مفاجئا .. فقد كان ينتظره منذ أشهر .. يترقبه ويستعد له .. فطارق رغم كل شيء لم يكن غبيا .. وهو قادر على إدراك توقف خطيبته المفاجيء عن حبه .. إن كانت قد أحبته يوما .. وعلى ملاحظة العلامات الدالة على هذا .. الشرود الدائم .. الإضطراب .. الشحوب والقلق .. الذنب المطل من عينيها كلما نظرت إلى عينيه ..
راقبها بدون تعبير دون أن يرى أبعد من الفتاة الجميلة المفعمة بالحياة التي قابلها قبل عام في حفل زفاف عائلي وأدرك منذ النظرة الأولى بأنها هي .. هي المرأة التي لم يدرك أنه يبحث عنها حتى رآها .. التي لم يكن يفكر حتى بالزواج رغم إلحاح والدته منذ تخرجه على زواجه وإنجابه ورثة لاسم العائلة .. حتى وجدها ..
عندما رآها أدرك على الفور بأنها هي الأجدر به .. ومن أجدر من جودي النجار بحمل اسمه و إنجاب أطفاله .. ابنة محمود النجار .. قطب الصناعة المعروف .. الذي قدر له أن يتوفى بعد أشهر قليلة من خطبتهما .. وكأن وفاته قد كانت نقطة التحول في علاقتهما فكانت بداية لنهايتها ..
انتظرت ردة فعله بارتباك .. فأدرك بأن أي رجل حامي الدماء كان لينفجر سخطا وغضبا وخطيبته ترمي خاتمه في وجهه دون أن تمنحه سببا واحدا لفسخها الخطوبة .. سألها ببرود رغم علمه بالإجابة عن سؤاله مسبقا :- هل لي بأن أعرف السبب ؟؟
أجفلها بروده .. إلا أنها وكما توقع .. منحته إجابة ركيكة حول عدم حبها له واستحقاقه لمن هي أفضل .. نفاقها كان ما أيقظ غضبه الدفين .. و حطم أخيرا جدار البرود الذي حرص منذ بداية اللقاء على حجب نفسه وراءه وهو يقول بصرامة :- سأكون ممتنا لو توقفت عن اختلاق الأعذار .. وكنت صريحة معي بما يكفي لإخباري عن الرجل الذي قلب كيانك وغيرك منذ أشهر ثم دفعك أخيرا لفسخ الخطوبة
لم يكن ينوي أن يكون فظا إلى هذا الحد .. إلا أن رؤية الدماء وهي تنسحب من وجهها الجميل تاركة إياه شاحبا كلون قميصها الأبيض الأنيق أرضت الجانب السادي الذي لم يعرف قط بوجوده داخله .. ودفعته لمتابعة هجومه ساخرا :- لقد كنت أراقب ولأشهر التغير التدريجي في تصرفاتك .. عزوت الامر في البداية إلى صدمتك بوفاة أبيك .. ثم إلى قلقك على شقيقتك .. إلا أنني مع الوقت أدركت الحقيقة المرة .. بأنك قد توقفت ببساطة عن حبي .. أو الاهتمام بأمري .. وبما أنني لم أتغير على الإطلاق خلال الأشهر السابقة أو أقوم بأي شيء قد يغيرك نحوي .. فقد كان من السهل علي أن أستنتج الحقيقة .. أن رجلا آخر قد دخل المعادلة ..... وأخرجني منها ..
الألم في عينيها الخضراوين كان ممزوجا بالعار والندم .. جزء منه قدر مشاعرها .. قدر إحساسها العميق باحتقار النفس وقد خذلته في تصرف لم تكن مفطورة عليه .. الخيانة
إلا أنه لم يرحمها .. إذ أن أحساسا قويا بالغضب بدأ يجتاحه .. محطما كل القيود التي كان دائما قادرا على تكبيل أعصابه بها .. لقد كان في هذه اللحظة رجلا آخر .. مختلفا عن طارق .. الشاب الثري ابن الحسب والنسب .. المهذب والنبيل .. الذي اعتاد منذ حداثته على السيطرة على نفسه ليسمو بها عن الآخرين من حوله .. لقد كان رجلا مجروحا .. مطعونا في ظهره .. رغم غضبه الكبير .. إلا أن دهشة اعترته وهو يدرك بأن كرامته وكبرياءه كانا ضحايا فعلة جودي به .. لا قلبه ..
:- كان علي الانتظار فقط .. المراقبة والانتظار .. لأرى إن كنت ستخبرينني قط بالحقيقة .. أم أنك ستتابعين استغفالي والمضي قدما في مهزلة الزواج القادم ... على الأقل .. انت تمتلكين ما يكفي من الاحترام لنفسك كي ترفضي الزواج برجل .. بينما يخونه قلبك مع رجل آخر
ليس قلبك فحسب .. ذكر نفسه وقبضة من الألم تعتصر صدره بالليلة التي طلبت فيها منه أن يقبلها ... لقد كانت لحظة عرف الحقيقة .. لحظة انهيار كل شيء .. كل شيء
أثارت الدموع التي فاضت من عينيها حفيظته عندما قالت بصوت أجش :- طارق .. أنا آسفة
هب واقفا .. عاجزا عن تحمل المزيد .. عاجزا عن البقاء في منزلها لحظة واحدة أكثر مما ينبغي .. وقال بجفاف :- احتفظي باعتذارك لنفسك جودي .. فأنا لست في حاجة إليه .. ونعم .. لقد كنت على حق في أمر واحد .. أنا أستحق أخرى أفضل منك بالتأكيد
بدون أن ينتظر منها ردا .. غادر المكان .. بعجلة واندفاع لم يتصف بهما قط ... أخرى .. وهل أجد أخرى بكمال جودي النجار يوما ؟؟
إلا أن جودي النجار لم تكن كاملة كما سبق وحسبها .. أم تراها كانت كذلك ... وكان هو أقل من أن يتمكن من الاحتفاظ بامراة مثلها ؟
أكان مخدوعا بنفسه .. بعائلته وحسبه ونسبه ... بأموال عائلته التي لا تعد ولا تحصى .. بمظهره الخارجي المثالي ... بحيث لا يرى ما رأته جودي ودفعها نحو رجل آخر ؟
اعتراه إحساس عارم بالفشل ... إحساس بالنقص أثار خوفه وهو يستقل سيارته الفارهة .. ويلقي نظرة عابرة على انعكاس صورته في مرآتها الجانبية .. فهاله ما رآه ..
لقد رأى الفراغ ... الفراغ التام ...
أبعد عينيه عن صورة وجهه وهو يتنفس بصعوبة .. أدار المحرك لينطلق بالسيارة هاربا ... مدركا بأن جودي التي فشلت في تحطيم قلبه ... قد نجحت بالتأكيد في وصم روحه بذاك الفراغ .. فراغ يدرك يقينا بأنه سيلزمه لفترة طويلة .. إن لم يقدر له بأن يوصمه إلى الأبد
أنت تقرأ
تبكيكِ أوراقُ الخريف(الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء الرابع من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للمبدعة blue me